أفتتح متحف “التيت مودرن” في لندن يوم 14 أبريل واحدا من اكبر المعارض، وأهمها للفنان الكاتالاني- الاسباني “جوان ميرو” 1893-1983، ويضم أكثر من 160 عملا فنيا من لوحات زيتية وطبع كرافيكي ونحت، وتخطيطات، ويعتبر من أهمها على الاطلاق، وأهميته تكمن في أبراز التزام الفنان إزاء الوضع السياسي والاجتماعي، لذالك لانستغرب تاريخ موعد افتتاحه، في 14 ابريل وهو يوم الذكرى الثمانين لاعلان “الجمهورية الاسبانية الثانية” وسينتهي بعرضه في مدينة برشلونة في 11 سبتمبر، وهو يوم العيد الوطني لاقليم “كاتالونيا” ذي الحكم الذاتي، وفي بداية 2012 سينتقل الى الولايات المتحدة ليقام في “الناشنال غاليري” في واشنطن، ليصير من المعارض التي تمثل فرصة فريدة لمحبي الفنان ودارسيه في مشاهدته، والاطلاع على تطور اسلوبه وتكنيكه خلال عدة عقود، واختيرت الاعمال للتركيز على ثلاثة مراحل من حياته الفنية الغنية في العطاء.
وتراكم هذا العدد الهائل من إبداعه في هذا المعرض هو نتيجة لجهد مرير ورائع لمسؤولي “التيت مودرن” و“مؤسسة جوان ميرو” في برشلونة وثم مساهمة “الناشينال غاليري“ في واشنطن، حيث تعود ملكية الاعمال هذه الى المؤسسات الثلاثة، بجانب الاستعارات من المجموعات الشخصية من كل انحاء العالم.
وبصراحة اثار أعجابي قيام هذه المؤسسات التي بطبيعتها عادة ما تكون محافظة نشاطا مهما، يمكن تسميته “تقدميا” في طرح موضوع التزام الفنان بالقضية الانسانية، وبقضيته الحاصة، فهو عاش كل حروب القرن الماضي، من الحرب الاولى الى الحرب الاهلية الاسبانية، ثم الحرب العظمى، وكان كما عصفورا تتلف شجرة عشه ليطير غصن أخرى، فهو انتقل من برشلونة الى “باريس” وبعدها الى “نورمانديا” بعد أحتلال هذه من قبل القوات النازية، ليعود في النهاية الى جزيرة امه “مايوركا” مستقرا و صامتا أثناء الحكم الفاشي الفرانكوي، الذي فرض عليه عزلة قاسية، ولكن علاقته مع الخارج لم تنقطع ابدا، فهو كان من أبرز رموز الفن الحديث على مدى القرن الماضي، ففي بداية الاربعينات، وبعد احتلال باريس هرب الى شمال فرنسا، وبعد احتلال هذه تماما، لم يجد حلا غير ان يعو الى جزيرة امه المتوسطية، باختيار طوعي، ومختلفا مع العديد من رفاقه السورياليين، الذين أختار معظمهم “نيويورك” كملجأ، ليعود الى شغله الفني بصمت، وتحت مراقبة صارمة من قبل أزلام الجنرال “فرانكو” الذي لم يغفر له أبدا أصطفافه مع قضية الجمهورية الاسبانية الديموقراطية، اثناء اقامته في باريس، ودفاعه عن شرعيتها ضد الانقلاب، ولم يغفر له لوحته
الشهيرة “ساعدو اسبانيا” 1937 والتي فيها يرسم الفنان فلاحا اسبانيا، رافعا ذراعا ثقيلا محكم القبضة، وهذه اللوحة في ذالك الحين صارت واحدة من الرموز التأريخية ضد الفاشية حيث نشرت في معظم صحف العالم، والجنرال لم يستطع معه شيئا بسبب شهرته العالمية، فتركه في جزيرة “مايوركا” معزولا، ورغم ذالك لم يترك لحظة واحدة في حياته في النشاط الابداعي.
