هاي حكاية من حكايات الف ليلة وليلة كلش حلوة بس طويلة يمكن اسبوع تقرون بيها يلا تخلص
حكاية حاسب كريم الدين
مما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان حكيم من حكماء اليونان وكان ذلك الحكيم يسمى دانيال وكان له تلامذة وجنود وكانت حكماء اليونان يذعنون لأمره ويعولون على علومه ومع هذا لم يرزق ولداً ذكراً، فبينما هو ذات ليلة من الليالي يتفكر في نفسه على عدم إنجاب ولد يرثه في علومه من بعده، إذ خطر بباله أن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة من إليه أناب وأنه ليس على باب فضله أبواب ويرزق من يشاء بغير حساب ولا يرد سائلاً إذا سأله بل يجزل الخير والإحسان له، فسأل الله تعالى الكريم أن يرزقه ولداً يخلفه من بعده ويجزل له الإحسان من عنده، ثم رجع إلى بيته وواقع زوجته فحملت منه في تلك الليلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم اليوناني رجع إلى بيته وواقع زوجته فحملت منه تلك الليلة ثم بعد أيام سافر إلى مكان في مركب فانكسرت به المركب وراحت كتبه في البحر وطلع هو على لوح من تلك السفينة وكان معه خمس ورقات بقيت من الكتب التي وقعت منه في البحر فلما رجع إلى بيته، وضع تلك الأوراق في صندوق وقفل عليها، وكانت زوجته قد ظهر حملها فقال لها: اعلمي أني قد دنت وفاتي وقرب انتقالي من دار الفناء إلى دار البقاء وأنت حامل، فربما تلدين بعد موتي صبياً ذكراً، فإذا وضعتيه فسميه حاسبا كريم الدين وربيه أحسن التربية فإذا كبر وقال لك: ما خلف لي أبي من الميراث فأعطيه هذه الخمس ورقات فإذا قرأها وعرف معناها يصير أعلم أهل زمانه ثم إنه ودعها وشهق شهقة ففارق الدنيا وما فيها رحمة الله تعالى عليه فبكت عليه أهله وأصحابه ثم غسلوه وأخرجوه خرجة عظيمة ودفنوه ورجعوا.
ثم إن زوجته بعد أيام قلائل وضعت ولداً مليحاً فسمته حاسبا كريم الدين كما أوصاها به، ولما ولدته أحضرت له المنجمين فحسسوا طالعه وناظره من الكواكب ثم قالوا لها: اعلمي أيتها المرأة أن هذا المولود يعيش أياماً كثيرة ولكن بعد شدة تحصل له في مبتدا عمره، فإذا نجا منها فإنه يعطى بعد ذلك علم الحكمة ثم مضى المنجمون إلى حال سبيلهم فأرضعته اللبن سنتين وفطمته.
فلما بلغ خمس سنين حطته في المكتب ليتعلم شيئاً من العلم فلم يتعلم، فأخرجته من المكتب وحطته في الصنعة فلم يتعلم شيئاً من الصنعة ولم يطلع من يده شيء من الشغل فبكت أمه من أجل ذلك، فقال لها الناس: زوجيه لعله يحمل هم زوجته ويتخذ له صنعة، فقامت وخطبت له بنتاً وزوجته بها، ومكث على ذلك الحال مدة من الزمان وهو لم يتخذ له صنعة أبداً، ثم إنهم كان لهم جيران حطابون فأتوا أمه وقالوا لها: اشتري لابنك حماراً وحبلاً وفأساً ويروح معنا إلى الجبل فنحتطب نحن وإياه ويكون ثمن الحطب له ولنا وينفق عليكم مما يخصه.
فلما سمعت أمه ذلك من الحطابين فرحت فرحاً شديداً واشترت لابنها حماراً وحبلاً وفأساً وأخذته وتوجهت به إلى الحطابين وسلمته إليهم وأوصتهم عليه فقالوا لها: لا تحملي هم هذا الولد ربنا يرزقه وهذا ابن شيخنا ثم أخذوه معهم وتوجهوا إلى الجبل فقطعوا الحطب وأنفقوا على عيالهم، ثم إنهم شدوا حميرهم ورجعوا إلى الاحتطاب في ثاني يوم وثالث يوم ولم يزالوا على هذه الحالة مدة من الزمان فاتفق أنهم ذهبوا إلى الاحتطاب في بعض الأيام فنزل عليهم مطر عظيم فهربوا إلى مغارة عظيمة ليداروا أنفسهم فيها من ذلك المطر فقام من عندهم حاسب كريم الدين، وجلس وحده في مكان من تلك المغارة، وصار يضرب الأرض بالفأس فسمع حس الأرض خالية من تحت الفأس، فلما عرف أنها خالية مكث يحفر ساعة فرأى بلاطة مدورة وفيها حلقة فلما رأى ذلك فرح ونادى جماعته الحطابين وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حاسبا كريم الدين لما رأى البلاطة التي فيها الحلقة فرح ونادى جماعته فحضروا إليه فرأوا تلك البلاطة فتسارعوا إليها وقلعوها فوجدوا تحتها باباً ففتحوا الباب الذي تحت البلاطة، فإذا هو جب ملآن عسل نحل، فقال الحطابون لبعضهم: هذا جب ملآن عسلاً وما لنا إلا أن نروح المدينة ونأتي بظروف ونعبي هذا العسل فيها ونبيعه ونقتسم حقه وواحد منا يقعد ليحفظه من غيرنا.
فقال حاسبك أنا أقعد وأحرسه حتى تروحوا وتأتوا بالظروف، فتركوا حاسبا كريم الدين يحرس لهم الجب وذهبوا إلى المدينة وأتوا بظروف وعبوها من ذلك العسل وحملوا حميرهم ورجعوا إلى المدينة وباعوا ذلك العسل ثم عادوا إلى الجب ثاني مرة، وما زالوا على هذه الحالة مدة من الزمان وهم يبيعون في المدينة ويرجعون إلى الجب يعبون من ذلك العسل وحاسب كريم الدين قاعد يحرس لهم الجب. فقالوا لبعضهم يوماً من الأيام إن الذي لقي جب العسل حاسب كريم الدين وفي غد ينزل إلى المدينة ويدعي علينا ويأخذ ثمن العسل ويقول: أنا الذي لقيته، ومالنا خلاص من ذلك إلا أن ننزله في الجب ليعبئ العسل الذي بقي فيه ونتركه هناك فيموت كمداً ولا يدري به أحدا، فاتفق الجميع على هذا الأمر ثم ساروا وما زالوا سائرين حتى أتوا إلى الجب، فقالوا له: يا حاسب انزل الجب وعبئ لنا العسل الذي بقي فيه فنزل حاسب في الجب وعبأ لهم العسل الذي بقي فيه وقال لهم اسحبوني فما بقي فيه شيء فلم يرد عليه أحد منهم جواباً وحملوا حميرهم وساروا إلى المدينة وتركوه في الجب وحده وصار يستغيث ويبكي ويقول: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد مت كمداً، هذا ما كان من أمر حاسب كريم الدين.
وأما ما كان من أمر الحطابين فإنهم لما وصلوا إلى المدينة باعوا العسل وراحوا إلى أم حاسب وهم يبكون وقالوا لها: يعيش رأسك في ابنك حاسب فقالت لهم: ما سبب موته؟ قالوا لها: كنا قاعدين فوق الجبل فأمطرت علينا السماء مطراً عظيماً فآوينا إلى مغارة لنتدارى فيها من ذلك المطر فلم نشعر إلا وحمار ابنك هرب في الوادي، فذهب خلفه ليرده من الوادي وكان فيه ذئب عظيم فافترس ابنك وأكل الحمار. فلما سمعت أمه كلام الحطابين لطمت وجهها وحثت التراب على رأسها وأقامت عزاءه وصار الحطابون يجيئون لها بالأكل والشرب في كل يوم، هذا ما كان من أمر أمه.
وأما ما كان من أمر الحطابين، فإنهم فتحوا لهم دكاكين وصاروا تجاراً ولم يزالوا في أكل وشرب وضحك ولعب.
وأما ما كان من أمر حاسب كريم الدين فإنه صار يبكي وينتحب، فبينما هو قاعد في الجب على هذه الحالة وإذا بعقرب كبير وقع إليه فقام وقتله ثم تفكر في نفسه وقال: إن الجب كان ملآناً عسلاً فمن أين أتى هذا العقرب؟ فقام ينظر المكان الذي وقع منه العقرب، وصار يلتفت يميناً وشمالاً في الجب فرأى المكان الذي وقع منه العقرب يلوح منه النور، فأخرج سكيناً كانت معه ووسع ذلك المكان، حتى صار قدر الطاقة وخرج منه وتمشى ساعة في داخله فرأى دهليزاً عظيماً فمشى فيه فرأى باباً عظيماً من الحديد الأسود وعليه قفل من الفضة وعلى ذلك القفل مفتاح من الذهب، فتقدم إلى الباب ونظر من خلاله فرأى نوراً عظيماً يلوح من داخله فأخذ المفتاح وفتح الباب وعبر إلى داخله وتمشى ساعة حتى وصل إلى بحيرة عظيمة فرأى في تلك البحيرة شيئاً يلمع مثل الماء فلم يزل يمشي حتى وصل إليه فرأى تلاً عالياً من الزبرجد الأخضر وعليه تخت منصوب من الذهب مرصع بأنواع الجواهر، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حاسبا الدين كريم لما وصل إلى التل وجده من الزبرجد الأخضر، وعليه تخت منصوب من الذهب مرصع بأنواع الجواهر وحول ذلك التخت كراسي منصوبة بعضها من الذهب وبعضها من الفضة وبعضها من الزمرد الأخضر فلما أتى إلى تلك الكراسي تنهد ثم عدها فرآها اثني عشر كرسي، فطلع على ذلك التخت المنصوب في وسط تلك الكراسي وقعد عليه، وصار يتعجب من تلك البحيرة وتلك الكراسي المنصوبة ولم يزل متعجباً حتى غلب عليه النوم، فنام ساعة وإذا هو يسمع نفخاً وصفيراً وهرجاً عظيماً، ففتح عينيه وقعد فرأى على الكرسي حيات عظيمة طول كل حية منهن مائة ذراع فحصل له من ذلك فزع عظيم ونشف ريقه من شدة خوفه ويئس من الحياة وخاف خوفاً عظيماً ورأى عين كل حية تتوقد مثل الجمر وهي فوق الكراسي، والتفت إلى البحيرة فرأى فيها حيات صغار لا يعلم عددها إلا الله تعالى. وبعد ساعة أقبلت عليه حية عظيمة مثل البغل، وعلى ظهر تلك الحية طبق من الذهب، وفي وسط ذلك الطبق حية تضيء مثل البلور ووجهها وجه إنسان وهي تتكلم بلسان فصيح فلما قربت من حاسب الدين سلمت عليه فرد عليها السلام. ثم أقبلت حية من تلك الحيات التي فوق الكراسي إلى ذلك الطبق وحملت الحية التي فوقه وحطتها على كرسي من تلك الكراسي، ثم إن تلك الحية زعقت في تلك الحيات بلغاتها فخرت جميع الحيات من فوق كراسيها ودعون لها وأشارت إليهن بالجلوس فجلسن ثم إن الحية قالت لحاسب كريم الدين لا تخف منا يا أيها الشاب فإني أنا ملكة الحيات وسلطانتهن، فلما سمع حاسب كريم الدين ذلك الكلام من الحية اطمأن قلبه ثم إن الحية أشارت إلى تلك الحيات أن يأتوا بشيء من الأكل فأتوا بتفاح وعنب ورمان وفستق وبندق وجوز ولوز وموز وحطوه قدام حاسب كريم الدين، ثم قالت له ملكة الحيات: مرحباً بك يا شاب ما اسمك؟ فقال لها: اسمي حاسب كريم الدين فقالت له: يا حاسب كل من هذه الفواكه فما عندنا طعام غيرها ولاتخف منا أبداً فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية أكل حتى اكتفى وحمد الله تعالى.
فلما اكتفى من الأكل رفعوا السماط من قدامه، ثم بعد ذلك قالت له ملكة الحيات: أخبرني يا حاسب من أين أنت ومن أين أتيت إلى هذا المكان وما جرى لك فحكى لها حاسب ما جرى لأبيه وكيف ولدته أمه وألحقته في المكتب وهو ابن خمس سنين ولم يتعلم شيئاً من العلم، وكيف حطته في الصنعة وكيف اشترت أمه له الحمار وصار حطاباً، وكيف لقي جب العسل وكيف تركه رفقاؤه الحطابون في الجب وراحوا، وكيف نزل عليه العقرب وقتله وكيف وسع الشق الذي نزل منه العقرب وطلع من الجب وأتى إلى الباب الحديدي وفتحه حتى وصل إلى ملكة الحياة التي يكلمها ثم قال لها: وهذه حكايتي من أولها إلى آخرها والله أعلم بما يحصل لي بعد هذا كله.
فلما سمعت ملكة الحيات حكاية حاسب كريم الدين من أولها إلى آخرها قالت له ما يحصل لك إلا كل خير، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملكة الحيات لما سمعت حكاية حاسب كريم الدين من أولها إلى آخرها قالت له ما يحصل لك إلا كل خير، ولكن أريد منك يا حاسب أن تقعد عندي مدة من الزمن، حتى أحكي لك حكايتي وأخبرك بما جرى لي من العجائب فقال لها: سمعاً وطاعة فيما تأمريني به فقالت له: اعلم يا حاسب أنه كان بمدينة مصر ملك من بني إسرائيل، وكان له ولد اسمه بولقيا وكان هذا الملك عالماً عابداً مكباً على قراءة كتب العلم فلما ضعف وأشرف على الموت، طلعت له أكابر دولته ليسلموا عليه، فلما جلسوا عنده وسلموا عليه قال لهم. يا قوم اعلموا أنه قد دنا رحيلي من الدنيا إلى الآخرة وما لي عندكم شيء أوصيكم به إلا ابني بلوقيا فاستوصوا به، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وشهق شهقة ففارق ال دنيا رحمة الله عليه، فجهزوه وغسلوه ودفنوه وأخرجوه خرجة عظيمة، وجعلوا ولده سلطاناً عليهم وكان ولده عادلاً في الرعية واستراحت الناس في زمانه، فاتفق في بعض الأيام أنه فتح خزائن أبيه ليتفرج فيها ففتح خزانة من تلك الخزائن فوجد فيها صورة باب ففتحه فإذا هي خلوة صغيرة، وفيها عامود من الرخام الأبيض وفوقه صندوق من الأبنوس، فأخذه بلوقيا وفتحه فوجد فيه صندوقاً آخر من الذهب ففتحه فرأى فيه كتاباً ففتحه وقرأه فرأى فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث في آخر الزمان وهو سيد الأولين والآخرين.
فلما قرأ بلوقيا هذا الكتاب وعرف صفات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، تعلق قلبه بحبه، ثم إن بلوقيا جمع أكابر بني إسرائيل من الكهان والأحبار والرهبان وأطلعهم على ذلك الكتاب وقرأه عليهم وقال لهم: يا قوم ينبغي أن أخرج أبي من قبره وأحرقه وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا قال لقومه لابد أن أخرج أبي من قبره وأحرقه، فقال له قومه: لأي شيء تحرقه؟ فقال لهم بلوقيا: لأنه أخفى عني هذا الكتاب ولم يظهره لي، وقد كان استخرجه من التوراة ومن صحف إبراهيم ووضع هذا الكتاب في خزانة من خزائنه ولم يطلع عليه أحد من الناس، فقالوا له يا ملكنا إن أباك قد مات وهو الآن في التراب وأمره مفوض إلى ربه ولا تخرجه من قبره فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من أكابر بني إسرائيل عرف أنهم لا يمكنونه من أبيه فتركهم ودخل على أمه وقال لها: يا أمي إني رأيت في خزائن أبي كتاباً صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نبي يبعث في آخر الزمان وقد تعلق قلبي بحبه وأنا أريد أن أسيح في البلاد حتى أجتمع به فإنني إن لم أجتمع به مت غراماً في حبه، ثم نزع ثيابه ولبس عباءة وزربوناً وقال لا تنسيني يا أمي من الدعاء، فبكت عليه أمه وقالت له: كيف يكون حالنا بعدك؟ قال بلوقيا: ما بقي لي صبر أبداً وقد فوضت أمري وأمرك إلى الله تعالى.
