بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) يخلف مَن مضى قبله من الأمم (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) كما فسدت الأمم الماضية 1 ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ألا تكتفي بنا عبيداً (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أي أنا أعلم أنّ أولاد آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ولكن لي منهم نخبة وفيهم الكفاية فهؤلاء يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، ويريد بذلك الأنبياء والهداة . وقد سبق شرح هذه الآية في كتابنا (الكون والقرآن) .
-------------------------------------------
1[بينما المفسّرون السابقون يخالون أنّه تعالى جعل آدم خليفة لله , ويا عجباً كيف ظنّوا ذلك والخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ! والمؤلّف هو أوّل من أوضح الخلافة هذه وبيّن كون أبينا آدم هذا آخر أب للجنس الرابع . – المراجع]
- (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) أي أسماء الأنبياء والهداة (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) أي عرض كنيتهم على الملائكة ، فقال تعالى : أتعرفون خليلي منهم ؟ قالوا : لا ، قال : أتعرفون كليمي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون روحي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون حبيبي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون أمري منهم ؟ قالوا : لا نعرف ، (فَقَالَ) الله تعالى للملائكة (أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء) الدعاة إلى الله (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) بأنّكم تعلمون أنّ أولاد آدم يفسدون في الأرض .
– (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) أي تنزيهاً لك عن الخطأ فإنّك لا تخلق الخلق إلاّ لمصلحة فإنّنا لا علم لنا بالغيب إلاّ ما أنبأتنا عنه (إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ) بِما غاب عنّا (الْحَكِيمُ) في مخلوقاتك لا تخلق شيئاً عبثاً .
- (قَالَ) الله تعالى (يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ) أي علّمْهم بأسماء هؤلاء الدعاة إلى الله الذين يأتون من نسلك ، فقال آدم للملائكة : إسم خليله إبراهيم ، واسم كليمه موسى ، واسم روحه عيسى ، واسم حبيبه محمّد ، واسم أمره محمّد أيضاً :(( المهدي صاحب الزمان ))، وهكذا أعلمهم آدم أسماء الدعاة إلى الله : من ذكرنا ومن لم نذكر ، (فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ) الله تعالى للملائكة (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي أعلم ما غاب عنكم في السماوات وفي الأرض (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) أي ما تظهرون (وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) أي وما تخفون في ضمائركم .
آراء المفسّرين
في قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}قال الطبرسي في صفحة 76 : "أي علمه معاني الأسماء إِذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لإشارة الفضيلة بها وقد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عندما سئلوا عن ذكرها والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها فقال الله تعالى { يا آدم أنْبِئهم بأسمائهم } عن قتادة وقيل إنه سبحانه علمه جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وعن أكثر المتأخرين.
وقيل إنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق وما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده عن أبي علي الجبائي وعلي بن عيسى وغيرهما قالوا فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه واعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (ع) فلما أهلك الله الناس إلا نوحاً ومن تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها وتركوا ما سواه ونسوه.
وقد روي عن الصادق (ع) أنه سئل عن هذه الآية فقال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه وقيل إنه علمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته عن الربيع, وقيل إنه علمه ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها وهو أن الفرس يصلح لماذا والحمار يصلح لماذا وهذا أبلغ لأن معاني الأشياء وخواصها لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات وألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة."
وقالوا في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} صفحة 77 قال :
" واختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة وقيل صوّر في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها وقيل عرض عليهم من كل جنس واحد وأراد بذلك تعجيزهم ..الخ ".
انتهى ارآء المفسرين
أقول إنّ الله تعالى لم يقل : علّمنا آدم اللغات والصناعات واستخراج المعادن وغير ذلك مِمّا ذكر المفسّرون ولا قدرة للإنسان أن يتعلّم جميع اللغات والصناعات ولو أنّه قضّى حياته في المدارس والكلّيات وكيف يتعلّم جميع اللغات والإنسان شديد النسيان وقد قال الله تعالى في سورة طا ها {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ، وقد خاطب الله حبيبه خاتم الأنبياء بقوله في سورة الأعلى {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى . إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} ، وقال أيضاً في سورة الأنعام {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، ثمّ لو كان المراد بذلك أسماء الأشياء لقال تعالى : ثمّ عرضها على الملائكة ، فكيف وقد قال تعالى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يعني عرض هؤلاء الأشخاص على الملائكة ، يعني كنيتهم ، فقال تعالى {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ولم يقل أنبؤوني بأسماء الجبال والأودية والشعاب إن كنتم صادقين . ثانياً إنّ كلمة {هَـؤُلاء} تشير إلى أشخاص ولا يجوز استعمالها للجمادات ، فلو صحّ ما ذهب إليه المفسّرون لقال تعالى : أنبؤوني بأسماء تلك الأشياء إن كنتم صادقين ، ولم يقل {بِأَسْمَاء هَـؤُلاء} .
ثمّ إنّ مدار الحديث واعتراض الملائكة كان حول نسل آدم فكان الجواب من الله تعالى حول نفس الموضوع ، وذلك قوله تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أنا أعلم ما سيكون من نسل آدم من رجال هداة تقاة صالحين لا يفسدون ولا يسفكون بل يصلحون ويعبدون وإن كان الكثير من نسله يفسدون ويسفكون
المصدر من كتاب المتشابه من القران (( هنا ))