سر حذف الياء في الرسم القرآني (الياء الأصلية )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الياء تفيد "التحول" وإلغاء التحول يفيد دوام الشيء واستمراره
كما يظهر استعمالها في لوحة معاني الحروف الهجائية،
وحذفها يفيد إلغاء التحول؛ وإلغاء التحول يفيد دوام الشيء واستمراره.
وقد تبين من جميع المواضع التي حذفت فيها الياء؛
أن حذفها بني على موافقة رسم الكلمة لواقع الاستمرار
والدوام الذي دل عليه الحذف.
الياء التي حذفت في الرسم القرآني ستة أنواع؛
النوع الأول : الياء الأصلية.
وهي التي تقع لامًا للكلمة، وتجيء ثالثة ، وتكون أصلية؛ مثل: الداعي ، الجواري، يؤتي ، يغني ،
وحكمها أنها تحذف في سبعة أفعال، وثلاثة عشر اسمًا.
الأفعال السبعة التي حذفت فيها الياء
الفعل الأول: يُؤْتِ
في قوله تعالى: (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(146) النساء.
حذفت ياء يؤتي في هذا الموضع الوحيد؛ لأن عطاء الله تعالى للمؤمنين في الآخرة عطاء دائم، لا ينتهي ولا ينفد.
أما إثباتها في قوله تعالى: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) الليل.
فلأجل أن المزكي يتزكي إذا ملك المال، ويخرج الزكاة إذا ملك نصاب الزكاة، وتحقق فيه الشروط الشرعية، وإذا لم يكن له مال فلا زكاة عليه، فإخراج الزكاة لا يتصف بالدوام.
وأما إثباتها في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاـهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247) البقرة.
فلأجل أن إتيان المُلْك من عطاء الله في الدنيا، وقابل لأن ينزع منه، أو الموت عنه.
أما إثباتها في قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا(269) البقرة؛
فلأجل أن إتيان الحكمة من الأمور التي يصلح الله بها عباده في الدنيا، ولا حاجة لهم بها في الآخرة.
وغير ذلك فهي محذوفة بسبب الجزم؛ مثل: (وَءَاتَـاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَـالَمِينَ(20) المائدة.
الفعل الثاني: يَأْتِ
في قوله تعالى: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ(104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) هود.
حذفت ياء يأتي في هذا الموضع الوحيد؛ لأن اليوم الآخر إذا جاء لا يرد ولا ينتهي؛ فمن شقي شقي شقاءً دائماً، ومن سعد سعد سعادة دائمة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105) هود.
وأما إثباتها في قوله تعالى: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـاـلِمِينَ(258) البقرة.
فلأن الإتيان بالشمس من المشرق يتكرر وينتهي بالمغيب كل يوم، ثم يؤتى بها من المغرب كعلامة كبرى لمجيء الساعة، ونهاية الحياة الدنيا، فلا استمرار لإتيانها من المشرق، ويوم القيامة تكور وينتهي إشراقها.
أما إثباتها في قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ ءامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خلالٌ(31) إبراهيم.
فلأجل أن العمل ينقطع في الآخرة؛ (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلالٌ)، فجاء التحذير لإقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله قبل مجيء ذلك اليوم. فلا استمرار للإنسان فيه لكسب ما يدفع الضرر عن نفسه.
الفعل الثالث : يسر
في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4) الفجر.
يقسم الله تعالى بالليل إذا ذهب وسار، وأي الليل الذي أقسم الله تعالى به ؟
أهو ليل الأيام؟ أم ليل آخر أيام الدنيا؟
فالليل في أيام الدنيا يذهب ويعود، وأما يوم القيامة فيذهب بلا عودة؛ فلا ليل يأتي على أصحاب الجنة، ولا نوم فيها عن نعيمها، ولا ليل يأتي على أصحاب النار، ولا راحة لهم من عذابها.
والليل الذي المقسم به هو الذاهب من غير عودة، وذلك يوم القيامة، وهذا حدث عظيم، والقسم به هو قسم بنفس يوم القيامة؛ لأنه حدث من أحداث الله العظام، أما ليل الأيام فيتكرر بالذهاب والعودة.
الفعل الرابع : ننج
في قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ(103) يونس
حذفت ياء ننجي الثانية لأن هذا الإنجاء هو من فعل لله، وصفته الدائمة في إنجاء المؤمنين لقوله سبحانه وتعالى: (كذلك حَقًّا عَلَيْنَا) فلم يقيد الإنجاء بحدث أو بالدنيا، فهو يشمل الإنجاء في الآخرة أيضًا.