ثم خرج سائحاً نحو الشام ولم يدر به أحد من قومه وسار حتى وصل إلى ساحل البحر فرأى مركباً فنزل فيها مع الركاب، وسارت بهم إلى أن أقبلوا على جزيرة فطلع الركاب من المركب إلى تلك الجزيرة وطلع معهم، ثم انفرد عنهم في الجزيرة وقعد تحت شجرة فغلب عليه النوم فنام ثم إنه أفاق من نومه وقام إلى المركب لينزل فيه فرأى المركب أقلع، ورأى في تلك الجزيرة حيات مثل الحمال ومثل النخل وهم يذكرون الله عز وجل، ويصلون على محمد صلى الله عليه وسلم ويصيحون بالتهليل والتسسبيح، فلما رأى ذلك بلوقيا تعجب غاية العجب وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى الحيات يسبحون ويهللون تعجب من ذلك غاية العجب ثم إن الحيات لما رأوا بلوقيا اجتمعوا عليه وقالت له حية منهم: من تكون أنت ومن أين أتيت وما اسمك وإلى أين رائح فقال لها اسمي بلوقيا وأنا من بني إسرائيل وخرجت هائماً في حب محمد صلى الله عليه وسلم وفي طلبه فمن تكونون أنتم أيتها الخليقة الشريفة فقالت له الحيات نحن من سكان جهنم وقد خلقنا الله تعالى نقمة على الكافرين فقال لهم بلوقيا وما الذي جاء بكم إلى هذا المكان؟ فقالت له الحياة اعلم يا بلوقيا أن جهنم من كثرة غليانها تتنفس في السنة مرتين مرة في الشتاء ومرة في الصيف واعلم أن كثرة الحر من شدة قيحها ولما تخرج نفسها ترمينا من بطنها ولما تسحب نفسها تردنا إليها فقال لهم بلوقيا: هل في جهنم أكبر منكم؟ فقالت له الحيات إننا ما نخرج إلا مع تنفسها لصغرنا فإن في جهنم كل حية لو عبر أكبر ما فينا في أنفها لم تحس به.
فقال لهم بلوقيا: أنتم تذكرون الله وتصلون على محمد ومن أين تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا يا بلوقيا: إن اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب على باب الجنة ولولاه ما خلق الله المخلوقات، ولا جنة ولا نار ولا سماء ولا أرضاً، لأن الله لم يخلق جميع الموجودات إلا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم وقرن اسمه في كل مكان، ولأجل هذا نحن نحب محمداً صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الحيات زاد غرامه في حب محمد صلى الله عليه وسلم وعظيم اشتياقه إليه، ثم إن بلوقيا ودعهم وسار حتى وصل إلى شاطئ البحر فرأى مركباً راسياً في جنب الجزيرة، فنزل فيه مع ركابه وسار بهم وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى جزيرة أخرى، فطلع عليها وتمشى ساعة فرأى فيها حيات كباراً وصغاراً لا يعلم عددها إلا الله تعالى وبينهم حية بيضاء أبيض من البلور، وهي جالسة على طبق من الذهب وذلك الطبق على ظهر حية مثل الفيل، وتلك الحية ملكة الحيات وهي أنا يا حاسب ثم إن حاسبا سأل ملكة الحيات وقال لها أي شيء جوابك مع بلوقيا. فقالت الحية يا حاسب اعلم أني لما نظرت إلى بلوقيا سلمت فرد علي السلام وقلت له: من أنت وما شأنك ومن أين أقبلت وإلى أين تذهب وما اسمك فقال أنا من بني إسرائيل واسمي بلوقيا، وأنا سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم وفي طلبه فإني رأيت صفاته في الكتب المنزلة، ثم إن بلوقيا سألني وقال لي أي شيء أنت وما شأنك وما هذه الحيات التي حولك، فقلت له يا بلوقيا أنا ملكة الحيات وإذا اجتمعت بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقرأه مني السلام ثم إن بلوقيا ودعني ونزل في المركب حتى وصل إلى بيت المقدس.
وكان في بيت المقدس رجل تمكن من جميع العلوم وكان متقناً لعلم الهندسة وعلم الفلك والحساب والكيمياء والروحاني، وكان يقرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وكان يقال له عفان وقد وجد في كتاب عنده، أن كل من لبس خاتم سيدنا سليمان، انقادت له الإنس والجن والطير والوحوش وجميع المخلوقات ورأى في بعض الكتب أنه لما توفي سيدنا سليمان وضعوه في تابوت وعدوا به سبعة أبحر وكان الخاتم في اصبعه ولا يقدر أحد من الإنس ولا من الجن أن يأخذ ذلك الخاتم، ولا يقدر أحد من أصحاب المراكب أن يروح بمركب إلى ذلك المكان، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الحادية والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عفان وجد في بعض الكتب أنه لا يقدر أحد من الإنس ولا من الجن، أن يأخذ الخاتم من اصبع سيدنا سليمان ولا يقدر أحد من أصحاب المراكب أن يسافر بمركبه في السبعة أبحر التي عدوها بتابوته ووجد في بعض الكتب أيضاً أن بين الأعشاب عشباً كل من أخذ منه شيئاً وعصره وأخذ ماءه ودهن به قدميه فإنه يمشي على أي بحر خلقه الله تعالى ولا تبتل قدماه ولا يقدر أحد على تحصيل ذلك إلا إذا كانت معه ملكة الحيات ثم إن بلوقيا لما دخل بيت المقدس جلس في مكان يعبد الله تعالى فبينما هو جالس يعبد الله، إذ أقبل عليه عفان وسلم عليه فرد عليه السلام ثم إن عفان نظر إلى بلوقيا فرآه يقرأ في التوراة وهو جالس يعبد الله تعالى فتقدم إليه وقال له: أيها الرجل ما اسمك ومن أين أتيت، وإلى أين تذهب، فقال له: اسمي بلوقيا وأنا من مدينة مصر خرجت سائحاً في طلب محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال عفان لبلوقيا: قم معي إلى منزلي حتى أستضيفك، فقال سمعاً وطاعة فأخذ عفان بيد بلوقيا وذهب إلى منزله وأكرمه غاية الإكرام، وبعد ذلك قال له أخبرني يا أخي بخبرك من أين عرفت محمد صلى الله عليه وسلم حتى تعلق قلبك بحبه وذهبت في طلبه ومن دلك على هذا الطريق فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر.
فلما سمع عفان كلامه كاد أن يذهب عقله وتعجب من ذلك غاية العجب ثم إن عفان قال لبلوقيا اجمعني على ملكة الحيات وأنا أجمعك على محمد صلى الله عليه وسلم لأن زمان مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بعيد، وإذا ظفرنا بملكة الحيات نحطها في قفص ونروح إلى الأعشاب التي في الجبال وكل عشب جزنا عليه وهي معنا ينطق ويخبر بمنفعته بقدرة الله تعالى، فإني قد وجدت عندي في الكتب أن في الأعشاب عشباً كل من أخذه ودقه وأخذ ماءه ودهن به قدميه ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى لم يبتل له قدم فإذا أخذنا ملكة الحيات تدلنا على ذلك العشب وإذا وجدناه نأخذه وندقه ونأخذ ماءه، ثم نطلقها إلى حال سبيلها وندهن بذلك الماء أقدامنا ونعدي السبعة أبحر ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه ونحكم كما حكم سيدنا سليمان ونصل إلى مقصودنا وبعد ذلك ندخل بحر الظلمات فنشرب من ماء الحياة فيمهلنا الله إلى آخر الزمان نجتمع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من عفان قال يا عفان أنا أجمعك بملكة الحيات وأريك مكانها فقام عفان وصنع له قفصاً من حديد وأخذ معه قدحين وملأ أحدهما خمراً وملأ الآخر لبناً وسار عفان هو وبلوقيا أياماً وليالي حتى وصلا إلى الجزيرة التي فيها ملكة الحيات فطلع عفان وبلوقيا إلى الجزيرة وتمشيا فيها وبعد ذلك وضع عفان القفص ونصب فيه فخاً، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عفان وضع القفص ونصب فيه فخاً ووضع فيه القدحين المملوءين خمراً ولبناً ثم تباعدا عن القفص واستخفيا ساعة فأقبلت ملكة الحيات على القفص حتى قربت من القدحين فتأملت فيهما ساعة فلما شمت رائحة اللبن نزلت من فوق ظهر الحية التي هي فوقها وطلعت من الطبق ودخلت القفص وأتت إلى القدح الذي فيه الخمر وشربت منه، فلما شربت من ذلك القدح داخت رأسها ونامت.
فلما رأى ذلك عفان تقدم إلى القفص المقفل على ملكة الحيات ثم أخذها هو وبلوقيا وسارا، فلما أفاقت رأت روحها في القفص من حديد والقفص على رأس رجل وبجانبه بلوقيا فلما رأت ملكة الحيات بلوقيا قالت هذا جزاء من لا يؤذي بني آدم، فرد عليها بلوقيا وقال لها: لا تخافي منا يا ملكة الحيات فإننا لا نؤذيك أبداً، ولكن نريد أن تدلينا على العشب كل من أخذه ودقه واستخرج ماءه ودهن به قدميه ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى لا تبتل قدماه فإذا وجدنا ذلك العشب أخذناه ونرجع بك إلى مكانك ونطلقك إلى حال سبيلك ثم إن عفا وبلوقيا سارا بملكة الحيات نحو الجبال التي فيها الأعشاب ودارا بها على جميع الأعشاب فصار كل عشب ينطق ويخبر بمنفعته بإذن الله تعالى.
فبينما هما في هذا الأمر والأعشاب تنطق يميناً وشمالاً وتخبر بمنافعها، وإذا بعشب نطق وقال أنا العشب الذي كل من أخذني ودقني وأخذ مائي ودهن قدميه وجاز على أي بحر خلقه الله تعالى لا تبتل قدماه.
فلما سمع عفان كلام العشب حط القفص من فوق رأسه وأخذا من ذلك العشب ما يكفيهما ودقاه وعصراه وأخذا ماءه وجعلاه في قزازتين وحفظاهما والذي فضل منهما دهنا به أقدامهما ثم إن بلوقيا وعفان أخذا ملكة الحيات وسارا بها ليالي وأياماً حتى وصلا إلى الجزيرة التي كانت فيها وفتح عفان باب القفص فخرجت منه ملكة الحيات فلما خرجت قالت لهما: ما تصنعان بهذا الماء؟ قالا لها: مرادنا أن ندهن به أقدامنا حتى نتجاوز السبعة أبحر ونصل إلى مدفن سيدنا سليمان ونأخذ الخاتم من اصبعه.
فقالت لهما ملكة الحيات: هيهات أن تقدرا على أخذ الخاتم فقالا لها: لأي شيء؟ فقالت لهما: لأن الله تعالى من على سيدنا سليمان بإعطائه ذلك الخاتم وخصه بذلك لأنه قال: رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فما لكما وذلك الخاتم، ثم قالت لهما: لو أخذتما من العشب الذي كل من أكل منه لا يموت إلى النفخة الأولى وهو بين تلك الأعشاب لكان أنفع لكما من هذا الذي أخذتماه فإنه لا يحصل لكما منه مقصودكما، فلما سمعا كلامها ندما ندماً عظيماً وسارا إلى حال سبيلهما، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا وعفان لما سمعا كلام ملكة الحيات ندما ندماً عظيماً وسارا إلى حال سبيلهما هذا ما كان من أمرهما.
وأما ما كان من أمر ملكة الحيات، فإنها أتت إلى عساكرها فرأتهم قد ضاعت مصالحهم وضعف قويهم وضعيفهم مات فلما رأت الحيات ملكتهم بينهم فرحوا واجتمعوا حولها وقالوا لها: ما خبرك وأين كنت؟ فحكت لهم جميع ما جرى لها مع عفان وبلوقيا، ثم بعد ذلك جمعت جنودها وتوجهت بهم إلى جبل قاف، لأنها كانت تشتي فيه وتصيف المكان الذي رآها فيه حاسب كريم الدين.
ثم إن الحية قالت: يا حاسب هذه حكايتي وما جرى لي فتعجب حاسب من كلام الحية ثم قال لها: أريد من فضلك أن تأمري أحداً من أعوانك أن يخرجني إلى وجه الأرض وأروح إلى أهلي فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب ليس لك رواح من عندنا حتى يدخل الشتاء وتروح معنا إلى جبل قاف وتتفرج فيه على تلال ورمال وأشجار وأطيار تسبح الواحد القهار وتتفرج على مردة وعفاريت وجان ما يعلم عددهم إلا الله تعالى. فلما سمع حاسب كريم الدين كلام ملكة الحيات صار مهموماً مغموماً ثم قال لها: اعلميني بعفان وبلوقيا لما فارقاك وسارا هل عديا السبعة بحور ووصلا إلى مدفن سيدنا سليمان أو لا وإذا كانا وصلا إلى مدفن سيدنا سليمان هل قدرا على أخذ الخاتم أو لا. فقالت له: اعلم أن عفان وبلوقيا لما فارقاني وسارا دهنا أقدامهما من ذلك الماء ومشيا على وجه البحر حتى عديا السبعة أبحر، فلما عديا تلك البحار وجدا جبلاً عظيماً شاهقاً في الهواء وهو من الزمرد الأخضر وفيه عين تجري وترابه كله من المسك فلما وصلا إلى ذلك المكان فرحا وقالا: قد بلغنا مقصودنا، ثم سارا حتى وصلا إلى جبل عال فمشيا فيه فرأيا مغارة من بعيد في ذلك الجبل وعليها قبة عظيمة والنور يلوح منها فلما رأيا تلك المغارة قصداها حتى وصلا إليها فدخلا فرأيا فيها تختاً منصوباً من الذهب مرصعاً بأنواع الجواهر وحوله كراسي منصوبة لايحصي لها عدد إلا الله تعالى، ورأيا السيد سليمان نائماً فوق ذلك التخت، وعليه حلة من الحرير الأخضر مزركشة بالذهب مرصعة بنفيس المعادن من الجوهر ويده اليمنى على صدره والخاتم في اصبعه ونور الخاتم يغلب على نور تلك الجواهر التي في ذلك المكان، ثم إن عفان علم بلوقيا أقساماً وعزائم وقال له: اقرأ هذه الأقسام ولا تترك قراءتها حتى آخذ الخاتم، ثم تقدم عفان إلى التخت حتى قرب منه، وإذا بحية عظيمة طلعت من تحت التخت ورعقت زعقة عظيمة فارتعد ذلك المكان من زعقتها وصار الشرر يطير من فمها ثم إن الحية قالت لعفان: إن لم ترجع أهلكتك، فاشتغل عفان بالأقسام ولم ينزعج من تلك الحية فنفخت عليه الحية نفخة عظيمة كادت تحرق ذلك المكان وقالت: ويلك إن لم ترجع أحرقتك.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الحية طلع من المغارة وأما عفان فإنه لم ينزعج من ذلك، ثم تقدم إلى السيد سليمان ومد يده ولمس الخاتم وأراد أن يسحبه من اصبع السيد سليمان وإذا بالحية نفخت على عفان فأحرقته وصار كوم رماد. وهاذ ما كان من أمر هؤلاء. وأما ما كان من أمر بلوقيا فإنه وقع مغشياً عليه من هذا الأمر، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا لما رأى عفان احترق وصار كوم رماد وقع مغشياً عليه، وأمر الرب جل جلاله جبريل أن يهبط إلى الأرض قبل أن تنفخ الحية على بلوقيا فهبط إلى الأرض بسرعة فرأى بلوقيا مغشياً عليه، ورأى عفان احترق من نفخة الحية، فأتى جبريل إلى بلوقيا وأيقظه من غشيته. فلما أفاق سلم عليه جبريل وقال له: من أين أتيتما إلى هذا المكان؟ ف حكى له بلوقيا جميع حكايته من الأول إلى الآخر، ثم قال له: اعلم أنني ما أتيت إلى هذا المكان إلا بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عفان أخبرني أنه يبعث في آخر الزمان ولا يجتمع به إلا من يعيش إلى ذلك الوقت إلا من شرب من ماء الحياة، ولايمكن ذلك إلا بالحصول على خاتم سليمان عليه السلام فصحبته إلى هذا المكان وحصل له ما حصل وهاهو قد احترق وأنا لم أحترق ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون.