كما ذكرت سابقا، للمعرض مغزى سياسي، وعادل، يبطل كل الشائعات حول غموض عودته الى أسبانيا الفاشية، فهو لم يساوم النظام على الاطلاق، ولم يلتق أيا من “مثقفي” الفاشية كما فعل “سلفادور دالي“ مثلا، و“بيكاسو” بقى في باريس تحت الاحتلال الالماني واعيا عدم تجرؤ النازيين التعرض له بسبب كونه “أيقونة” الفن الحديث وذا شهرة عالمية.
في هذا المعرض، يبذل “التيت مودرن” جهدا بالغا في أبراز التزام الفنان، وارتباطه مع وضعه الاجتماعي، من خلال أبراز واحدة من اللوحات التي أثارت الكثير من الجدل قبل وفاة الجنرال “فرانكو” بسنتين، وهي لوحة ثلاثية “تريبتكو” كبيرة الحجم عنونها الفنان “أمل المدان بالاعدام” 1973 وهو في عمر الثمانين، قد انفعل كثيرا بعد إعدام الشاب الفوضوي “سلفادور أنتيك” بطريقة وحشية ومؤلمة، وهذا لم يكن آخر من أعدمه فرانكو، ولكن طريقة الاعدام هذه كانت من آخر وسائل التعذيب منذ القرون الوسطى، ف “سلفادور” هذا أعدم بشكل مؤلم من خلال تطبيق قضيبا معدنيا كـ“برغي” ضخم يطبق على عنق المتهم من الخلف بإدارته يمينا يدخل العنق ببطء ليموت بشكل أبطأ، وهذا كان واحدا من أجهزة التعذيب الذي أخترعته الكنيسة الكاثوليكية ابن “محاكم التفتيش” الرهيبة بعد سقوط “غرناطة” وتألق القس الشرير “توركيمادا” الذي قام بدور بشع في قمعه العرب واليهود على حد سواء.
هذه اللوحة وضعت في واحدة من الصالتين التي تحتوي المعرض محاط بالعديد من أعمال الفنان وكأنها تصلي أمام هذا العمل الثلاثي التجريدي المثير للشجن،
في ذكرى القرار المشين، وهذه هي المرة الاولى التي يخرج فيها هذا العمل من أسبانيا بجانب أكثر من 80 عملا فنيا تغطي أكثر من 6 عقود من الابداع فيها كان الفنان حريصا على أسلوبه، وتكنيكه بعيدا عن الدوغمائية، والخطابية ليضعنا أمام مشاهد الحروب، والقسوة والشر.
الفنان الكاتالاني يستلهم مواضيعه من الذاكرة و من “اللاوعي” او الوعي التحتي بفنطازية جميلة، وخيال مذهل، وكلها تعتبر من اروع أعماله الفنية على طول القرن العشرين.
ولان المعرض يغطي ويلخص تجربته التشكيلية في كل حياته الفنية، نلاحظ تطور أسلوبه من العشرينيات حيث بدت لوحاته متميزة بألتماع الوانها و تأثيرات من “الفاويزم” ومن جداريات “الفريسكو” من الروماني- الكاتالاني المنتشرة في كل زوايا هذا الاقليم.
