الســـلام عليكم
لم يقولوا في لغتنا "أما قبل", و لم تخطر لأحدٍ قطّ، و لا يصحّحها وجه و لا تعليل، و لكني أضعها من أجلك,
إنها كلمة حنّانة، فيها الحبُّ و الذكرى..
قالوا "أما بعد" و سّموها فصل الخطاب،
و أنا أقول "أما قبل" و أسمّيها وصل الماضي، و بها نجعل لما فاتنا ممّا نحبه أو نؤثره لساناً، و نعيد إليه الصوت، وَ لا يجوز عندنا أن تستعمل "أما قبل" إلا في الحبِّ أو البغض، فهي خاصة بالْتِفات النفس للذّة أو ألم..
سألها مرة: ماذا يقول البحر لو سقطت فيه دمعةٌ من مهجور؟
فقالت: إنه يقول إنسانٌ أحمق أو مخبول, يحاول أن يجعل له بحراً من قطرتين..
قال: أراك يا فيلسوفتي لا تفهمين لغة الوجود!
قالت: فما أنت ترى؟
قال: إنه يقول عندئذ؛ تباركت يا رب!
أنا الجبار المالئ ثلاثة أرباع الأرض ماء, قد آلمتني دمعة محب متألم,
فهل هو يحمل ثلاثة أرباع الهمِّ في الأرض؟!
وأنا على هذا البعد حين أقرؤك أراك وإنك لأقرب إليّ ممن هو أقرب إليَّ، وأشعر بالكلمات حارة متنفسة بين يدي كساعة كتابتها, كأنَّ قلبي كان عندك وأنت تكتبها فلما جاءته جاءته على عهده بها!
مَنْ مِنَ الناس لا يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كشف السر الأفراح والأحزان عملًا في النفس من أعمال تنازع البقاء؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرق، ومن ثم كانت آلام الحب قوية حتى لكأنها في الرجل والمرأة تهيئ أحد القلبين؛ ليستحق القلب الآخر.آه من هذا اللواعج! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يصهر المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه؟
لقد هممتُ أن أعاقبَ القلم الذي كتبتُ به إليك فأحطّم سنَّه، وأجعله من ناحيتي في خبر كان حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر (إنه)،
و قلت: كيف –ويحك-سوّدت وجه صحيفتي بما هو في سواده مداد مع المداد، وفي نفسه سواد أقبح من السواد؟
فقال: و هل أنا في نغمات حبّك إلا عود، و هل صورت إلا حركات وجدك من قيام و قعود، و سلِ الدواة من أمدّها، و الصحيفة من أعدّها، و سل أناملك كيف كانت تضغط عليَّ كأنها تسلّم على الحبيبة سلاما، و لا تخطّ إليها كلاما، و سل نفسك كيف كانت في حركتي تضطرب، و قلبك كيف كان من كلمة يبتعد و من كلمة يقترب؟!