فقال له جبريل: يا بلوقيا اذهب إلى حال سبيلك فإن زمان محمد بعيد، ثم ارتفع جبريل إلى السماء من وقته وأما بلوقيا فإنه صار يبكي بكاء شديداً وندم على ما فعل وتفكر قول ملكة الحيات: هيهات أن يقدر أحد على أخذ الخاتم فتجبر بلوقيا في نفسه وبكى، ثم إنه نزل من الجبل وسار ولم يزل سائراً حتى قرب من شاطئ البحر، وقعد هناك يتعجب من تلك الجبال والبحار والجزائر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا تعجب من تلك الجبال والبحار والجزائر ثم بات تلك الليلة في ذلك الموضع ولما أصبح الصباح دهن قدميه من الذي كانا أخذاه من العشب ونزل البحر وصار ماشياً فيه أياماً وليالي وهو يتعجب من أهوال البحر وعجائبه وغرائبه ومازال ماشياً على وجه الماء حتى وصل إلى جزيرة كأنها الجنة فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة وصار يتعجب منها ومن حسنها وساح فيها فرآها جزيرة عظيمة ترابها زعفران وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين وزرعها من أحسن الأشجار وأبهج الرياحين وأطيبها وفيها عيون جارية وحطبها من العود القماري والعود القاقلي وبوصها من قصب السكر، وحولها الورد والنرجس والغبهر والقرنفل والأقحوان والسوسن والبنفسج وكل ذلك فيها أشكال وألوان وأطيارها تناغي على تلك الأشجار، وهي مليحة الصفات واسعة الجهات كثيرة الخيرات، قد حوت جميع الحسن والمعاني وتغريد أطيارها ألطف من رنات المثاني وأشجارها باسقة وأطيارها ناطقة وأنهارها دافقة وعيونها جارية ومياهها خالية، وفيها الغزلان تمرح والجآذر تسنح الأطيار على تلك الأغصان تسلي العاشق الولهان، فتعجب بلوقيا من هذه الجزيرة وعلم أنه قد تاه عن الطريق التي قد أتى منها أول مرة حين كان معه عفان فساح في تلك الجزيرة وتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما أمسى عليه الليل طلع على شجرة عالية لينام فوقها وصار يتفكر في حسن تلك الجزيرة فبينما هو فوق الشجرة على تلك الحالة إذا بالبحر قد اختبط وطلع منه حيوان عظيم وصاح صياحاً عظيماً حتى انزعجت حيوانات تلك الجزيرة من صياحه، فنظر إليه بلوقيا وهو جالس على الشجرة فرآه حيواناً عظيماً فصار يتعجب منه، فلم يشعر بعد ساعة إلا وطلع خلفه من البحر وحوش مختلفة الألوان، وفي يد كل وحش منها جوهرة تضيء مثل السراج حتى صارت الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر.
وبعد ساعة أقبلت من الجزيرة وحوش لا يعلم عددها إلا الله تعالى فنظر إليها بلوقيا فرآها وحوش الفلاة من سباع ونمور وفهود، وغير ذلك من حيوانات البر ولم تزل وحوش البر مقبلة حتى اجتمعت مع وحوش البحر في جانب الجزيرة وصاروا يتحدثون إلى الصباح، فلما أصبح الصباح افترقوا عن بعضهم ومضى كل واحد منهم إلى حال سبيله.
فلما داهم بلوقيا خاف ونزل من فوق الشجرة وسار إلى شاطئ البحر، ودهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثاني وسار على وجه الماء ليالي وأياماً حتى وصل إلى جبل عظيم وتحت ذلك الجبل واد ما له من آخر وذلك الوادي حجارته من المغناطيس ووحوشه سباع وأرانب ونمور، فطلع بلوقيا إلى ذلك الجبل وساح فيه من مكان إلى مكان حتى أمسى عليه المساء فجلس تحت قنة من قنن ذنك الجبل بجانب البحر وصار يأكل من السمك الناشف الذي يقذفه البحر.
فبينما هو جالس يأكل من ذلك السمك وإذ بنمر عظيم أقبل على بلوقيا وأراد أن يفترسه، فالتفت بلوقيا إلى ذلك النمر فرآه هاجماً عليه ليفترسه فدهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثالث هرباً من ذلك النمر وسار على وجه الماء في الظلام وكانت ليلة سوداء ذات ريح عظيم، وما زال سائراً حتى أقبل على جزيرة فطلع عليها فرأى فيها أشجاراً رطبة ويابسة، فأخذ بلوقيا من ثمر تلك الأشجار وأكل وحمد الله تعالى ودار فيها يتفرج إلى وقت المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا تعجب من تلك الجبال والبحار والجزائر ثم بات تلك الليلة في ذلك الموضع ولما أصبح الصباح دهن قدميه من الذي كانا أخذاه من العشب ونزل البحر وصار ماشياً فيه أياماً وليالي وهو يتعجب من أهوال البحر وعجائبه وغرائبه ومازال ماشياً على وجه الماء حتى وصل إلى جزيرة كأنها الجنة فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة وصار يتعجب منها ومن حسنها وساح فيها فرآها جزيرة عظيمة ترابها زعفران وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين وزرعها من أحسن الأشجار وأبهج الرياحين وأطيبها وفيها عيون جارية وحطبها من العود القماري والعود القاقلي وبوصها من قصب السكر، وحولها الورد والنرجس والغبهر والقرنفل والأقحوان والسوسن والبنفسج وكل ذلك فيها أشكال وألوان وأطيارها تناغي على تلك الأشجار، وهي مليحة الصفات واسعة الجهات كثيرة الخيرات، قد حوت جميع الحسن والمعاني وتغريد أطيارها ألطف من رنات المثاني وأشجارها باسقة وأطيارها ناطقة وأنهارها دافقة وعيونها جارية ومياهها خالية، وفيها الغزلان تمرح والجآذر تسنح الأطيار على تلك الأغصان تسلي العاشق الولهان، فتعجب بلوقيا من هذه الجزيرة وعلم أنه قد تاه عن الطريق التي قد أتى منها أول مرة حين كان معه عفان فساح في تلك الجزيرة وتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما أمسى عليه الليل طلع على شجرة عالية لينام فوقها وصار يتفكر في حسن تلك الجزيرة فبينما هو فوق الشجرة على تلك الحالة إذا بالبحر قد اختبط وطلع منه حيوان عظيم وصاح صياحاً عظيماً حتى انزعجت حيوانات تلك الجزيرة من صياحه، فنظر إليه بلوقيا وهو جالس على الشجرة فرآه حيواناً عظيماً فصار يتعجب منه، فلم يشعر بعد ساعة إلا وطلع خلفه من البحر وحوش مختلفة الألوان، وفي يد كل وحش منها جوهرة تضيء مثل السراج حتى صارت الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر.
وبعد ساعة أقبلت من الجزيرة وحوش لا يعلم عددها إلا الله تعالى فنظر إليها بلوقيا فرآها وحوش الفلاة من سباع ونمور وفهود، وغير ذلك من حيوانات البر ولم تزل وحوش البر مقبلة حتى اجتمعت مع وحوش البحر في جانب الجزيرة وصاروا يتحدثون إلى الصباح، فلما أصبح الصباح افترقوا عن بعضهم ومضى كل واحد منهم إلى حال سبيله.
فلما داهم بلوقيا خاف ونزل من فوق الشجرة وسار إلى شاطئ البحر، ودهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثاني وسار على وجه الماء ليالي وأياماً حتى وصل إلى جبل عظيم وتحت ذلك الجبل واد ما له من آخر وذلك الوادي حجارته من المغناطيس ووحوشه سباع وأرانب ونمور، فطلع بلوقيا إلى ذلك الجبل وساح فيه من مكان إلى مكان حتى أمسى عليه المساء فجلس تحت قنة من قنن ذنك الجبل بجانب البحر وصار يأكل من السمك الناشف الذي يقذفه البحر.
فبينما هو جالس يأكل من ذلك السمك وإذ بنمر عظيم أقبل على بلوقيا وأراد أن يفترسه، فالتفت بلوقيا إلى ذلك النمر فرآه هاجماً عليه ليفترسه فدهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر الثالث هرباً من ذلك النمر وسار على وجه الماء في الظلام وكانت ليلة سوداء ذات ريح عظيم، وما زال سائراً حتى أقبل على جزيرة فطلع عليها فرأى فيها أشجاراً رطبة ويابسة، فأخذ بلوقيا من ثمر تلك الأشجار وأكل وحمد الله تعالى ودار فيها يتفرج إلى وقت المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا دار يتفرج في تلك الجزيرة ولم يزل دائراً يتفرج فيها إلى وقت المساء فنام في تلك الجزيرة ولما أصبح الصباح صار يتأمل في جهاتها ولم يزل يتفرج فيها مدة عشرة أيام وبعد ذلك توجه إلى شاطئ البحر ودهن قدميه ونزل البحر الرابع ومشى على الماء ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جزيرة، فرأى أرضها من الرمل الناعم الأبيض وليس فيها شيء من الشجر ولا من الزرع فتمشى فيها ساعة فوجد وحشها الصقور وهي معششة في ذلك الرمل، فلما رأى ذلك دهن قدميه ونزل في البحر الخامس وسار فوق الماء ومازال سائراً ليلاً ونهاراً، حتى أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور وفيها العروق التي يصنع منها الذهب وفيها أشجار غريبة ما رأى مثلها في سياحته وأزهارها كلون الذهب فطلع منها بلوقيا إلى تلك الجزيرة وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما جن عليه الظلام صارت الأزهار تضيء في تلك الجزيرة كالنجوم فتعجب بلوقيا من هذه الجزيرة وقال: أن الأزهار التي في هذه الجزيرة هي التي تيبس من الشمس وتسقط على الأرض فتضربها الرياح فتجتمع تحت الحجارة وتصير أكسيراً فيأخذونها ويصنعون منها الذهب، ثم إن بلوقيا نام في تلك الجزيرة إلى وقت الصباح وعند طلوع الشمس دهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر السادس وسار ليالي وأياماً حتى أقبل على جزيرة فطلع عليها وتمشى فيها ساعة فرأى فيها جبلين وعليهما أشجار كثيرة وأثمار تلك الشجرة كرؤوس الآدميين وهي معلقة من شعورها ورأى فيها أشجاراً أخرى أثمارها طيور خضر معلقة من أرجلها وفيها أشجار تتوقد مثل النار ولها فواكه مثل الصبر وكل من سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها، ورأى بها فواكه تبكي وفواكه تضحك ورأى بلوقيا في تلك الجزيرة عجائب، ثم إنه تمشي إلى شاطئ البحر فرأى شجرة عظيمة فجلس تحتها إلى وقت العشاء.
فلما أظلم الظلام طلع فوق الشجرة وصار يتفكر في مصنوعات الله تعالى فبينما هو كذلك إذا بالبحر قد اختلط وطلع منه نبات البحر وفي يد كل واحدة منهن جوهرة تضيء مثل المصباح وسرن حتى أتين تلك الشجرة وجلسن ولعبن ورقصن وطربن فصار بلوقيا يتفرج عليهن وهن في هذه الحالة ولم يزلن في لعب إلى الصباح.
فلما أصبحن نزلن إلى البحر فتعجب منهن بلوقيا ونزل من فوق الشجرة ودهن قدميه من الماء الذي معه ونزل البحر السابع وسار ولم يزل سائراً مدة شهرين وهو لا ينظر جبلاً ولا جزيرة ولا براً ولا وادياً ولا ساحلاً حتى قطع ذلك البحر وقاسى فيه جوعاً عظيماً حتى صار يخطف السمك من البحر ويأكله نيئاً من شدة جوعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما قاسى في البحر الجوع العظيم وصار يخطف السمك من البحر ويأكله نيئاً من شدة جوعه ولم يزل سائراً على هذه الحالة حتى انتهى إلى جزيرة أشجارها كثيرة وأنهارها غزيرة، فطلع إلى تلك الجزيرة وصار يمشي فيها ويتفرج يميناً وشمالاً وكان ذلك في وقت الضحى وما زال يتمشى حتى أقبل على شجرة تفاح، فمد يده ليأكل من تلك الشجرة إذا بشخص صاح عليه من تلك الشجرة وقال له: إن تقربت إلى هذه الشجرة وأكلت منها شيئاً قسمتك نصفين، فنظر بلوقيا إلى ذلك الشخص فرآه طويلاً طوله أربعون ذراعاً، بذراع أهل الزمان، فلما رآه بلوقيا خاف منه خوفاً شديداً وامتنع عن تلك الشجرة.
ثم قال بلوقيا: لي شيء تمنعني من الأكل من هذه الشجرة؟ فقال له: لأنك ابن آدم وأبوك نسي عهد الله فعصها وأكل من الشجرة فقال له بلوقيا: أي شيء أنت ولمن هذه الجزيرة والأشجار وما اسمك؟ فقال له الشخص: أنا اسمي شراهيا وهذه الأشجار والجزيرة للملك صخر، وأنا من أعوانه، وقد وكلني على هذه الجزيرة. ثم أن شراهيا سأل بلوقيا وقال له: من أنت ومن أين أتيت إلى هذه البلاد؟ فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر، فقال له شراهيا: لاتخف ثم جاء له بشيء من الأكل فأكل بلوقيا حتى اكتفى ثم ودعه وسار ولم يزل سائراً مدة عشرة أيام، فبينما هو سائر في جبال ورمال إذ نظر غبرة عاقدة في الجو فقصد بلوقيا صوب تلك الغبرة، فسمع صياحاً وضرباً وهرجاً عظيماً، فمشى بلوقيا نحو تلك الغبرة حتى وصل إلى واد عظيم طوله مسيرة شهرين ثم تأمل بلوقيا في جهة ذلك الصياح، فرأى أناساً راكبين على خيل وهم يقتتلون مع بعضهم، وقد جرى الدم بينهم حتى صار مثل النهر ولهم أصوات الرعد وفي أيديهم رماح وسيوف وأعمدة من الحديد وقسى ونبال، وهم في قتال عظيم فأخذه خوف شديد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى هؤلاء الناس بأيديهم السلاح وهم في قتال عظيم أخذه الخوف الشديد وتحير في أمره فبينما هو كذلك إذ رأوه فلما رأوه امتنعوا عن بعضهم وتركوا الحرب، ثم أتت إليه طائفة منهم فلما قربوا منه تعجبوا من خلقته ثم تقدم إليه فارس منهم وقال له: أي شيء أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين رائح؟ ومن دلك على هذا الطريق حتى وصلت إلى بلادنا؟ فقال له بلوقيا: أنا من بني آدم وجئت هائماً في حب محمد صلى الله عليه وسلم ولكني تهت عن الطريق، فقال له الفارس: نحن ما رأينا ابن آدم قط ولا أتى إلى هذه الأرض وصاروا يتعجبون منه ومن كلامه.
ثم إن بلوقيا سألهم وقال لهم أي شيء أنتم أيتها الخلقة؟ قال له الفارس: نحن من الجان فقال له بلوقيا: يا أيها الفارس ما سبب القتال الذي بينكم وأين مسكنكم وما اسم هذا الوادي وهذه الأراضي؟ فقال له الفارس نحن مسكننا الأرض البيضاء وفي كل عام يأمرنا الله تعالى أن نأتي إلى هذه الأرض ونغزو الجان الكافرين. فقال له بلوقيا: وأين الأرض البيضاء؟ فقال له الفارس: خلف جبل قاف بمسيرة خمسة وسبعين سنة وهذا الأرض يقال لها: أرض شاد بن عاد ونحن أتينا إليها لنغزوها، وما لنا شغل سوى التسبيح والتقديس ولنا ملك يقال له: الملك صخر وما يمكن إلا أن تروح معنا إليه حتى ينظرك ويتفرج عليك.
ثم إنهم ساروا وبلوقيا معهم، حتى أتوا منزلهم فنظر بلوقيا خياماً من الحرير الأخضر، لا يعلم عددها إلا الله تعالى، ورأى بينها خيمة منصوبة من الحرير الأحمر واتساعها مقدار ألف ذراع وأطنابها من الحرير الأزرق وأوتادها من الذهب والفضة، فتعجب بلوقيا من تلك الخيمة، ثم إنهم ساروا بي حتى أقبلوا على الخيمة فإذا هي خيمة الملك صخر. ثم دخلوا به حتى أتوا قدام الملك صخر، فنظر بلوقيا إلى الملك فرآه جالساً على تخت عظيم من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجواهر، وعلى يمينه ملوك الجان وعلى يساره الحكماء والأمراء وأرباب الدولة وغيرهم فلما رآه الملك صخر أمر أن يدخلوا به عنده فدخلوا به عند الملك فتقدم بلوقيا وسلم عليه وقبل الأرض بين يديه فرد عليه السلام الملك صخر ثم قال له: ادن مني أيها الرجل فدنا منه بلوقيا حتى صار بين يديه فعند ذلك أمر الملك صخر أن ينصبوا له كرسياً بجانبه فنصبوا له كرسياً بجانب الملك ثم أمره الملك صخر أن يجلس على ذلك الكرسي فجلس بلوقيا عليه.
