ارتدت الصحافية الفرنسية إليزابيث إلكسندر بمجلة "مارى كلير" الفرنسية النقاب لمدة 5 أيام وانطلقت في شوارع باريس لتكتب تجربتها الشخصية.
سجلت إلكسندر مشاعرها تجاه النقاب وهي ترتديه، وإحساسها بنظرات الناس وكيف تقبلها البعض ورفضها الآخرون، وانتهت إلى أنها صارت حساسة تجاه جسدها، وتحولت نظرات الرجال إلى عبء عليها، ويجب عليها أن تحمي طهارتها بحجابها الأسود بعد أن شعرت لأول مرة في حياتها بأنها قنبلة جنسية.
جاء ذلك في الوقت الذي طلب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من الحكومة تقديم مشروع منتصف الشهر المقبل لفرض حظر كامل للنقاب في فرنسا، على أن يقوم البرلمان بدراسته في يوليو (تموز) المقبل.
وكان مجلس الدولة يرى ضرورة حصر الأمر وربطه بالدواعي الأمنية التي تقتضي التعرف إلى وجوه الأشخاص، فيما عدا ذلك يمكن للمرأة أن ترتدي الزي الذي تراه مناسباً لها، بمعنى إمكانية السماح بارتداء النقاب في الشارع على أن يحظر في إدارات الخدمة العامة التي يجب فيها التعرف إلى وجوه الموظفين.
لكن نواب الحزب الحاكم أصروا على المنع القاطع، مؤكدين أن "وضع النقاب متعارض وقيم الجمهورية وأن فرنسا برمتها تقول لا للنقاب".
ومن المتوقع سريان هذا القانون بعد إقراره في البرلمان، فيما ينقسم الفرنسيون بين مؤيد ومعارض، باعتبار أن ارتداء النقاب أمر شخصي، وفرنسا عُرفت عبر تاريخها باحترام حق الإنسان في التعبير وكذلك حريته الشخصية.
ملاحظتها الأولى: النقاب غير عملي
بدأت إليزابيث إلكسندر تجربتها مع النقاب بالقول: "أردت أن أعيش أسبوع عمل وأنا مغطاة تماماً من إخمص قدمي حتى قمة رأسي بالسواد. أن أدخل عالم النقاب وأشعر به تحت جلدي وأن أشعر بملمسه على جبهتي وخدودي، وكيف أنظر للعالم فقط من خلال "بؤبؤة عينيّ"، كيف يمكنني أن أرى العالم ويراني العالم خلف هذا القناع الذي يخفيني عنه؟.. لم أحاول أن أدخل لتجربة بمفاهيم وأفكار تسبقها، فقط عشتها.
في اليوم الأول ومن أول ملاحظة سجلت إلكسندر أن "النقاب غير عملي".. فبعد أن اشترت زي الحجاب من محل صغير يبيعه في شارع مارثا بالحي ١٨ في باريس، الذي يشتهر بوجود تلك المحال، عادت لمنزلها مع زميلها المصور وارتدته بالكامل "اختفيت فيه وكأنني تحت خيمة، كان عندي انطباع بأنني تحولت لمجرد رسم، لم يبق ظاهراً مني سوى العينين، حتى الحاجبين لا يظهران تحت النقاب".
تقول الصحافية إليزابيث إلكسندر "كنت أدعو الله في سري ألا أتعثر أثناء سيري، أو أن ألتقي بجار أو قريب فلن أتمكن من الحديث إليه وتفسير الأمر، لم أكن أرى قدميّ، وفي كل خطوة كنت أخشى أن أقع على وجهي. عادتي السير بخطوات عسكرية جادة وسريعة، لكنني اضطررت للسير ببطء فالعباءة تلتف على ساقيّ وأكاد أتعثر، كانت أول ملاحظة لي على هذا الزي أنه غير عملي".
وتضيف "مررت على محل الخباز الذي أتعامل معه، فوجئت بالسيدة تنظر لي
بصرامة قبل أن تعرفني من صوتي حين طلبت منها طلبي اليومي من مخبوزاتها، أصبحت لطيفة وأكثر وداً وقالت لي ضاحكة: "تفعلين الكثير لتكسبي قوتك".
في الشارع جلست إليزابيث إلكسندر على مقهى، وكان آلان المصور يراقبها من الداخل ويتابع بكاميرته نظرات المارة التي يرمقونها بها، طلبت فنجاناً من القهوة، وبما أنها اعتادت على تدخين سيجارة معه، حاولت أن تدخن سيجارة من تحت النقاب، رفعته لأعلى، لكن تبين لها على الفور خطأه فأعادته، ثم رفعته لتتمكن من التدخين وواجهت صعوبة وهي ترتشف القهوة من تحت النقاب.