في 1920 ينتقل الى “باريس باحثا عن بطل أحلامه الفنية “بابلو بيكاسو” ومواطنه الشهير ليحتضنه هذا في مشغله في الفترة الاولى ويقدمه الى “الحركة السوريالية” لانه أكتشف في أعماله مترادفا لشغل هذه الحركة، وهذه رحبت به بحماس من شعراء، وكتاب، ورسامين، وقام هو بتصميم اغلفة كتبهم وأشعارهم وملصقاتهم، و“بيكاسو” ساعده ماديا بشكل غير مباشر مقتنيا العديد من لوحاته التي جلبها معه من “برشلونة” وكان “ميرو” واحدا من الموقعين على “المانيفيستو السوريالي” 1924 لانه وجد في هذه الحركة المساحة التطبيقية المناسبة لابداعه، فهو قبل معرفته بها لانه كان قرويا من عمق الريف
الكاتالاني، كان قد طبقها منذ اول بداياته، في أعمال تصور قريته “مونت روج” الواقعة جنوب برشلونة من فلاحين، وعناصر طبيعية بطريقة بالغة في “الحلمية” وفطريا هو وجد نفسه رساما غريبا يستخدم “اللاوعي” كعنصر أول في أدائه الفني، في حرية غير متناهية، يمكننا القول ان دربه التقى طريق “السورياليين” بشكل صدفوي ليندمج معهم بحماس رغم أنه كان من أقلهم حركة وحديثا، فهو كان كما طفل هادئ وحتى في شكله كان يبدو هكذا، والحركة وجدت فيه عنصرا جديدا واساسيا، قال “ابولينير” في مناسبة “جوان ميرو، هو من أكثر السورياليين سوريالية” ورغم ذالك لم تفارقه تأثيرات “بيكاسو” الذي سيقترب لاحقا من الحركة بتاثير من ميرو، الى تعرفه على “بول كلي” ليغني هذا الأخير أسلوبه، خصوصا في الانشاء التخطيطي الدائري، والمنحني الذي أستمر عليه خلال عقود.
في المعرض نشاهد واحدة من أشهر لوحاته “لاماسيا” و تعني البيت الريفي الكاتالاني وهذه كان قد بدأ رسمها في 1921 لينتهي منها في باريس عام 1922 ليقتنيها بعد جهد مرير الروائي “ارنيست همنغواي” وبواسطة بيكاسو،
كان يعز على الفنان التخلي عن هذه اللوحة التي يعتبرها قاعدة ومفتاح لتفسير كل ابداعه اللاحق، ففيها يبدأ أول خطواته السوريالية، حيث يرسم بيئته القروية مستوعبا وفاهما دروب الحلم في تنفيذها، عمل ملئ بالتفاصيل حيث كل عنصر مرسوم بدقة رائعة يستحق التوقف والتأني، لايمكن رؤية اللوحة كوحدة شاملة وعلى المشاهد التوقف عند كل تفصيل ولا المشاهدة الشاملة، فهي تصور ريفه بكل عناصره من بناء وأدوات الزراعة وتربية الحيوانات ليتركها تتناثر في فضاء اللوحة، منعزلة بعضها عن بعض وكأنها وحدات مستقلة غاية في الاتقان، مما يجبر المشاهد على التوقف عليها واحدة بعد أخرى.
في فترته “السوريالية” ومتأثرا بحمى هذه، يتجرأ رسم أبيات من الشعر في عدد من لوحاته كما في أشهرها من هذا النوع حيث يكتب:
جسد حبيبتي السمراء
لانني أعشقها
مع قطتي، مرتديتا أخضر
كما سلاطة
كما زخة حالوب، برد
جوان ميرو صمم معظم كتب أعضاء الحركة، والعديد منها كان ل”بريتون” الذي كتب عنه في عام 1945 قائلا “انضمام جوان ميرو الى الحركة السوريالية في 1924 كان حدثا حاسما ومهما في تطور السوريالية…. منذ تلك الفترة كانت أعماله تضئ بالبراءة والحرية التي لم يستطعها أحد منا وهو بدوره كان مهما في تأثيره على “بابلو بيكاسو” الذي أقترب من الحركة بعد عامين“.
أخيرا أعود في ذكر أهمية هذا المعرض الفريد، وكونه فرصة نادرة لكل من يهوى ومن يهتم العمل الفني وتأريخه خلال القرن الماضي، وهو تحول نوعي في نشاط هذه المؤسسات الفنية التي طالما اتهمت بالتحيز والغموض “التيت مودرن” يقدم عملا نموذجيا يستحق الزيارة المتأنية، لا السياحية.