ثم إن الملك صخر سأل بلوقيا وقال له: أي شيء أنت؟ فقال له: أنا من بني آدم من بني إسرائيل فقال له الملك صخر: احك لي حكايتك وأخبرني بما جرى لك وكيف أتيت إلى هذه الأرض؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له في سياحته من الأول إلى ا لآخر فتعجب الملك صخر من كلامه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما أخبر الملك صخر بجميع ما جرى له في سياحته من الأول إلى الآخر تعجب من ذلك، ثم أمر الفراشين أن يأتوا بسماط، فأتوه به ومدوه، ثم إنهم أتوا بصواني من الذهب الأحمر وصواني من الفضة وصواني من النحاس وبعض الصواني فيها خمسون جملاً مسلوقة وبعضها فيها عشرون جملاً وبعضها فيها خمسون رأساً من الغنم وعدد الصواني ألف وخمسمائة صينية. فلما رأى بلوقيا ذلك تعجب غاية العجب ثم إنهم أكلوا وأكل بلوقيا معهم حتى اكتفى وحمد الله تعالى وبعد ذلك رفعوا الطعام وأتوا بفواكه فأكلوا ثم بعد ذلك سبحوا الله وصلوا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بلوقيا ذكر محمد تعجب وقال للملك صخر: أريد أن أسألك بعض مسائل فقال له الملك صخر: سل ماتريد، فقال له بلوقيا: يا ملك أي شيء أنتم ومن أين أصلكم ومن أين تعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم حتى تصلون عليه وتحبونه؟ فقال له الملك صخر: يا بلوقيا إن الله تعالى خلق النار سبع طبقات بعضها فوق بعض وبين كل طبقة مسيرة ألف عام، وجعل اسم الطبقة الأولى جهنم وأعدها لعصاة المؤمنين الذين يموتون من غير توبة، واسم الطبقة الثانية لظى وأعدها للكفار، واسم الطبقة الثالثة الجحيم وأعدها ليأجوج ومأجوج، واسم الرابعة السعير وأعدها لقوم إبليس واسم الخامسة سقر وأعدها لتارك الصلاة واسم السادسة الحطمة وأعدها لليهود والنصارى واسم السابعة الهاوية وأعدها للمنافقين.
فهذه السبع طبقات، فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذاباً من الجميع لأ،ها هي الطبقة الفوقانية، قال الملك صخر: نعم هي أهون الجميع عذاباً ومع ذلك فيها ألف جبل من النار وفي كل جبل سبعون ألف واد من النار وفي كل واد سبعون ألف مدينة من النار وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة سبعون ألف بيت من النار وفي كل بيت سبعون ألف تخت من ال نار، وفي كل تخت سبعون ألف نوع من العذاب وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذاباً من عذابها لأنها هي الطبقة الأولى، وأما الباقي فلا يعلم عدد ما فيها من أنواع العذاب إلا الله تعالى، فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك صخر وقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته بكى، وقال: يا ملك كيف يكون حالنا؟ فقال له الملك صخر: يا بلوقيا لا تخف والعم أن من كان يحب محمد لم تحرقه النار وهو معتوق لأجل محمد صلى الله عليه وسلم وكل من كان على ملته تهرب منه النار، وأما نحن فخلقنا الله تعالى من النار وأول ما خلق الله المخلوقات في جهنم خلق شخصين من جنوده، أحدهما اسمه خليت والآخر اسمه مليت وجعل خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب.
وكان ذنب مليت على صورة لأنثى ولونها أبلق، وذنب خليت على صورة ذكر وهو في هيئة حية، وذنب مليت في هيئة سلحفاة، وطول ذنب خليت مسيرة عشرين سنة، ثم أمر الله تعالى ذنبيهما أن يجتمعا مع بعضيهما ويتناكحا فتوالد منهما حيات وعقارب ومسكنهما في النار ليعذب الله بها من يدخلها.
ثم إن تلك الحيات والعقارب تناسلوا وتكاثروا ثم بعد ذلك أمر الله تعالى ذنبي خليت ومليت أن يجتمعا ويتناكحا ثاني مرة، فاجتمعا وتناكحا فحمل ذنب مليت من ذنب خليت، فلما وضعت ولدت سبعة ذكور وسبع إناث فتربوا حتى كبروا فلما كبروا تزوج الإناث بالذكور وأطاعوا والدهم إلا واحداً منهم عصى والده، فصار دودة وتلك الدودة هي إبليس لعنه الله تعالى وكان من المقربين فإنه عبد الله تعالى حتى ارتفع إلى السماء وتقرب من الرحمن وصار رئيس المقربين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال له: إن إبليس كان عبد الله تعالى وصار رئيس المقربين ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أمر إبليس بالسجود له فامتنع من ذلك فطرده الله تعالى ولعنه فلما تناسل جاء ت منه الشياطين. وأما الستة ذكور الذين قبلهم فهم الجان المؤمنون ونحن من نسلهم وهذا أصلنا يا بلوقيا فتجب بلوقيا من كلام الملك صخر، ثم إنه قال: يا ملك أريد منك أن تأمر واحداً من أعوانك ليوصلني إلى بلادي فقال له الملك صخر: ما نقدر أن نفعل شيئاً من ذلك إلا إذا أمرنا الله تعالى، ولكن يا بلوقيا إن شئت الذهاب من عندنا فإني أحضر لك فرساً من خيلي وأركبك على ظهرها وآمرها أن تسير بك إلى آخر حكمي، فإذا وصلت إلى آخر حكمي يلاقيك جماعة ملك اسمه براخيا، فينظرون الفرس فيعرفونها وينزلونك من فوقها ويرسلونها إلينا وهذا الذي نقدر عليه لا غير.
فلما سمع بلوقيا هذا الكلام بكى وقال للملك: افعل ما تريد فأمر الملك أن يأتوا له بالفرس فأتوا له بالفرس وأركبوه على ظهرها، وقالوا له: احذر أن تنزل من فوق ظهرها أو تضربها أو تصيح في وجهها فإن فعلت ذلك أهلكتك بل استمر راكباً عليها مع السكون حتى تقف بك، فانزل عن ظهرها ورح إلى حال سبيلك فقال لهم بلوقيا: سمعاً وطاعة، ثم ركب الفرس وسار في الخيام مدة طويلة، ولم يمر في سيره إلا على مطبخ الملك صخر فنظر بلوقيا إلى قدور معلقة في كل قدر خمسون جملاً والنار تلتهب من تحتها فلما رأى بلوقيا تلك القدور وكبرها تأملها وتعجب منها، وأكثر التعجب والتأمل فيها فنظر إليه الملك فرآه متعجباً من المطبخ فظن الملك في نفسه أنه جائع فأمر أن يجيئوا له بجملين مشويين وربطوهما خلفه على ظهر الفرس ثم إنه ودعهم وسار حتى وصل إلى آخر حكم الملك صخر، فوقفت الفرس فنزل عنها بلوقيا ينفض تراب السفر من ثيابه. وإذا برجال أتوا إليه ونظروا الفرس فعرفوها، فأخذوها وساروا وبلوقيا معهم حتى وصلوا إلى الملك براخيا فلما دخل بلوقيا على الملك براخيا سلم عليه فرد عليه السلام، ثم إن بلوقيا نظر إلى الملك فرآه جالساً في صيوان عظيم وحوله عساكر وأبطال وملوك الجان على يمينه وشماله ثم إن الملك أمر بلوقيا أن يدنو منه فتقدم بلوقيا إليه فأجلسه الملك بجانبه، وأمر أن يأتوا بالسماط فنظر بلوقيا إلى حال الملك براخيا فرآه مثل حال الملك صخر، ولما حضرت الأطعمة أكلوا وأكل بلوقيا حتى اكتفى وحمد الله تعالى ثم إنهم رفعوا الأطعمة وأتوا بالفاكهة فأكلوا، ثم إن الملك براخيا سأل بلوقيا وقال له: متى فارقت الملك صخر؟ فقال له: من مدة يومين، فقال الملك براخيا لبلوقيا: أتدري مسافة كم يوم سافرت في هذين اليومين؟ قال: لا، قال: مسيرة سبعين شهراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة الثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك براخيا قال لبلوقيا: إنك سافرت في هذين اليومين مسيرة سبعين شهراً، ولكنك لما ركبت الفرس فزعت منك وعلمت منك أنك ابن آدم وأرادت أن ترميك عن ظهرها، فأثقلوها بهذين الجملين، فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من الملك براخيا تعجب وحمد الله تعالى على السلامة، ثم إن الملك براخيا قال لبلوقيا: أخبرني بما جرى لك وكيف أتيت إلى هذه البلاد؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له وكيف ساح وأتى إلى هذه البلاد فلما سمع الملك كلامه تعجب منه ومكث عنده شهرين.
فلما سمع حاسب كلام ملكة الحيات تعجب غاية العجب ثم قال لها: أريد من فضلك وإحسانك أن تأمري أحداً من أعوانك أن يخرجني إلى وجه الأرض حتى أروح إلى أهلي، فقالت له ملكة الحيات: يا حاسب كريم الدين اعلم أنك متى خرجت إلى وجه الأرض تروح أهلك ثم تدخل الحمام وتغتسل وبمجرد ما تفرغ من غسلك أموت أنا لأن ذلك يكون سبباً لموتي فقال حاسب: أنا أحلف لك ما أدخل الحمام طول عمري، وإذا وجب علي الغسل أغتسل في بيتي. فقالت له ملكة الحيات: لو حلفت لي مائة يمين ما أصدقك أبداً، فإن هذا لا يكون واعلم أنك ابن آدم مالك عهد، فإن أباك آدم قد عاهد الله ونقض عهده وكان الله تعالى خمر طينته أربعين صباحاً وأسجد له ملائكته وبعد ذلك الكلام نسي العهد ونسيه خالقه. فلما سمع حاسب ذلك الكلام سكت وبكى ومكث يبكي مدة عشرة أيام ثم قال لها حاسب: أخبريني بالذي جرى لبلوقيا بعد قعوده شهرين عند الملك براخيا؟ فقالت له: اعلم يا حاسب أن بلوقيا بعد قعوده عند الملك بارخاي ودعه وسار في البراري ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جبل عال فطلع ذلك الجبل فرأى فوقه ملكاً عظيماً جالساً على ذلك الجبل وهو يذكر الله تعالى ويصلي على محمد وبين يدي ذلك الملك لوح مكتوب فيه شيء أبيض وشيء أسود وهو ينظر في اللوح وله جناحان أحدهما ممدود بالمشرق والآخر ممدود بالمغرب فأقبل عليه بلوقيا وسلم عليه فرد عليه السلام، ثم إن الملك سأل بلوقيا وقال له: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وغلى أين رائح؟ وما اسمك؟.
فقال بلوقيا: أنا من بني آدم من قوم بني إسرائيل وأنا سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم واسمي بلوقيا، فقال الملك: ما الذي جرى لك في مجيئك إلى هذه الأرض؟ فحكى له بلوقيا جميع ما جرى له وما رأى في سياحته.
فلما سمع الملك من بلوقيا ذلك الكلام تعجب منه، ثم إن بلوقيا سأل الملك وقال: أخبرني أنت الآخر بهذا اللوح وأي شيء مكتوب فيه، وما هذا الأمر الذي فيه؟ وما اسمك؟ فقال له: أنا اسمي ميخائيل وأنا موكل بتصريف الليل والنهار وهذا شغلي إلى يوم القيامة.
فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام تعجب منه ومن صورة ذلك الملك ومن هيبته وعظم خلقته، ثم إن بلوقيا ودع ذلك الملك وسار ليلاً وهاراً حتى وصل إلى مرج عظيم، فتمشى في ذلك المرج فرأى فيه سبعة أنهر ورأى أشجاراً كثيرة، فتعجب بلوقيا من ذلك المرج العظيم وسار في جوانبه فرأى فيه شجرة عظيمة وتحت تلك الشجرة أربعة ملائكة، فتقدم إليهم بلوقيا ونظر إلى خلقتهم فرأى واحداً منهم صورته صورة بني آدم والثاني صورته صورة وحش، والثالث صورته صورة طير، والرابع صورته صورة ثور وهم مشغولون بذكر الله تعالى، ويقول كل منهم: إلهي وسيدي ومولاي بحقك وبجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أن تغفر لكل مخلوق خلقته على صورتي وتسامحه إنك على كل شيء قدير.
فلما سمع بلوقيا منهم ذلك الكلام تعجب وسار من عندهم ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جبل قاف فطلع فوقه فرأى هناك ملكاً عظيماً وهو جالس يسبح الله تعالى ويقدسه ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ذلك الملك في قبض وبسط أو طي ونشر فبينما هو في هذا الأمر إذ أقبل عليه بلوقيا وسلم عليه فرد الملك عليه السلام وقال له: أي شيء أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين رائح؟ وما اسمك؟ فقال بلوقيا: أنا من بني إسرائيل من بني آدم واسمي بلوقيا وأنا سائح فلي حب محمد صلى الله عليه وسلم ولكن تهت في طريقي وحكى له جميع ما جرى.
فلما فرغ بلوقيا من حكايته سأل الملك وقال له: من أنت؟ وما هذا الجبل؟ وما هذا الشغل الذي أنت فيه؟ فقال له: اعلم يا بلوقيا أن هذا جبل قاف المحيط بالدنيا وكل أرض خلقها الله في الدنيا فقبضتها في يدي فإذا أراد الله تعالى بتلك الأرض شيئاً من زلزلة أو قحط أو خصب أو قتال أو صلح، أمرني أن أفعله فأفعل وأنا في مكاني وأعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا: واعلم أن يدي قابضة بعروق الأرض فقال بلوقيا للملك: هل خلق الله في جبل قاف أرضاً غير هذه الأرض التي أنت فيها؟ قال الملك: نعم خلق الله ارضاً بيضاء مثل الفضة وما يعلم قدر اتساعها إلا الله سبحانه وتعالى، وأسكنها ملائكة أكلهم وشربهم التسبيح والتقديس والإكثار من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وفي كل ليلة جمعة يأتون إلى هذا الجبل ويجتمعون ويدعون الله تعالى طول الليل إلى وقت الصباح ويهدون ثواب ذلك التسبيح والتقديس والعبادات للمذنبين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن من اغتسل غسل الجمعة وهذا حالهم إلى يوم القيامة.
ثم إن بلوقيا سأل الملك وقال له: هل خلق الله جبالاً خلف جبل قاف؟ فقال الملك: نعم خلف جبل قاف قدره مسيرة خمسمائة عام وهو من الثلج والبرد وهو الذي منع حر جهنم عن الدنيا، ولولا ذلك الجبل لاحترقت الدنيا من حر نار جهنم، وخلف جبل قاف أربعون أرضاً في كل منها قدر الدنيا أربعون مرة، منها ما هو من الذهب ومنها ما هو من الفضة ومنها ما هو من الياقوت ولكل أرض من تلك الأراضي لون وأسكن الله في تلك الأراضي ملائكة لا شغل لهم سوى التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير ويدعون الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يعرفون حواء ولا آدم ولا ليلاً ولا نهاراً، واعلم يا بلوقيا أن الأرض سبع طباق بعضها فوق بعض. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا: واعلم يا بلوقيا أن الأرض سبع طبقات بعضها فوق بعض وخلق الله ملكاً من الملائكة لا يعلم أوصافه ولا قدره إلا الله عز وجل، وهو حامل السبع أراضي على كاهله وخلق الله تعالى تحت ذلك الملك صخرة، وخلق الله تعالى تحت تلك الصخرة نوراً. وخلق الله تعالى تحت ذلك النور حوتاً، وخلق الله تعالى تحت ذلك الحوت بحراً عظيماً وقد أعلم الله تعالى عيسى عليه السلام بذلك الحوت. فقال له: يارب أرني ذلك الحوت حتى أنظر إليه فأمر الله تعالى ملكاً من الملائكة أن يأخذ عيسى ويروح به إلى الحوت حتى ينظره. فأتى ذلك الملك إلى عيسى عليه السلام وأخذه وأتى به البحر الذي فيه الحوت وقال له: انظر يا عيسى إلى الحوت فنظر عيسى إلى الحوت فلم يره فمر الحوت على عيسى مثل البرق.
فلما رأى ذلك عيسى وقع مغشياً عليه، فلما أفاق أوحى الله إليه وقال: يا عيسى هل رأيت الحوت؟ وهل علمت طوله وعرضه؟ فقال عيسى: وعزتك وجلالك يا رب ما رأيته، ولكن مر على ثور عظيم قدره مسافة ثلاثة أيام ولم أعرف ما شأن ذلك الثور فقال الله له: يا عيسى ذلك الذي مر عليك وقدره ثلاثة أيام إنما هو رأس الثور. واعلم يا عيسى أنني في كل يوم أخلق أربعين حوتاً مثل ذلك الحوت.
