لأول مرة - ربما- تبدو الولايات المتحدة متهيبة لخوض حرب في الشرق الاوسط او حتى في العالم. نتذكر جيدا كيف كان الرئيس الاميركي اوباما يجيب طوال سنتين ونصف من عمر الازمة في سوريا على السؤال الصعب: متى ستتدخل الولايات المتحدة في سوريا؟ كان يبحث دائما عن عذر ويحرص على القول إن الحرب قد تكون مكلفة وظروفها معقدة وان أولويته الاولى هي المصلحة الوطنية للولايات المتحدة، الى ان تترّس قبل عام بـ"خط أحمر" كيماوي لكي يبعد الانتقادات عن ساحة ادارته.
الآن، بعد ان اصبحت سوريا فجأة في صلب "المصالح الوطنية الاميركية"، يبدو أوباما ومعاونوه حذرين الى حد كبير في مقاربة خطة العمل العسكري بسبب ما يحيط بها من محاذير، ولهذا يكثر الحديث عن عدم الزج بقوات برية اميركية وغربية وعن تحديد هدف العملية ومداها الزمني. كل ذلك صحيح، لكن الظروف تجعل للحرب المقبلة أهمية استثنائية وربما تاريخية بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية. فهذا البلد لم يسبق ان شهد مثل هذا الانحدار في القوة الاعتبارية منذ حرب فيتنام. وأميركا التي كانت تخشى الانزلاق الى حرب في سوريا وهي لم تتعاف بعد من جروح حربي افغانستان والعراق، باتت ترى ان ضرب سوريا قد يمكنها من اصطياد مجموعة عصافير بحجر واحد. ادارة اوباما بلجوئها الى الكونغرس للحصول على تأييده ومساندته لمشروع الحرب لم تعد تتحدث فقط عن "محاسبة النظام السوري"، فقد تطورت اهداف المشروع الى إضعاف امكانات الجيش السوري ( وهذا امر يتعلق بالمستقبل حيث يراد تدمير ما أمكن من القدرات الاستراتيجية والبنية التحتية لهذا الجيش لكي يخلفه جيش هزيل يجري تهيئته انطلاقا من الاردن بقيادة مناف طلاس او غيره). وقد كان وزير الحرب الاميركي تشاك هيغل واضحاً في هذه النقطة عندما نقل عن اوباما قوله: "لن تكون الضربة وخزة دبوس، ستكون ضربة مؤثرة تقلص في الحقيقة القدرات العسكرية" لسوريا. والحرب بهذا المعنى تستهدف قلب الميزان العسكري في سوريا لمصلحة الجماعات التي تدعمها واشنطن، ولا بد في هذا المجال من ملاحظة ان مهلة التسعين يوما للعمليات الحربية الواردة في المشروع المطروح امام الكونغرس هي اطول بكثير مما قيل بداية ًعن يومين او بضعة ايام للعمل العسكري. وهذا يفسر سبب تأجيل الحرب، بما يؤمن التغطية السياسية والمالية اللازمة لها.
وهناك أهداف اخرى اقليمية ودولية للحرب: إضعاف حزب الله بوصفه المقاومة التي تشكل شوكة في حلق اسرائيل التي تسخّر الآن كل علاقاتها العامة من اجل تسهيل حصول اوباما على قرار الحرب. وهناك ايران التي تجد واشنطن صعوبة في اخضاعها عبر العقوبات والحصار الاقتصادي. وثمة هدف مستجد: روسيا التي تأخذ وضعية التحدي في غير ملف وتقلل من اعتبار الولايات المتحدة عندما تقرر منح اللجوء السياسي للعميل الاميركي إدوارد سنودن بعدما فضح الكثير من الاوراق الامنية السرية للمخابرات الاميركية.
واضافة الى ذلك كله، تجد الادارة الاميركية نفسها أمام مأزق فقدان وزنها القيادي في الشرق الاوسط مع خروج اكبر بلد عربي (واكبر جيش عربي) عن طوعها، لتصبح مصر خارج نطاق الجاذبية الاميركية. هذا كله بينما تجري محاولات مستميتة لإنعاش عملية التسوية التي دخلت في "الكوما" منذ زمن طويل.
الحرب على سوريا فرصة مهمة لاستعادة الهيبة وتشتيت محور المقاومة الذي استطاع تسجيل انتصارات ووقف الزحف الاميركي وقبله الاسرائيلي على مدى ثلاثة عقود، وهي ايضا فرصة لتقليص نفوذ روسيا المتصاعد وإرسال رسالة قوية لكل خصوم اميركا على امتداد العالم؛ إنها "رسالة لحزب الله وايران وكوريا الشمالية"، كما يعبر مسؤولون اميركيون.
والحرب قبل ذلك وبعده ضرورة للحفاظ على تماسك الحلفاء وانتظامهم في سلك الانقياد للولايات المتحدة، بعدما نأت بريطانيا بنفسها عن الحرب وهي التي لم تخذل واشنطن يوما منذ الحرب العالمية الثانية. واذا لم تـُظهر الادارة الاميركية قدرتها في الميدان، لن يعود لها حلفاء يستمعون اليها او ينقادون لها، وهذا ينطبق على العرب، كما على تركيا والاوروبيين وغيرهم.
من هنا، تبدو سوريا اليوم بحجم الشرق الاوسط كله وبحجم العالم، وسيترتب الكثير من النتائج على الحملة الاميركية التي تأجلت من عهد بوش الابن الى عهد اوباما. وتنبع هذه الخصوصية من المأزق التاريخي الذي ترزح فيه اميركا على المستويين العسكري والاقتصادي، ومن التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم ومنه المنطقة العربية والاسلامية في السنوات الاخيرة، ومن الاهمية الخاصة لموقع سوريا الجيوسياسي.
هل تكون آخر حروب اميركا في الشرق الاوسط؟ قد تكون، وقد لا تكون. لكن بالتأكيد، سترسم هذه الحرب إن وقعت معالم مرحلة جديدة، بينما تصارع واشنطن من اجل ان لا تنتقل الى الدرجة الثانية في نادي الدول الكبرى، خاصة بعدما باتت قوتها العسكرية محدودة الفعالية في غياب قدرتها على التعبئة الدولية وتراجع دورها السياسي وتقلص إمكاناتها الاقتصادية قياساً لوجود أقطاب جدد.
هي فرصة "أخيرة" ربما للادارة الاميركية، لكنها فرصة ايضاً لخصوم واشنطن الذين يمكنهم بإفشال أهداف الحملة والصمود العسكري ان يقلبوا التحدي والمخاطر الى انتصار تاريخي. الصمود وحده كاف لتحقيق هذه النتيجة، تماما كما فعلت المقاومة في لبنان خلال حرب 2006 أمام اسرائيل. أما واشنطن فعليها لكي تكسب الحرب ان تحقق انتصارا واضحاً بيّناً، وهذا يفسر سبب التهيب الاميركي والتردد الطويل.