أما إثباتها في الموضع الأول من الآية فلأجل أن هذا الإنجاء يكون عند إهلاك الله الأمم المكذبة لرسلها.
وأما إثباتها في قوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72) مريم
فلأجل أن هذا الإنجاء يقع في حدث محدود؛ عند المرور على الصراط إلى الجنة.
وأما إثباتها في قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) الأنبياء
فلأجل أن الله تعالى يفعل في إنجاء المؤمنين بإخراجهم مما يحيط بهم من الكرب؛ كما أنجى يونس عليه السلام بإخراجه من بطن الحوت.
وهذا الموضع ليس كالموضع الذي حذفت فيه الياء في الآية الأولى؛ لأنه أطلق القول فيها بالاتصاف بما أوجب على نفسه، ولم يقيده بالحدث. وكانت سبل نجاة الرسل عديدة، وقيده في هذه الآية بربطه بما حدث ليونس عليه السلام.
الفعل الخامس : تغن
في قوله تعالى: (حِكْمَةٌ بَـالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5) القمر.
حذفت ياء تغني لأجل أن فيها نفيًا دائمًا لنفع النذر، فهم معرضون عن كل آية تأتيهم؛ ومتبعون أهواءهم بعد مجيء ما يزجرهم، فقد جاء قبلها؛ (وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
(4) القمر
وأما حذفها أيضًا في قوله تعالى: (ءَأََتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ ءالِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَـاـعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ (23) يس.
لأن فيها نفيًا دائمًا لنفع شفاعة ما أشركوا به من آلهة مزعومة.
أما إثباتها في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَـاـوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَـاـعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26) النجم.
فللاستثناء الوارد (إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، فلم يكن النفي ساريًا على الجميع.
وأما إثباتها في قوله تعالى: (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَـاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ(101) يونس.
فلأجل أن طلب النظر إلى آيات السموات والأرض كان عامًا، والمبلغ لهذا الطلب هو النبي صلى الله عليه وسلم، فأغنت من آمن بها، ولم تغن من لم يؤمن بها، ثم تحول من بقي من المبلغين إلى الإيمان بعد الفتح.
وما بقي من مواضع الحذف فبسبب الجزم كما في قوله تعالى: (فَجَعَلْنَـاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ (24) يونس.
الفعل السادس : يناد
في قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(41) ق.
حذفت الياء في نداء المنادي في الآخرة ليقوم الناس أحياء بعد أن كانوا أمواتًا، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ(42) ق، فكان النداء لحياة لا موت بعدها، واستمرار لا توقف له.
أما إثباتها في قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَـانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) آل عمران.
فلأجل أن النداء إلى الإيمان خاص في الحياة الدنيا، ولأن هذا النداء يتوقف عند حصول الاستجابة من المنادى إليه، فأثبتت الياء لانقطاع استمرارية النداء، أو التحول عنه.
الفعل السابع : نبغ
في قوله تعالى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا(64) الكهف
حذفت ياء نبغي في قول موسى عليه السلام؛ لأن فقدان الحوت هو العلامة الموصلة إلى الرجل الصالح؛ لينطلق معه متعلمًا منه مما علمه الله، ولأن لقاء الرجل الصالح ليس هو نهاية البغية؛ بل هو بداية الاستمرار في المصاحبة، فلأجل ذلك كان حذف الياء.
أما إثبات الياء في قول أخوة يوسف؛ (قَالُوا يَـاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَـاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا (65) يوسف.
فلأجل أن بغية أخوة يوسف انتهت بالحصول على بضاعة يبادلونها في مصر، فلما وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم؛ قالوا قولهم هذا، وفي التفسير قالوا لأبيهم : ما نبغي منك شيئاً لقد وجدنا بضاعتنا ردت إلينا، وافتقارهم إلى البضاعة بان في تعليل يوسف عليه السلام لردها عليهم؛ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(62) يوسف.
وكذلك وصفهم لسوء حالهم وبضاعتهم وطلب التصدق عليهم؛ (قَالُوا يَـاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَـعَةٍ مُزْجَـاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88) يوسف.
الفعل الثامن: يقص
في قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَـاصِلِينَ(57) الأنعام.
ذكر هذا الفعل زيادة عن الأفعال السبعة لوجود قراءة أخرى له؛ وقد حذفت الياء على قراءة من قرأ (يَقْضِ) بدلاً من (يقصُّ)؛ لأن حذفها يجعل الرسم صالحاً للقراءتين معاً ... هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقضي بالحق دائمًا، ولهذا المعنى يصلح حذف ياء يقضي أيضاً،
ولو لم يقرأ إلا بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
منقول للفائدة