فلما سمع ذلك الكلام تعجب من قدرة الله تعالى ثم إن بلوقيا سأل الملك وقال له: أي شيء خلق الله تحت البحر الذي فيه الحوت؟ فقال له الملك: خلق الله تحت البحر هواء عظيماً وخلق الله تحت الهواء ناراً وخلق تحت النار حية عظيمة اسمها فلق ولولا خوف تلك الحية من الله تعالى، لابتلعت جميع ما فوقها من الهواء والنار والملك وما حمله ولم تحس بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال لبلوقيا في وصف الحية ولولا خوفها من الله تعالى لابتلعت جميع ما فوقها من الهواء والنار والملك وما حمله ولم تحس بذلك ولما خلق الله تعالى الحية أوحى إليها: إني أريد منك أن أودع عندك أمانة فاحفظيها فقالت الحية: افعل ما تريد؟ فقال الله تعالى لتلك الحية: افتحي فاك ففتحت فاها فأدخل الله جهنم في بطنها، وقال لها: احفظي جهنم إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة يأمر الله ملائكته أن يأتوا ومعهم سلاسل يقودون بها جهنم إلى المحشر، ويأمر الله تعالى جهنم أن تفتح أبوابها فتفتحها ويطير منها شرر كبار أكبر من الجبال، فلما سمع بلوقيا ذلك الكلام من ذلك الملك بكى بكاء شديداً. ثم إنه ودع الملك وسار إلى ناحية الغرب، حتى أقبل على شخصين فرآهما جالسين وعندهما باب عظيم مقفول فلما قرب منهما رأى أحدهما صورته صورة أسد والآخر صورته صورة ثور فسلم عليهما بلوقيا فردا عليه السلام، ثم إنهما قالا له: أي شيء أنت ومن أين أتيت وإلى أين رائح؟ فقال لهما بلوقيا: أنا من بني آدم وأنا سائح في حب محمد صلى الله عليه وسلم ولكن تهت عن طريقي، ثم إن بلوقيا سألهما وقال لهما: أي شيء أنتما وما هذا الباب الذي عندكما؟ فقالا له: نحن حراس هذا الباب. الذي تراه ومالنا شغل سوى التسبيح والتقديس والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام تعجب، وقال لهما: أي شيء داخل هذا الباب؟ فقالا: لا ندري، فقال لهما: بحق ربكما الجليل أن تفتحا لي هذا الباب حتى أنظر شيئاً داخله فقالا له: ما نقدر أن نفتح هذا الباب، ولا يقدر على فتحه أحد من المخلوقين إلا الأمين جبريل عليه السلام، فلما سمع بلوقيا ذلك تضرع إلى الله تعالى وقال: يا رب ائتني بالأمين جبريل ليفتح لي هذا الباب حتى أنظر ما داخله فاستجاب الله أمر دعائه، وأمر الأمين جبريل أن ينزل إلى الأرض ويفتح باب مجمع البحرين حتى ينظر بلوقيا، فنزل جبريل إلى بلوقيا وسلم عليه وأتى إلى ذلك الباب وفتحه، ثم إن جبريل قال لبلوقيا: ادخل إلى هذا الباب فإن الله أمرني أن أفتحه لك، فدخل بلوقيا وسار فيه ثم إن جبريل قفل الباب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما دخل قفل جبريل الباب وارتفع إلى السماء ورأى بلوقيا داخل الباب بحراً عظيماً نصفه مالح ونصفه حلو وحول ذلك البحر جبلان وهذان الجبلان من الياقوت الأحمر وسار بلوقيا حتى أقبل على هذين الجبلين، فرأى فيهما ملائكة مشغولين بالتسبيح والتقديس، فلما رآهم بلوقيا سلم عليهم فردوا عليه السلام، فسألهم عن البحر وعن هذين الجبلين فقال له الملائكة: إن هذا مكان تحت العرش وإن هذا البحر يمد كل بحر في الدنيا ونحن نقسم هذا الماء ونسوقه إلى الأراضي المالح للأرض المالحة والحلو للأرض الحلوة وهذان الجبلان خلقهما الله ليحفظا هذا الماء وهذا أمرنا إلى يوم القيامة.
ثم إنهم سألوه وقالوا له: من أين أقبلت؟ وإلى أين رائح؟ فحكى لهم بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخر، ثم إن بلوقيا سألهم عن الطريق فقالوا له: اطلع هنا على ظهر هذا البحر ليلاً ونهاراً، فبينما هو سائر وإذا هو بشاب مليح سائر على ظهر البحر فأتى إليه وسلم عليه فرد عليه السلام، ثم إن بلوقيا لما فارق الشاب رأى أربعة ملائكة سائرين على وجه البحر وسيرهم مثل البرق الخاطف فتدقم بلوقيا ووقف في طريقهم فلما وصلوا إليه، سلم عليهم بلوقيا وقال لهم: أريد أن أسألكم بحق العزيز الجليل، ما اسمكم؟ ومن أين أنتم؟ وإلى أين تذهبون؟ فقال واحد منهم: أنا اسمي جبريل، والثاني اسمه إسرافيل، والثالث اسمه ميكائيل، والرابع اسمه عزرائيل، وقد ظهر في المشرق ثعبان عظيم وذلك الثعبان خرب ألف مدينة وأكل أهلها، وقد أمرنا الله تعالى أن نروح إليه ونمسكه ونرميه في جهنم فتعجب منهم بلوقيا ومن عظمهم، وسار على عادته ليلاً ونهاراً حتى وصل إلى جزيرة فطلع عليها وتمشى فيها ساعة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا طلع إلى الجزيرة وتمشى فيها ساعة فرأى شاباً مليحاً والنور يلوح من وجهه، فلما قرب منه بلوقيا رآه جالساً بين قبرين مبنيين وهو ينوح ويبكي، فأتى إليه بلوقيا وسلم عليه فرد عليه السلام ثم إن بلوقيا سأل الشاب وقال له: ماشأنك؟ وما اسمك؟ وما هذان القبران المبنيان اللذان أنت جالس بينهما؟ وما هذا البكاء الذي أنت فيه؟ فالتفت الشاب إلى بلوقيا وبكى بكاء شديد، حتى بل ثيابه من دموعه وقال لبلوقيا: اعلم يا أخي أن حكايتي عجيبة وقصتي غريبة، وأحب أن تجلس عندي حتى تحكي لي ما رأيت في عمرك وما سبب مجيئك إلى هذا المكان وما اسمك وإلى أين رائح؟ واحكي لك أنا الآخر بحكايتي، فجلس بلوقيا عند الشاب وأخبره بجميع ما وقع له في سياحته من الأول إلى الآخر، وأخبره كيف مات والده وخلفه، وكيف فتح الخلوة ورأى فيها الصندوق، وكيف رأى الكتاب الذي فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكيف تعلق قلبه به وطلع سائحاً في حبه وأخبره بجميع ما وقع له إلى أن وصل إليه، ثم قال له: وهذه حكايتي بتمامها والله أعلم وما أدري بالذي يجري علي بعد ذلك، فلما سمع الشاب كلامه تنهد وقال له: يا مسكين أي شيء رأيت في عمرك؟ اعلم يا بلوقيا أنني رأيت السيد سليمان زمانه ورأيت شيئاً لا يعد ولا يحصى، وحكايتي عجيبت وقصتي غريبة، وأريد منك أن تقعد عندي حتى أحكي لك حكايتي، وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية تعجب وقال: يا ملكة الحيات بالله عليك أن تعتقيني وتأمري أحد خدمك أن يخرجني إلى وجه الأرض واحلف لك يميناً أنني لا أدخل الحمام طول عمري، فقالت: إن هذا الأمر لا يكون ولا أصدقك في يمينك، فلما سمع منها ذلك الكلام بكى وبكت الحيات جميعأً لأجله، وصارت تتشفع له عند الملكة وتقول لها: نريد منك أن تأمري إحدانا أن يخرجنه إلى وجه الأرض، ويحلف لك يميناً أنه لا يدخل الحمام طول عمره وكانت ملكة الحيات اسمها يمليخا فلما سمعت يلميخا منهن ذلك الكلام أقبلت على حاسب وحلفته فحلف لها ثم أمرت حية أن تخرجه إلى وجه الأرض، فأتته وأرادت أن تخرجه.
فلما أتت تلك الحية لتخرجه قال لملكة الحيات: أريد منك أن تحكي لي حكاية الشاب الذي قعد عنده بلوقيا ورآه جالساً بين القبرين، فقالت: اعلم يا حاسب أن بلوقيا جلس عند الشاب وحكى له حكايته من أولها إلى آخرها لأجل أن يحكي له الآخر قصته، ويخبره بما جرى له في عمره ويعرفه بسبب قعوده بين القبرين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما حكى للشاب حكايته قال له الشاب: وأي شيء رأيت من العجائب يا مسكين؟ أنا رأيت السيد سليمان في زمانه ورأيت عجائب لا تعد ولاتحصى، واعلم يا أخي أن أبي كان يقال له: الملك طيغموس، وكان يحكم على بلاد كابل وعلى بني شهلان وهم عشرة آلاف بهلوان كل بهلوان منهم يحكم على مائة مدينة ومائة قلعة بأسوارها، وكان يحكم على سبعة سلاطين ويحمل له المال من المشرق إلى المغرب وكان عادلاً في حكمه وقد أعطاه الله تعالى كل هذا ومن عليه بذلك الملك العظيم ولم يكن له ولد وكان مراده في عمره أن يرزقه الله ولداً ذكراً ليخلفه في ملكه بعد موته.
فاتفق أنه طلب العلماء والمنجمين والحكماء وأرباب المعرفة والتقويم يوماً من الأيام وقال لهم: انظروا طالعي وهل يرزقني الله في عمري ولداً ذكراً، فيخلفني في ملكي، ففتح المنجمون الكتب وحسبوا طالعه وناظره من الكواكب ثم قالوا له: اعلم أيها الملك أنك ترزق ولداً ذكراً ولا يكون ذلك الولد إلا من بنت ملك خراسان. فلما سمع طيغموس ذلك منهم فرح فرحاً شديداً وأعطى المنجمين والحكماء مالاً كثيراً لا يعد ولا يحصى وذهبوا إلى حال سبيلهم، وكان عند الملك طيغموس وزيراً كبيراً وكان بهلواناً عظيماً مقوماً بألف فارس، وكان اسمه عين زار، فقال له: يا وزير أريد من ك أن تتجهز للسفر إلى بلاد خراسان وتخطب بنت الملك بهروان ملك خراسان وحكى الملك طيغموس لوزيره عين زار ما أخبره به المنجمون، فلما سمع الوزير ذلك الكلام من الملك طيغموس ذهب من وقته وساعته وتجهز للسفر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير عين زار قام وتجهز للسفر ثم برز إلى خارج المدينة بالعساكر والأبطال والجيوش. هذا ما كان من أمر الوزير.
وأما ما كان من أمر الملك طيغموس فإنه جهز ألفاً وخمسمائة حمل من الحرير والجواهر واللؤلؤ واليواقيت والذهب والفضة والمعادن وجهز شيئاً كثيراً من آلة العرش وحملها على الجمال والبغال وسلمها إلى وزيره عين زار وكتب له كتاباً مضمونه: أما بعد فالسلام على الملك بهروان اعلم أننا قد جمعنا المنجمين والحكماء وأرباب التقاويم فأخبرونا أننا نرزق ولداً ذكراً ولا يكون ذلك الولد إلا من بنتك. وها أنا جهزت لك الوزير عين زار ومعه أشياء كثيرة من آلة العرس، وإني أقمت وزيري مقامي في هذه المسألة ووكلته في قبول العقد وأريد من فضلك أن تقضي للوزير حاجته فإنها حاجتي ولا تبدي في ذلك إهمالاً ولا إمهالاً. وما فعلته من الجميل فهو مقبول منك والحذر من المخالفة في ذلك واعلم يا ملك بهروان أن الله قد من علي بمملكة كابل وملكني على بني شهلان وأعطاني ملكاً عظيماً، وإذا تزوجت بنتك أكون أنا وأنت في الملك شيئاً واحداً وأرسل إليك في كل سنة ما يكفيك من المال. وهذا قصدي منك، ثم إن الملك طيغموس ختم الكتاب وناوله لوزيره عين زار وأمره بالسفر إلى بلاد خراسان فسافر الوزير حتى وصل إلى قرب مدينة الملك بهروان فأعلموه بقدوم وزير الملك طيغموس.
فلما سمع الملك بهروان بذلك الكلام جهز أمراء دولته للملاقاة وجهز معهم أكلاً وشرباً وغير ذلك، وأعطاهم عليقاً لأجل الخيل وأمرهم بالمسير إلى ملاقاة الوزير عين زار. فحملوا الأحمال وساروا حتى أقبلوا على الوزير وحطوا الأحمال ونزلت الجيوش والعساكر، وسلم بعضهم على بعض ومكثوا في ذلك المكان مدة عشرة أيام وهم في أكل وشرب، ثم بعد ذلك ركبوا وتوجهوا إلى المدينة وطلع الملك بهروان إلى مقابلة وزير الملك طيغموس وعانقه وسلم عليه وأخذه وتوجه به إلى القلعة، ثم إن الوزير قدم الأحمال والتحف وجميع الأموال للملك بهروان وأعطاه الكتاب، فأخذه الملك بهروان وقراه وعرف ما فيه وفهم معناه وفرح فرحاً شديداً ورحب بالوزير وقال له: أشر بما تريد ولو طلب الملك طيغموس روحي لأعطيته إياها وذهب الملك بهروان من وقته وساعته إلى بنته وأمها وأقاربها وأعلمهم بذلك الأمر واستشارهم فيه فقالوا له: افعل ما شئت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك استشار البنت وأمها وأقاربها فقالوا له: افعل ما شئت ثم إن الملك بهروان رجع إلى الوزير عين زار وأعلمه بقضاء حاجته ومكث الوزير عند الملك بهروان مدة شهرين ثم بعد ذلك قال الوزير للملك: إننا نريد أن تنعم علينا بما أتيناك فيه ونروح إلى بلادنا. فقال الملك للوزير: سمعاً وطاعة ثم أمر بإقامة العرس وتجهيز الجهاز ففعلوا ما أمرهم به، وبعد ذلك أمر بإحضار وزرائه وجميع الأمراء وأكابر دولته فحضروا جميعاً، ثم أمر بإحضار الرهبان والقسيس فحضروا وعقدوا عقد البنت للملك طيغموس وهيأ الملك بهروان آلة السفر وأعطى بنته من الهدايا والتحف والمعادن وما يكل عنه الوصف، وأمر بفرش أزقة المدينة وزينها بأحسن زينة وسافر الوزير عين زار ببنت الملك بهروان إلى بلاده.
فلما وصل الخبر إلى الملك طيغموس أمر بإقامة الفرح وزينت المدينة ثم إن الملك طيغموس دخل على بنت الملك بهروان وأزال بكارتها، فما مضت عليه أيام قلائل حتى علقت منه ولما أتمت شهرها وضعت ذكراً مثل البدر في ليلة تمامه فلما علم الملك طيغموس أن زوجته وضعت ولداً ذكراً مليحاً فرح فرحاً شديداً وطلب الحكماء والمنجمين وأرباب التقاويم وقال لهم: أريد منكم أن تنظروا طالع هذا المولود وناظره من الكواكب وتخبروني بما يلقاه في عمره فحسب الحكماء والمنجمون طالعه وناظره، فرأوا الولد سعيداً ولكنه يحصل له في أول عمره تعب وذلك عند بلوغه خمس عشرة سنة، فإن عاش بعدها رأى خيراً كثيراً وصار ملكاً عظيماً أعظم من أبيه وعظم سعده وهلك ضده وعاش عيشاً هنيئاً وإن مات فلا سبيل إلى ما فات والله أعلم. فلما سمع الملك ذلك الخبر فرح فرحاً شديداً وسماه جانشاه وسلمه للمراضع والدايات وأحسن تربيته فلما بلغ من العمر خمس سنين علمه أبوه القراءة وصار يقرأ في الإنجيل، وعلمه فنون الحرب والطعن والضرب في أقل من سبع سنين، وجعل يركب للصيد والقنص، وصار بهلواناً عظيماً كاملاً في جميع آلات الفروسية وصار أبوه كلما سمع بفروسيته في جميع آلات الحرب يفرح فرحاً شديداً، فاتفق في يوم من الأيام أن الملك طيغموس أمر عسكره أن يركبوا للصيد والقنص، فطلعت العسكر والجيوش فركب الملك هو وابنه جانشاه وساروا إلى البراري والقفار، واشتغلوا بالصيد والقنص إلى عصر اليوم الثالث فسنحت لجانشاه غزالة عجيبة اللون وشردت قدامه فلما نظر جانشاه إلى تلك الغزالة وهي شاردة قدامه تبعها وأسرع في الجري وراءها، وهي هاربة، فانتبذ سبعة مماليك من مماليك الملك طيغموس وذهبوا في اثر جانشاه فلما نظروا إلى سيدهم وهو مسرع وراء تلك الغزالة راحوا مسرعين وراءه وهم على خيل سوابق ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى بحر فتهاجم الجميع على الغزالة ليمسكوها قنصاً ففرت منهم الغزالة وألقت نفسها في البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو ومماليكه لما هجموا على الغزالة ليمسكوها قنصاً، ففرت منهم ورمت نفسها في البحر، وكان في ذلك البحر مركب صياد فنطت فيه الغزالة، فنزل جانشاه ومماليكه عن خيولهم إلى المركب وقنصوا الغزالة وأرادوا أن يرجعوا إلى البر، وإذا بجانشاه ينظر إلى جزيرة عظيمة، فقال للماليك الذين معه: إني أريد أن أذهب إلى هذه الجزيرة فقالوا له سمعاً وطاعة وساروا بالمركب إلى ناحية الجزيرة حتى وصلوا إليها فلما وصلوا إليها طلعوا فيها وساروا يتفرجون عليها. ثم بعد ذلك عادوا إلى المركب ونزلوا فيها وساروا والغزالة معهم قاصدين البر الذي أتوا منه فأمسى عليهم المساء وتأهبوا في البحر فهبت عليهم الريح وأجرت المركب في وسط البحر وناموا إلى وقت الصباح، ثم انتبهوا لا يعرفون الطريق وهم لا يزالوا سائرين في البحر. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر الملك طيغموس والد جانشاه فإنه تفقد ابنه فلم يره فأمر العسكر أن يروح جماعة منهم إلى طريق فصاروا دائرين يفتشون على ابن الملك طيغموس وذهب جماعة منهم إلى البحر، فرأوا المملوك الذي خلوه عند الخيل فأتوه وسألوه عن سيده وعن الستة مماليك فأخبرهم المملوك بما جرى لهم فأخذوا المملوك والخيل ورجعوا إلى الملك طيغموصس وأخبروه بذلك الخبر فلما سمع الملك ذلك الكلام بكى بكاء شديداً ورمى التاج من فوق رأسه وعض يديه ندماً وقام من وقته وكتب كتباً، وأرسلها إلى الجزائر التي في البحر وجمع مائة مركب وأنزل فيها عساكر، وأمرهم أن يدوروا في البحر ويفتشوا على ولده جانشاه ثم إن الملك أخذ بقية العساكر والجيوش ورجع إلى المدينة وصار في نكد شديد، ولما علمت والدة جانشاه بذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة جانشاه لما علمت بذلك لطمت على وجهها وأقامت عزاءه. هذا ما كان من أمرهم.
وأما ما كان من أمر جانشاه والمماليك الذين معه، فإنهم لم يزالوا تائهين في البحر، ولم يزل الرواد دائرين يفتشون عليهم في البحر مدة عشرة أيام فما وجدوهم فرجعوا إلى الملك وأعلموه بذلك ثم إن جانشاه والمماليك الذين معه هب عليهم ريح عاصف وساق المركب الذي هم فيه حتى أوصله إلى جزيرة فطلع جانشاه والستة مماليك من المركب وتمشوا في تلك الجزيرة حتى وصلوا إلى عين ماء في وسط تلك الجزيرة، فرأوا رجلاً جالساً على بعد قريباً من العين فأتوه وسلموا عليه فرد عليهم السلام ثم إن الرجل كلمهم بكلام مثل صفير الطير.
فلما سمع جانشاه كلام الرجل تعجب، ثم إن الرجل التفت يميناً وشمالاً وبينما هم يتعجبون من ذلك الرجل إذ هو انقسم إلى نصفين وراح كل نصف في ناحية وبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم أصناف رجال لا تحصى ولا تعد وأتوا من جانب الجبل وساروا حتى وصلوا إلى العين، وصار كل واحد منهم منقسماً نصفين ثم إنهم أتوا جانشاه والمماليك ليأكلوهم. فلما رآهم جانشاه يريدون أكلهم هرب منهم وهربت معه المماليك فتبعهم هؤلاء الرجال فأكلوا من المماليك ثلاثة وبقي ثلاثة مع جانشاه، ثم إن جانشاه نزل في المركب ومعه الثلاثة مماليك ودفعوا المركب إلى وسط البحر وساروا ليلاً ونهاراً وهم لا يعرفون أين تذهب بهم المركب، ثم إنهم ذبحوا الغزالة وصاروا يقتاتون منها فضربتهم الرياح فألقتهم إلى جزيرة أخرى فنظروا إلى تلك الجزيرة فرأوا فيها أشجاراً وأنهاراً وأثماراً وبساتين وفيها من جميع الفواكه والأنهار تجري من تحت تلك الأشجار وهي كأنها الجنة.
فلما رأى جانشاه تلك الجزيرة أعجبته وقال للماليك: من فيكم يطلع هذه الجزيرة وينظر لنا خبرها؟ فقال مملوك منهم: أنا أطلع وأكشف لكم عن خبرها وأرجع إليكم، فقال جانشاه: هذا أمر لايكون وإنما تطلعون أنتم الثلاثة وتكشفون خبر هذه الجزيرة وأنا قاعد لكم في المركب حتى ترجعوا، ثم إن جانشاه أنزل الثلاثة مماليك ليكشفوا عن خبر هذه الجزيرة، فطلع الثلاثة إلى الجزيرة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المماليك الثلاثة لما طلعوا إلى الجزيرة داروا فيها شرقاً وغرباً فلم يجدوا فيها أحداً ثم مشوا فيها إلى وسطها فرأوا على بعد قلعة من الرخام الأبيض وبيوتها من البلور الصافي، وفي وسط تلك القلعة بستان فيه جميع الفواكه اليابسة والرطبة ما يكل عنه الوصف وفيه جميع المشموم ورأوا في تلك القلعة أشجاراً وأثماراً وأطياراً تناغي على تلك الأشجار، وفيها بحيرة عظيمة وبجانب البحيرة إيوان عظيم وعلى ذلك الإيوان كراسي منصوبة وفي وسط تلك الكراسي تخت منصوب من الذهب الأحمر مرصع بأنواع الجواهر واليواقيت.
فلما رأى المماليك حسن تلك القلعة وذلك البستان داروا في تلك القلعة يميناً وشمالاً فما رأوا فيها أحداً، ثم طلعوا من القلعة ورجعوا إلى جانشاه وأعلموه بما رأوه فلما سمع جانشاه ابن الملك منهم هذا الخبر قال: إنه لابد لي من أن أتفرج في هذه القلعة، ثم إن جانشاه طلع من المركب وطلعت معه المماليك وساروا حتى أتوا القلعة ودخلوا فيها فتعجب جانشاه من حسن ذلك المكان ثم داروا يتفرجون في البستان ويأكلون من تلك الفواكه ولم يزالوا دائرين إلى وقت المساء، ولما أمسى عليهم المساء أتوا إلى الكراسي المنصوبة وجلس جانشاه على التخت المنصوب في الوسط، وصارت الكراسي منصوبة عن يمينه وشماله ثم إن جانشاه لما جلس على ذلك التخت صار يتفكر ويبكي على فراق تخت والده وعلى فراق بلده وأهله وأقاربه، وبكت حوله الثلاثة مماليك.
فبينما هم في ذلك الأمر إذا بصيحة عظيمة من جانب البحر فالتفتوا إلى تلك الصيحة، فإذا هم قردة كالجراد المنتشر، وكانت تلك القلعة والجزيرة للقردة ثم إن هؤلاء القردة لما رأوا المركب الذي أتى فيه جانشاه خسفوه على شاطئ البحر، وأتوا إلى جانشاه وهو جالس في القلعة قالت ملكة الحيات كل هذا يا حاسب مما يحكيه الشاب الجالس بين القبرين لبلوقيا.
فقال لها حاسب: وما فعل جانشاه مع القردة بعد ذلك؟ قالت له ملكة الحيات: لما طلع جانشاه جلس على التخت والمماليك عن يمينه وشماله أقبل عليهم القردة فأفزعوهم وأخافوهم خوفاً عظيماً، ثم دخلت جماعة من القردة وتقدموا إلى أن قربوا من التخت الجالس عليه جانشاه وقبلوا الأرض بين يديه ووضعوا أيديهم على صدورهم ووقفوا قدامه ساعة، وبعد ذلك أقبلت جماعة منهم ومعهم غزلان، فذبحوها وأتوا بها إلى القلعة وسلخوها وقطعوا لحمها وشووها حتى طابت للأكل، وحطوها في صيوان من الذهب والفضة ومدوا السماط وأشاروا إلى جانشاه وجماعته أن يأكلوا فنزل جانشاه من فوق التخت وأكل وأكلت معه القرود والمماليك حتى اكتفوا من الأكل، ثم إن القرود رفعوا سماط الطعام وأتوا بفاكهة فأكلوا منها وحمدوا الله تعالى، ثم إن جانشاه أشار إلى أكابر القرود بالإشارة وقال لهم: ماشأنكم ولمن هذا المكان فقال القردة بالإشارة اعلم أن هذا المكان كان لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وكان يأتي إليه في كل سنة مرة يتفرج فيه ويروح من عندنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه أخبرته القرود عن القلعة وقالوا له أن هذا المكان لسيدنا سليمان بن داود، وكان يأتي إليه في كل سنة مرة يتفرج ويروح من عندنا ثم قالت له القرود: اعلم أيها الملك أنك بقيت علينا سلطاناً ونحن في خدمتك وكل واشرب وكل ما أمرتنا به نفعله، ثم قام القرود وقبلوا الأرض بين يديه، وانصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله، ونام جانشاه فوق التخت ونام المماليك حوله على الكراسي إلى وقت الصبح ثم دخل عليه الأربعة وزراء الرؤساء على القرود وعساكرهم حتى امتلأ ذلك المكان وصاروا حوله صفاً بعد صف وأتت الوزراء واشاروا إلى جانشاه أن يحكم بينهم بالصواب، ثم صاح القرود على بعضهم وانصرفوا وبقي منهم جانب قدام الملك جانشاه من أجل الخدمة ثم أقبل قردة وهم معهم كلاب في صورة الخيل وفي راس كل كلب منهم سلسلة فتعجب جانشاه من هؤلاء الكلاب ومن عظم خلقتها، ثم إن وزراء القرود أشاروا لجانشاه أن يركب ويسير معهم فركب جانشاه والثلاثة المماليك، وركب معهم عسكر القرود وصاروا مثل الجراد المنتشر، بعضهم راكب وبعضهم ماش فتعجب من أمورهم ولم يزالوا سائرين إلى شاطئ البحر. فلما رأى جانشاه المركب الذي كان راكباً فيه قد خسف، التفت إلى وزرائه من القرود وقال لهم: أين المركب الذي كان هنا؟ فقالوا له: اعلم أيها الملك أنكم لما أتيتم إلى جزيرتنا علمنا بأنك تكون سلطاناً علينا وخفنا أن تهربوا منا إذا أتينا عندكم وتنزلوا المركب فمن أجل ذلك خسفناه.
فلما سمع جانشاه هذا الكلام التفت إلى المماليك وقال لهم: ما بقي لنا حيلة في الرواح من عند هؤلاء القرود ولكن نصبر لما قدر الله تعالى ثم ساروا ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى شاطئ نهر وفي جانب ذلك النهر جبل عال فنظر جانشاه إلى ذلك الجبل فرأى غيلاناً كثيرة، فالتفت إلى القرود وقال لهم: ما شأن هؤلاء الغيلان؟ فقال له القرود: اعلم أيها الملك أن هؤلاء الغيلان أعداءنا ونحن أتينا لنقاتلهم، فتعجب جانشاه من هؤلاء الغيلان ومن عظم خلقتهم وهم راكبون على الخيل ورؤوس بعضهم على صورة رؤوس البقر وبعضهم على صورة الجمال.
فلما رأى الغيلان عسكر القرود هجموا عليهم ووقفوا على شاطئ النهر وصاروا يرجمونهم بشي من الحجارة في صورة العواميد وحصل بينهم حرب عظيم فلما رأى جانشاه الغيلان غلبوا لاقرود زعق على المماليك وقال لهم: اطلعوا القسي والنشاب وارموا عليهم بالنبال حتى تقتلوهم وتردوهم عنا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه قال لمماليكه: ارموا الغيلان بالنبال وردوهم عنا ففعل المماليك ما أمرهم به جانشاه حتى حصل للغيلان كرب عظيم وقتل منهم خلق كثير وانهزموا وولوا هاربين.
فلما رأى القرود من جانشاه هذا الأمر نزلوا في النهر وعبروه وجانشاه معهم وطردوا الغيلان حتى غابوا عن أعينهم وانهزموا وقتل منهم كثير ولم يزل جانشاه والقرود سائرين حتى وصلوا إلى جبل عال فنظر جانشاه إلى ذلك الجبل فوجد فيه لوحاً من المرمر مكتوباً فيه: اعلم يا من دخل هذه الأرض إنك تصير سلطاناً على هؤلاء القرود وما يتأتى لك رواحاً من عندهم إلا إن رحت من الدرب الشرقي بناحية الجبل وطوله ثلاثة أشهر وأنت سائر بين الوحوش والغيلان والمردة والعفاريت وبعد ذلك تنتهي إلى البحر المحيط بالدنيا أو رحت من الدرب الغربي وطوله أربعة أشهر وفي رأسه وادي النمل حتى تنتهي إلى جبل عال وذلك الجبل يتوقد مثل النار ومسيرة عشرة أيام، فلما رأى جانشاه ذلك اللوح. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما رأى ذلك اللوح قرأه ورأى فيه ما ذكرناه ورأى في آخر الكلام، ثم تنتهي إلى نهر عظيم وهو يجري وجريانه يخطف البصر من شدة عزمه، وذلك النهر في كل يوم سبت ييبس وبجانبه مدينة أهلها كلهم يهود ولد بن محمد جحود ما فيهم مسلم وما في هذه الأرض إلا هذه المدينة وما دمت مقيم عند القرود هم منصورون على الغيلان واعلم أن هذا اللوح كتبه السيد سليمان بن داود عليه السلام. فلما قرأه جانشاه بكى بكاء شديداً، ثم التفت إلى مماليكه وأعلمهم بما هو مكتوب على اللوح، وبعد ذلك ركب وركب حوله عساكر القرود وصاروا فرحانين بالنصر على أعدائهم، ورجعوا إلى قلعتهم ومكث جانشاه في القلعة سلطاناً على القرود سنة ونصف ثم بعد ذلك أمر جانشاه عساكر القرود أن يركبوا للصيد والقنص، فركبوا وركب معهم جانشاه ومماليكه وساروا في البراري والقفار، ولم يزالوا سائرين من مكان إلى مكان حتى عرف وادي النمل ورأى الإمارة المكتوبة في اللوح المرمر.
فلما رأى ذلك أمرهم أن ينزلوا في ذلك المكان، فنزلوا ونزلت عساكر القرود ومكثوا في أكل وشرب مدة عشرة أيام، ثم اختلى جانشاه بمماليكه لية من الليالي وقال لهم: إني أريد أن نهرب ونروح إلى وادي النمل ونسير إلى مدينة اليهود لعل الله ينجينا من هؤلاء القرود ونروح إلى حال سبيلنا فقالوا له سمعاً وطاعة. ثم إنه صبر حتى مضى من الليل شيء قليل وقام وقامت معه المماليك وتسلحوا بأسلحتهم وحزموا أوساطهم بالسيوف والخناجر وما أشبه ذلك من آلات الحرب وخرج جانشاه هو ومماليكه وساروا من أول الليل إلى وقت الصبح.
فلما انتبه القرود من نومهم لم يروا جانشاه ولا مماليكه فعلموا أنهم هربوا منهم فقالمت جماعة من القرود وركبوا وساروا ناحية الدرب الشرقي وجماعة ركبوا وساروا إلى وادي النمل. فبينما القرود سائرين إذ نظروا جانشاه والمماليك معه وهم مقبلون على وادي النمل فلما رأوهم أسرعوا وراءهم، فلما نظرهم جانشاه هرب وهربت معه المماليك ودخلوا وادي النمل، فما مضت ساعة من الزمان، إلا والقرود قد هجمت عليهم وأرادوا أن يقتلوا جانشاه هو ومماليكه وإذا هم بنمل قد خرج من تحت الأرض مثل الجراد المنتشر كل نملة منه قدر الكلب.
فلما رأى النمل القرود هجم عليهم وأكل منهم جماعة وقتل من النمل جماعة كثيرة ولكن حصل النصر للنمل وصارت النملة تأتي إلى القرد وتضربه فتقسمه نصفين وصار العشرة قرود يركبون النملة الواحدة ويمسكونها ويقسمونها نصفين ووقع بينهم حرب عظيم إلى وقت المساء. ولما أمسى الوقت هرب جانشاه هو والمماليك في بطن الوادي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه لما أقبل المساء هرب جانشاه هو ومماليكه في بطن الوادي إلى الصباح، فلما أصبح الصباح أقبل القرود على جانشاه، فلما رآهم زعق على مماليكه وقال لهم: اضربوهم بالسيوف فسحب المماليك سيوفهم وجعلوا يضربون القرود يميناً وشمالاً. فتقدم قرد عظيم له أنياب مثل أنياب الفيل وأتى إلى واحد من المماليك وضربه فقسمه نصفين وتكاثرت القرود على جانشاه، فهرب إلى أسفل الوادي ورأى هناك نهراً عظيماً وبجانبه نمل عظيم. فلما رأى النمل جانشاه مقبلاً عليه احتاط به، وإذا بمملوك ضرب نملة بالسيف فقسمها نصفين. فلما رأت عساكر النمل ذلك تكاثروا على المملوك وقتلوه فبينما هم في هذا الأمر إذا بالقرود قد أقبلوا من فوق الجبل وتكاثروا على جانشاه.
فلما رأى جانشاه اندفاعهم عليه، نزع ثيابه ونزل في النهر ونزل معه المملوك الذي بقي وعاما في الماء إلى وسط النهر، ثم إن جانشاه رأى شجرة على شاطئ النهر من الجهة الأخرى، فمد يده إلى غصن من أغصانها وتناوله وتعلق به وطلع إلى البر، وأما المملوك فإنه غلب عليه التيار فأخذه وقطعه في الجبل وصار جانشاه واقفاً وحده في البر يعصر ثيابه وينشفها في الشمس ووقع بين القرود والنمل قتال عظيم ثم رجع القرود إلى بلادهم. هذا ما كان من أمر القرود والنمل. وأما ما كان من أمر جانشاه فإنه صار يبكي إلى وقت المساء ثم دخل مغارة واستكن فيها وقد خاف خوفاً شديداً واستوحش لفقد مماليكه، ثم سار ولم يزل سائراً ليالي وأياماً وهو يأكل من الأعشاب حتى وصل إلى الجبل الذي يتوقد مثل النار. فلما أتى إليه سار فيه حتى وصل إلى النهر الذي ينشف كل يوم سبت فلما وصل إليه رآه نهراً عظيماً وبجانبه مدينة عظيمة وهي مدينة اليهود التي رآها مكتوبة في اللوح فأقام هناك إلى أن أتى يوم السبت ونشف النهر، ثم مشى من النهر حتى وصل إلى مدينة اليهود فلم ير فيها أحداً فمشى فيها حتى وصل إلى باب بيت ففتحه ودخله فرأى أهله ساكتين لا يتكلمون أبداً، فقال لهم: إني رجل غريب جائع فقالوا له بإشارة: كل واشرب ولا تتكلم فقعد عندهم وأكل وشرب ونام تلك الليلة، فلما أصبح الصباح سلم عليه صاحب البيت ورحب به وقال له: من أين أنت وإلى أين رائح؟ فلما سمع جانشاه كلام ذلك اليهودي بكى بكاء شديداً وحكى له قصته وأخبره بمدينة أبيه فتعجب اليهودي من ذلك وقال له: ما سمعنا بهذه المدينة قط غير أننا كنا نسمع من قوافل التجار أن هناك بلاداً تسمى بلاد اليمن، فقال جانشاه لليهودي: هذه البلاد التي تخبر بها التجار كم تبعد عن هذا المكان؟ فقال له اليهودي: إن تجار تلك القوافل يزعمون أن مدة سفرهم من بلادهم إلى هنا سنتان وثلاثة أشهر، فقال جانشاه لليهودي: ومتى تأتي القافلة؟ فقال له: تأتي في السنة القابلة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما سأل اليهودي عن مجيء القافلة قال له: تأتي في السنة القابلة فلما سمع جانشاه كلامه بكى بكاء شديداً وحزن على نفسه وعلى مماليكه، وعلى فراق أمه وأبيه، وعلى ما جرى له في سفره، فقال له اليهودي: لا تبك يا شاب واقعد عندنا حتى تأتي القافلة ونحن نرسلك معها إلى بلادك.
فلما سمع جانشاه ذلك الكلام قعد عند اليهودي مدة شهرين وصار في كل يوم يخرج إلى أزقة المدينة ويتفرج فيها، فاتفق أنه خرج على عادته يوماً من الأيام ودار في شوارع المدينة يميناً وشمالاً فسمع رجلاً ينادي ويقول: من يأخذ ألف دينار وجارية حسناء بديعة الحسن والجمال، ويعمل لي شغلاً من وقت الصباح إلى الظهر فلم يجبه أحد، فلما سمع جانشاه كلام المنادي قال في نفسه: لولا أن هذا الشغل خطر ما كان صاحبه يعطي ألف دينار وجارية حسناء في شغل من الصبح إلى الظهر، ثم إن جانشاه تمشى إلى المنادي وقال له: أنا أعمل هذا الشغل.
فلما سمع المنادي من جانشاه هذا الكلام أخذه وأتى به إلى بيت التاجر فدخل هو وجانشاه هذا البيت فوجده بيتاً عظيماً ووجد هناك رجلاً يهودياً آخراً جالساً على كرسي من الأبنوس، فوقف المنادي قدامه وقال له: أيها التاجر إن لي ثلاثة شهور وأنا أنادي في المدينة فلم يجبني أحد إلا هذا الشاب. فلما سمع التاجر كلام المنادي رحب بجانشاه وأخذه ودخل به إلى مكان نفيس وأشار إلى عبيده أن يأتوا له بالطعام، فمدوا له السماط وأتوا بأنواع الأطعمة فأكل التاجر وجانشاه وغسلا أيديهما وأتوا بالمشروب فشربا ثم إن التاجر قام وأتى لجانشاه بكيس فيه ألف دينار وأتى له بجارية بديعة الحسن والجمال وقال له: خذ هذه الجارية وهذا المال في الشغل الذي تعمله، فأخذ جانشاه الجارية والمال وأجلس الجارية بجانبه وقال له التاجر: في غد اعمل لنا الشغل ثم ذهب التاجر من عنده ونام جانشاه هو والجارية في تلك الليلة.
ولما أصبح الصباح راح إلى الحمام فأمر التاجر عبيده أن يأتوا له ببدلة من الحرير فأتوا له ببدلة نفيسة من الحرير وصبروا حتى خرج من الحمام وألبسوه البدلة وأتوا به إلى البيت، فأمر التاجر عبيده أن يأتوا بالجنك والعود والمشروب، فأتوا إليهما بذلك فشربا ولعبا وضحكا إلى أن مضى من الليل نصفه وبعد ذلك ذهب التاجر إلى حريمه، ونام جانشاه مع الجارية إلى وقت الصباح ثم راح إلى الحمام. فلما رجع من الحمام جاء إليه التاجر وقال: إني أريد أن تعمل لنا الشغل فقال جانشاه: سمعاً وطاعة فأمر التاجر عبيده أن يأتوا ببغلتين فأتوا ببغلتين فركب بغلة وأمر جانشاه أن يركب البغلة الثانية فركبها، ثم إن جانشاه والتاجر سارا من وقت الصباح إلى وقت الظهر حتى وصلا إلى جبل عال ما له حد في العلو فنزل التاجر من فوق ظهر البغلة وأمر جانشاه أن ينزل فنزل جانشاه ثم إن التاجر ناول جانشاه سكيناً وحبلاً وقال له: أريد منك أن تذبح هذه البغلة فشمر جانشاه ثيابه وأتى إلى البغلة ووضع الحبل في أربعتها ورماها على الأرض وأخذ السكين وذبحها وسلخها وقطع أربعتها ورأسها وصارت كوم لحم فقال له التاجر: أمرتك أن تشق بطنها وتدخل فيه وأخيط عليك وتقعد هناك ساعة من الزمان ومهما تراه في بطنها فأخبرني به، فشق جانشاه بطن البغلة ودخله وخيطها عليه التاجر ثم تركه وبعد عنه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن التاجر لما خيط بطن البغلة على جانشاه وتركه وبعد عنه واستخفى في ذيل الجبل، بعد ساعة نزل على البغلة طائر عظيم فاختطفها وطار ثم حطها على أعلى الجبل وأراد أن يأكلها فأحس جانشاه بالطائر فشق بطن البغلة وخرج منها، فجفل الطائر لما رأى جانشاه وطار وراح إلى حال سبيله، فقام جانشاه على قدميه وصار ينظر يميناً وشمالاً فلم ير أحداً إلا رجالاً يابسة من الشمس فلما رأى ذلك قال في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم إنه نظر إلى أسفل الجبل فرأى التاجر واقفاً تحت الجبل ينظر إلى جانشاه فلما رآه قال له: ارم لي من الحجارة نحو مائتي حجر وكانت الحجارة من الياقوت والزبرجد والجواهر الثمينة.
ثم إن جانشاه قال للتاجر: دلني على الطريق، وأنا أرمي لك مرة أخرى فلم التاجر تلك الحجارة وحملها على البغلة التي كان راكبها، وسار ولم يرد له جواباً وبقي جانشاه فوق الجبل وحده فصار يستغيث ويبكي ثم مكث فوق الجبل ثلاثة أيام فقام وسار في عرض الجبل مدة شهرين وهو يأكل من أعشاب الجبل وما زال سائراً حتى وصل في سيره إلى طرف الجبل، فلما وصل إلى الجبل رأى وادياً على بعد وفيه أشجار وأثمار وأطيار تسبح الله الواحد القهار فلما أرى جانشاه ذلك الوادي فرح فرحاً شديداً فقصده ولم يزل ماشياً ساعة من الزمان حتى وصل إلى شرم في الجبل ينزل منه السيل، فنزل منه وسار حتى وصل إلى الوادي الذي رآه وهو على الجبل، فنزل الوادي وصار يتفرج فيه يميناً وشمالاً، وما زال يمشي ويتفرج حتى وصل إلى قصر عال شاهق في الهواء فتقرب جانشاه من ذلك القصر حتى وصل إلى بابه فرأى شيخاً مليح الهيئة يلمع وجهه وبيده عكاز من الياقوت وهو واقف على باب القصر فتمشى جانشاه حتى قرب منه وسلم عليه فرد عليه السلام، ورحب به وقال له: اجلس يا ولدي فجلس جانشاه على باب ذلك القصر ثم إن الشيخ سأله وقال له: من أين أتيت إلى هذه الأرض وابن آدم ما داسها قط؟ وإلى أين رائح؟ فلما سمع جانشاه كلام الشيخ بكى بكاء شديداً من كثرة ما قاساه وخنقه البكاء، فقال له الشيخ: يا ولدي اترك البكاء فقد أوجعت قلبي، ثم قام الشيخ وأتى له بشيء من الأكل وحطه قدامه وقال له: كل من هذا فأكل جانشاه حتى اكتفى وحمد الله تعالى، ثم إن الشيخ بعد ذلك سأل جانشاه وقال له: يا ولدي أريد منك أن تحكي لي حكايتك وتخبرني بما جرى لك فحكى له حكايته وأخبره بجميع ما جرى له من أول الأمر إلى أن وصل إليه، فلما سمع كلامه تعجب منه عجباً شديداً، فقال جانشاه للشيخ: أريد منك أن تخبرني بصاحب هذا الوادي ولمن هذا القصر العظيم؟ فقال الشيخ لجانشاه: اعلم يا ولدي أن هذا الوادي، وما فيه وذلك القصر وما حواه للسيد سليمان بن داود عليه السلام وأنا اسمي الشيخ نصر ملك الطيو، واعلم أن السيد سليمان وكلني بهذا القصر.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر ملك الطيور قال لجانشاه: واعلم أن السيد سليمان وكلني بهذا القصر وعلمني منطق الطير وجعلني حاكماً على جميع الطيور الذين في الدنيا، وفي كل سنة تأتي الطيور إلى هذا القصر تنظره وتروح وهذا سبب قعودي في هذا المكان. فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر بكى بكاء شديداً، وقال له: يا والدي كيف تكون حيلتي حتى أروح إلى بلادي؟ فقال له الشيخ: اعلم يا ولدي أنك بالقرب من جبل قاف وليس لك رواح من هذا المكان، إلا أذا أتت الطيور وأوصي عليك واحداً منها فيوصلك إلى بلادك، فاقعد عندي في هذا المكان وكل واشرب وتفرج في هذه المقاصير حتى تأتي الطيور، فقعد جانشاه عند الشيخ نصر وصار يدور في الوادي ويأكل من تلك الفواكه ويتفرج ويضحك ويلعب، ولم يزل مقيماً في ألذ عيش مدة منالزمان حتى قرب مجيء الطيور، قام على قدميه وقال لجانشاه، يا جانشاه خذ هذه المفاتيح وافتح المقاصير التي في هذا القصر وتفرج على ما فيها إلا المقصورة الفلانية فاحذر أن تفتحها ومتى خالفتني وفتحتها ودخلتها لا يحصل لك خير أبداً ووصى جانشاه بهذه الوصية وأكد عليه فيها وسار من عنده لملاقاة الطيور فلما نظرت الطيور الشيخ نصر أقبلت عليه وقبلت يديه جنساً بعد جنس. هذا ما كان من أمر الشيخ نصر.
وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه قام على قدميه وصار سائراً يتفرج على القصر يميناً وشمالاً، وفتح جميع المقاصير التي في القصر حتى وصل إلى المقصورة التي حذره الشيخ نصر من فتحها، فنظر إلى باب تلك المقصورة فأعجبه ورأى عليه قفلاً من الذهب فقال في نفسه: إن هذه المقصورة أحسن من جميع المقاصير التي في القصر، يا ترى ما يكون في هذه المقصورة حتى منعني الشيخ نصر من الدخول فيها؟ فلابد أن أدخل هذه المقصورة وأنظر الذي فيها، وما كان مقدراً على العبد.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جانشاه قال: وما كان مقدراً على العبد لابد أن يستوفيه ثم مد يده وفتح المقصورة ودخلها فرأى فيها بحيرة عظيمة وبجانب البحيرة قصر صغير وهو مبني من الذهب والفضة والبلور وشبابيكه من الياقوت، ورخامه من الزبرجد الأخضر والبلخش والزمرد، واجلواهر مرصعة في الأرض على هيئة الرخام وفي وسط ذلك القصر فسقية من الذهب ملآنة بالماء، وحول تلك الفسقية وحوش وطيور متنوعة من الذهب والفضة يخرج من بطونها الماء، وإذا هب النسيم يدخل في آذانها فتصفر كل صورة بلغتها، وبجانب الفسقية ليوان عظيم وعليه تخت عظيم من الياقوت مرصع بالدر والجواهر وعلى ذلك التخت خيمة منصوبة من الحرير الأخضر مزركشة بالفصوص والمعادن الفاخرة ومقدار سعتها خمسون ذراعاً وداخل تلك الخيمة مخدع فيه البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام.
ورأى جانشاه حول ذلك القصر بستاناً عظيماً وفيه أشجار وأثمار وأنهار وفي دائرة القصر مزارع من الورد والريحان والنسرين، ومن كل مشموم وإذا هبت الرياح على الأشجار تمايلت تلك الأغصان، ورأى جانشاه في ذلك البستان من جميع الأشجار رطباً ويابساً وكل ذلك في تلك المقصورة. فلما رأى جانشاه هذا الأمر تعجب منه غاية العجب وصار يتفرج في ذلك البستان وفي ذلك القصر على ما فيهما من العجائب والغرائب ونظر إلى البحيرة فرأى حصاها من الفصوص النفيسة والجواهر الثمينة والمعادن الفاخرة ورأى في تلك المقصورة شيئاً كثيراً.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه رأى في تلك المقصورة شيئاً كثيراً فتعجب منه، ثم تمشى حتى دخل القصر الذي في تلك المقصورة وطلع على التخت المنصوب على الليوان بجانب الفسقية ودخل الخيمة المنصوبة فوقه ونام في تلك الخيمة مدة من الزمان ثم أفاق وقام يتمشى حتى خرج من باب القصر وجلس على كرسي قدام باب القصر وهو يتعجب من حسن ذلك المكان فبينما هو جالس إذ أقبل عليه من الجو ثلاثة طيور في صفة الحمام ثم إن الطيور حطوا بجانب البحيرة ولعبوا ساعة، وبعد ذلك نزعوا ما عليهم من الريش فصاروا ثلاث بنات كأنهن الأقمار ليس لهن في الدنيا شبيه، ثم نزلن البحيرة وسبحن فيها ولعبن وضحكن. فلما رآهن جانشاه تعجب من حسنهن وجمالهن واعتدال قدودهن، ثم طلعن إلى البر ودرن يتفرجن في البستان فلما رآهن جانشاه طلعن إلى البر كاد عقله أن يذهب وقام على قدميه وتمشى حتى وصل إليهن، فلما قرب منهن سلم عليهن فرددن عليه السلام ثم إنه سألهن وقال لهن: من أنتن أيتها السيدات الفاخرات ومن أين أقبلتن؟ فقالت له الصغيرة: نحن أتينا من ملكوت الله تعالى لنتفرج في هذا المكان فتعجب من حسنهن ثم قال للصغيرة: ارحميني وتعطفي علي وارثي لحالي وما جرى لي في عمري، فقالت له: دع عنك هذا الكلام واذهب إلى حال سبيلك، فلما سمع الكلام بكى بكاء شديداً واشتدت به الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
بدت لي في البستان بالحلل الأخضر مفككة الأزرار محلولة الشـعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا الـتـي كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت إليها ما ألاقي من الهـوى فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبـك صـخـر فقد أنبع الله الزلال من الصخـر
فلما سمع البنات هذا الشعر من جانشاه ضحكن ولعبن وغنين وطربن ثم إن جانشاه أتى إليهن بشيء من الفواكه فأكلن وشربن ونمن مع جانشاه تلك الليلة إلى الصباح، فلما أصبح الصباح لبست البنات ثيابهن الريش وصرن هيئة الحمام وطرن ذاهبات إلى حال سبيلهن، فلما رآهن جانشاه طائرات وقد غبن عن عيونه كاد عقله أن يطير معهن وزعق زعقة عظيمة ووقع مغشياً عليه ومكث في غشيته طوال ذلك اليوم.
فبينما هو طريح على الأرض وإذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور وفتش على جانشاه ليرسله مع الطيور ويروح إلى بلاده فلم يره، فعلم الشيخ نصر أنه دخل المقصورة وقد كان الشيخ نصر قد قال للطيور: إن عندي ولداً صغيراً جاءت به المقادير من بلاد بعيدة إلى هذه الأرض وأريد منكم أن تحملوه وتوصلوه إلى بلاده، فقالوا له: سمعاً وطاعة ولم يزل الشيخ نصر يفتش على جانشاه حتى أتى إلى باب المقصورة التي نهاه عن فتحها فوجده مفتوحاً، فدخل فرأى جانشاه مرمياً تحت شجرة وهو مغشي عليه، فأتاه بشيء من المياه العطرية ورشه على وجهه، فأفاق من غشيته وصار يلتفت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر لما رأى جانشاه مرمياً تحت شجرة أتاه بشيء من المياه العطرية ورشه على وجهه، فأفاق من غشيته وصار يلتفت يميناً وشمالاً، فلم ير عنده أحداً سوى الشيخ نصر فزادت به الحسرة وأنشد هذه الأبيات:
فبدت كبدر التم في لـيلة الـسـعـد منعمة الأطراف ممشـوقة الـقـد
لها مقلة تسبي العقول بسـحـرهـا وثغر حكى الياقوت في حمرة الورد
تحدر فوق الردف أسود شعـرهـا فإياك إياك الحباب مـن الـسـعـد
لقد وفت الأعطاف منها وقلـبـهـا على صبها أقسى من الحجر الصلد
وترسل سهم اللحظ من قوس حاجب يصيب ولم يخطئ ولو كان من بعد
فيا حسنها قـد فـاق كـل مـلاحة وليس لها بـين الـبـرية مـن نـد
فلما سمع الشيخ نصر من جانشاه هذه الأشعار، قال له: يا ولدي أما قلت لك لا تفتح هذه المقصورة ولا تدخلها؟ ولكن أخبني يا ولدي بما رأيت فيها واحك لي حكايتك وعرفني ما جرى لك؟ فحكى له جانشاه حكايته وأخبره بما جرى له مع الثلاث بنات وهو جالس فلما سمع الشيخ نصر كلامه قال له: يا ولدي إن هذه البنات من بنات الجان، وفي كل سنة يأتين إلى هذا المكان فيلعبن وينشرحن إلى وقت العصر ثم يذهبن إلى بلادهن فقال له جانشاه: وأين بلادهن؟ فقال له الشيخ نصر: والله يا ولدي ما أعلم أين بلادهن.
ثم إن الشيخ نصر قال له: قم معي وقو نفسك حتى أرسلك إلى بلادك مع الطيور وخل عنك هذا العشق فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر صرخ صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه، ولما أفاق قال له: يا والدي أنا لا أريد الرواح إلى بلادي حتى أجتمع بهؤلاء البنات واعلم يا والدي أني ما بقيت أذكر أهلي ولو أموت بين يديك، ثم بكى وقال: أنا رضيت بأن أنظر وجه من عشقتها ولو في السنة مرة واحدة، ثم صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
ليت الخيال على الأحباب ما طرقـا وليت هذا الهوى للناس ما خلـقـا
لولا حرارة قلبي من تـذكـركـم ما سال دمعي على خدي ولا اندفعا
أصبر القلب في يومي ولـيلـتـه وصار جسمي بنار الحب محترقـا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه لما فرغ من شعره وقع على رجلي الشيخ نصر وقبلهما وبكى بكاء شديداً، وقال له: ارحمني يرحمك الله وأعينني على بلوتي يعينك الله، فقال له الشيخ نصر: يا ولدي والله لا أعرف هؤلاء البنات ولا أدري أين بلادهن، ولكن يا ولدي حيث تولعت بإحداهن فاقعد عندي إلى مثل هذا العام لأنهن يأتين في السنة القابلة في مثل هذا اليوم فإذا قربت الأيام التي يأتين فيها، فكن في البستان تحت شجرة حين ينزلن البحيرة ويسبحن فيها ويلعبن ويبعدن عن ثيابهن فخذ ثياب التي تريدها منهن فإذا نظرتك يطلعن على البر ليلبسن ثيابهن، وتقول لك التي أخذت ثيابها بعذوبة كلام وحسن ابتسام: أعطني ثيابي يا أخي حتى ألبسها وأستتر بها ومتى قبلت كلامها وأعطيتها ثيابها فإنك لا تبلغ مرادك منها أبداً، بل تلبس ثيابها وتروح إلى أهلها ولا تنظرها بعد ذلك أبداً فإذا ظفرت بثيابها فاحفظها تحت إبطك، ولا تعطها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور وأوفق بينك وبينها وأرسلك إلى بلادك وهي معك وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر قال لجانشاه: احفظ ثياب التي تريدها ولا تعطها إياها، حتى أرجع من ملاقاة الطيور وأوفق بينك وبينها وأرسلك إلى بلادك وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لاغير.
فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر اطمأن قلبه، وقعد عنده إلى ثاني عام وصار يعد الماضي من الأيام التي تأتي الطيور عقبها، فلما جاء ميعاد مجيء الطيور، أتى الشيخ نصر إلى جانشاه وقال له: اعمل بالوصية التي أوصيتك بها من أمر ثياب البنات فإنني ذاهب إلى ملاقاة الطيور، فقال جانشاه: سمعاً وطاعة لأمرك يا والدي ثم ذهب الشيخ نصر إلى ملاقاة الطيور، وبعد ذهابه قام جانشاه وتمشى حتى دخل البستان، واختفى تحت شجرة بحيث لا يراه أحد وقعد أول يوم وثاني يوم وثالث يوم، فلم يأتين إليه البنات فقلق وصار في بكاء وأنين ناشيء عن قلب حزين ولم يزل يبكي حتى أغمي عليه، ثم بعد ساعة أفاق وجعل ينظر تارة إلى السماء، وتارة ينظر إلى الأرض، وتارة ينظر إلى البحيرة وتارة ينظر إلى البر وقلبه يرتجف من شدة العشق، فبينما هو على هذه الحالة إذ أقبل عليه من الجو ثلاث طيور في صفة الحمام ولكن كل حمامة قدر النسر، ثم إنهن نزلن بجانب البحيرة وتلفتن يميناً وشمالاً، فلم يرين أحداً من الإنس ولا من الجن، فنزعن ثيابهن ونزلن البحيرة وصرن يلعبن ويضحكن وينشرحن وهن كسبائك الفضة، ثم إن الكبيرة منهن قالت لهن: أخشى يا أخواتي أن يكون أحداً مختفياً لنا في هذا القصر فقالت الوسطى منهن: يا أختي إن هذا القصر من عهد سليمان ما دخله إنس ولا جان، فقالت الصغيرة منهن وهي تضحك: والله يا أخواتي إن كان أحد مختفياً في هذا المكان فإنه لا يأخذ إلا أنا، ثم إنهن لعبن وضحكن وقلب جانشاه يرتجف من فرط الغرام، وهو مختف تحت الشجرة ينظر وهن لا ينظرنه، ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن إلى وسط البحيرة وبعدن عن ثيابهن. فقام جانشاه على قدميه وهو يجري كالبرق الخاطف، وأخذ ثياب البنت الصغيرة وهي التي تعلق قلبه بها وكان اسمها شمسة، فلما التفتت رأت جاناه فارتجفت قلوبهن واستترن منه بالماء وأتين إلى قرب البر، ثم نظرن إلى وجه جانشاه فرأينه كأنه البدر في ليلة تمامه، فقلن له: من أنت وكيف أتيت إلى هذا المكان وأخذت ثياب السيدة شمسة؟ فقال لهن: تعالين عندي حتى أحكي لك حكايتي وأخبرك بما جرى لي وأعلمك بسبب معرفتي بك فقالت: يا سيدي وقرة عيني وثمرة فؤادي أعطني ثيابي حتى ألبسها وأستتر بها، وأطلع عندك، فقال لها جانشاه: يا سيدة الملاح ما يمكن أن أعطيك ثيابك وأقتل نفس من الغرام، فلا أعطيك إلا إذا أتى الشيخ نصر ملك الطيور، فلما سمعت السيدة شمسة كلام جانشاه قالت له: إن كنت لا تعطيني ثيابي فتأخر عنا قليلاً حتى يطلع أخواتي إلى البر ويلبسن ثيابهن ويعطينني شيئاً أستتر به، فقال جانشاه: سمعاً وطاعة.
ثم تمشى من عندهن إلى القصر ودخله فطلعت السيدة شمسة هي وأخواتها إلى البر ولبسن ثيابهن، ثم إن أخت السيدة شمسة الكبيرة أعطتها ثياباً من ثيابهن لا يمكنها الطيران بها وألبستها إياها ثم قامت السيدة شمسة وهي كالبدر الطالع والغزال الرائع، وتمشت حتى وصلت إلى جانشاه فرأته جالساً فوق التخت فسلمت عليه وجلست قريباً منه وقالت له: يا مليح الوجه أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك ولكن أخبرنا بما جرى لك حتى ننظر ما خبرك.
فلما سمع جانشاه كلام السيدة شمسة بكى حتى بل ثيابه من دموعه فلما علمت أنه مغرم بحبها، قامت على قدميها وأخذته من يده وأجلسته بجانبها ومسحت دموعه بكمها، وقالت له: يا مليح الوجه دع عنك هذا البكاء واحك لي ما جرى لك فحكى لها ما جرى له وأخبرها بما رآه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة شمسة قالت لجانشاه: احك لي ما جرى لك فحكى لها جميع ما جرى له فلما سمعت السيدة شمسة منه هذا الكلام، تنهدت وقالت له: يا سيدي إذا كنت مغرماً بي فأعطني ثيابي حتى ألبسها وأروح أنا وأخواتي إلى أهلي وأعلمهم بما جرى لك في محبتي، ثم أرجع إليك وأحملك إلى بلادك. فلما سمع جانشاه منها هذا الكلام بكى بكاء شديداً وقال لها: أيحل لك من الله أن تقتليني ظلماً؟ فقالت له: يا سيدي بأي سبب أقتلك ظلماً؟ فقال لها: لأنك متى لبست ثيابك ورحت من عندي فإني أموت من وقتي فلما سمعت السيدة شمسة كلامه ضحكت وضحك أخواتها ثم قالت له: طب نفساً وقر عيناً فلابد أن أتزوج بك ومالت عليه وعانقته وضمته إلى صدرها وقبلت بين عينيه وفي خده وتعانقت هي وإياه ساعة من الزمان، ثم افترقا وجلسا فوق ذلك التخت، فقامت أختها الكبيرة وخرجت من القصر إلى البستان فأخذت شيئاً من الفواكه والمشموم وأتت به إليهم فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا وضحكوا ولعبوا وكان جانشاه بديع الحسن والجمال رشيق القد والاعتدال. فقالت له السيدة شمسة: يا حبيبي والله أنا أحبك محبة عظيمة وما بقيت أفارقك أبداً، فلما سمع جانشاه كلامها انشرح صدره وضحك سه واستمروا يضحكون ويلعبون، فبينما هم في حظ وسرور إذا بالشيخ نصر قد أتى من ملاقاة الطيور. فلما أقبل عليهم نهض الجميع إليه قائمين على أقدامهم وسلموا عليه وقبلوا يديه فرحب بهم الشيخ نصر وقال لهم: اجلسوا فجلسوا، ثم إن الشيخ نصر قال للسيدة شمسة: إن هذا الشاب يحبك محبة عظيمة، فبالله عليك أن تتوصي به فإنه من أكابر الناس ومن أبناء الملوك وأبوه يحكم على بلاد كابل وقد حوى ملكاً عظيماً.
فلما سمعت السيدة شمسة كلام الشيخ نصر، قالت له سمعاً وطاعة لأمرك ثم إنها قبلت يدي الشيخ نصر ووقفت قدامه فقال لها الشيخ نصر: إن كنت صادقة في قولك فاحلفي لي بالله أنك لا تخونينه مادمت على قيد الحياة، فحلفت يميناً عظيماً أنها لا تخونه أبداً ولابد أن تتزوج به، وبعد أن حلفت قالت: اعلم يا شيخ نصر أني لا أفارقه أبداً، فلما حلفت السيدة شمسة للشيخ نصر صدق يمينها وقال لجانشاه: الحمد لله الذي وفق بينك وبينها ففرح جانشاه بذلك فرحاً شديداً، ثم قعد جانشاه هو والسيدة شمسة عند الشيخ نصر مدة ثلاثة أشهر في أكل وشرب وعلب وضحك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جانشاه هو والسيدة شمسة قعدا عند الشيخ نصر ثلاثة أشهر في أكل وشرب ولعب وحظ عظيم وبعد ثلاثة أشهر قالت السيدة شمسة لجانشاه: إني أريد أن أروح إلى بلادك وتتزوج بي ونقيم فيها فقال لها سمعاً وطاعة، ثم إن جانشاه شاور الشيخ نصر، وقال له: إننا نريد أن نروح إلى بلادي وأخبره بما قالته السيدة شمسة، فقال لهما الشيخ نصر: اذهبا إلى بلادك وتوصى بها فقال جانشاه سمعاً وطاعة، ثم إنها طلبت ثوبها وقالت: يا شيخ نصر مره أن يعطيني ثوبي حتى ألبسه فقال له: يا جانشاه أعطها ثوبها فقال: سمعاً وطاعة ثم قام مسرعاً ودخل القصر وأتى بثوبها وأعطاه لها فأخذته منه ولبسته، وقالت لجانشاه: اركب فوق ظهري وغمض عينيك وسكر أذنيك حتى لا تسمع دوي الفلك الدوار وأمسك في ثوبي الريش وأنت على ظهري بيدك واحترس على نفسك من الوقوع.
فلما سمع جانشاه كلامها ركب على ظهرها، ولما أرادت الطيران قال لها الشيخ نصر: قفي حتى أصف لك بلاد كابل خوفاً عليكما أن تغلطا في الطريق فوقفت حتى وصف لها البلاد وأوصاها بجانشاه، ثم ودعهما وودعت السيدة شمسة أختيها وقالت لهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شمسة قالت لأختيها: روحا إلى أهلكما وأعلماهم بما جرى لي مع جانشاه، ثم إنها طارت من وقتها وساعتها وسارت في الجو مثل هبوب الريح والبرق اللامع، وبعد ذلك طارت أختاها وذهبتا إلى أهليهما وأعلماهما بما جرى للسيدة شمسة مع جانشاه، ومن حين طارت السيدة شمسة ولم تزل طائرة من وقت الضحى إلى وقت العصر، وجانشاه راكب على ظهرها وفي وقت العصر لاح لهما على بعد واد ذو أشجار وأنهار فقالت لجانشاه: قصدي أن ننزل في هذا الوادي لنتفرج على ما فيه من الأشجار والنبات هذه الليلة، فقال لها جانشاه: افعلي ما تريدين فنزلت من الجو وحطت في ذلك الوادي ونزل جانشاه من فوق ظهرها وقبلها بين عينيها ثم جلسا بجانب نهر ساعة من الزمان.
وبعد ذلك، قاما على قدميهما وصارا دائرين في الوادي يتفرجان على ما فيه ويأكلان من تلك الأثمار ولم يزالا يتفرجان في الوادي إلى وقت المساء ثم أتيا إلى شجرة وناما عندها إلى الصباح ثم قامت السيدة شمسة وأمرت جانشاه أن يركب على ظهرها فقال جانشاه سمعاً وعطاعة ثم ركب جانشاه على ظهرها وطارت به من وقتها وساعتها ولم تزل طائرة من الصبح إلى وقت الظهر فبينما هما سائران إذ نظرا الإمارات التي أخبرهما الشيخ نصر فلما رأت السيدة شمسة تلك الإمارات، نزلت من أعلى الجو إلى مرج فسيح ذي زرع مليح فيه غزلان رائعة وعيون نابعة وأثمار يانعة وأنهار واسعة فلما نزلت في ذلك المرج نزل جانشاه من فوق ظهرها وقبلها بين عينيها، فقالت: يا حبيبي وقرة عيني أتدري ما المسافة التي سرناها؟ قال لها: لا، قالت: مسافة ثلاثين شهراً، فقال لها جانشاه: الحمد لله على السلامة.
ثم جلس وجلست بجانبه وقعدا في أكل وشرب ولعب وضحك فبينما هما في هذا الأمر إذ أقبل عليهما مملوكان، أحدهما الذي كان عند الخيل لما نزل جانشاه في مركب الصياد والثاني من المماليك الذين كانوا معه في الصيد والقنص فلما رأيا جانشاه عرفاه وسلما عليه وقالا له: عن إذنك نتوجه إلى والدك ونبشره بقدومك فقال لهما جانشاه: اذهبا إلى أبي وأعلماه بذلك وائتيا بالخيام ونحن نقعد في هذا المكان سبعة أيام لأجل الراحة حتى يجيء الموكب لملاقاتنا وندخل في موكب عظيم.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
يتبع