تقول "بدأت النظرات ترقبني بإلحاح وتنتظر خطوتي القادمة، كنت بالنسبة للبعض امرأة غير متطابقة مع من هم في مثل وضعي، أي المنتقبات، وتخيلت أنني الآن سُبة بالنسبة لهذه الفئة. بعض الرجال أظهروا غضبهم وقالوا بصوت سمعته: هذه المرأة مجرد تمويه، لا تبدو متدينة ولكنها تسخر منا، ومال عليّ أحدهم وقال بهدوء: "لست مطالبة بهذه الملابس إلا حين الصلاة وليس طول الوقت".
وتستطرد "أصبح الوضع غير لائق، قررت ترك المقهى ورحلنا - المصور وأنا - ونحن نعبر أمام أحد الأكشاك، كانت هناك حانة "شارلي أبدو" تقف أمامها سيدتان بالبرقع تنتظران دورهما للدخول، ابتسمت.. كان موقفاً به تباين وتضاد".
لم يلاحظ المصور ابتسامتها، وكان لابد أن تتحدث إليه فهو لا يراها من وراء النقاب.. "شعرت في هذه اللحظة بأن هذا النقاب يمنع الآخرين من معرفة رد فعلك أو مشاعرك أو ملامح وجهك في لحظة ما، وعليك أن تتعامل مع من أمامك على أنه من العميان فهو لا يراك وعليك أن تصف له مشاعرك، الكلمات تصبح اللغة الوحيدة المتاحة بعد اختفاء لغة الرؤية".
ملاحظتها الثانية: يدفع للانغلاق
وفي يومها الثاني بالنقاب تقول إليزابيث إلكسندر "في المترو شعرت بأنني مسخ مشوّه.. من لا يراك لا يسمعك. توقفنا أمام مقر المجلة، سرت بين المكاتب بهذا الزي، كان هناك فيض من النظرات المتسائلة والحذرة، كنت أشعر بوخز النظرات، ألقيت على بعضهن تحية الصباح، رددن بجفاء، فهن لا يتحدثن لواحدة لا يستطعن رؤية وجهها، كُنَّ مذهولات كيف استطاعت منتقبة أن تنتسب لفريق العمل بمجلة ماري كلير؟".
تضيف "بعضهن تعرفن إلي من صوتى ومن حقيبة ظهري التي لا تفارقني ولا أفارقها.. إحدى الزميلات اللاتي يعملن في قسم الإخراج قالت لي: دوّني هذه الملاحظة: في اليوم الذي سيكون فيه لساننا قذراً، سيكون ذلك ملائماً جداً".
في صالة التحرير، كانت العاصفة، الاجتماع بدأ، ظهورها بالنقاب خلق مسافة بينها وبينهم، وجعل من العمل الجماعي حلماً مستحيلاً. "وجدت أنهم حين لا يرونني لا يسمعونني أيضاً، كنت وكأنني ثقب أسود يشفط كل الأفكار والكلمات، كنت بالنسبة للبعض شيئاً مرهقاً ومتعباً، رفعت عني النقاب الذي وضعته من أول الصباح لأتمكن من التواصل معهن".
وضعت إليزابيث إلكسندر النقاب من جديد حين تركت مقر المجلة وركبت المترو. قررت أن تغرق في قراءة كتاب لكنها لم تتمكن من تثبيت النظارة على أذنيها بسبب النقاب، كان عليها أن تتنازل عن رغبتها في القراءة والاكتفاء بالنظر للناس.
وعن ذلك تقول "كان الركاب يمعنون النظر فيّ ثم يشيحون برؤوسهم، كأنني شخص مسخ ومشوّه وبغيض، وفكرت فيما كانت تشعر به إيزايبل دنورا أول سيدة في العالم تعرضت لعملية زرع وجه عقب تعرضها لهجوم كلب أدى لتشوه في الوجه، وذلك قبل أن تجري جراحة تجميل ويصبح لديها وجه جديد".
حاولت الصحافية الفرنسية إليزابيث إلكسندر التركيز لعلها تجتذب نظرة عابرة تساعدها على بدء لحظة مشاركة إنسانية مما تحدث كثيراً بين ركاب المترو. كانت تشعر بأنها حالة منفصلة وغريبة عن الآخرين.
في اليوم الثالث حاولت إليزابيث عبر "اليوتيوب" أن تحاور عدداً من المنتقبات: كريستال، داليلا وأخريات. تعددت إجابتهن عن سؤالها: لماذا ارتدت كل واحدة النقاب ومتى؟
أجابت إحداهن "ارتديته من ١٥ سنة". وقالت أخرى "لم أتعرض لضغط من زوجي فهو لا يريدني أن أرتديه". ثالثة: "أنا امرأة عصرية، أضع ماكياجاً في البيت وأشارك في سباقات السرعة"، ورابعة: "النقاب.. هو سعادتي وهو اختياري، وأنا لا أضير أحداً فلماذا نحارب؟".
المنتقبات يدافعن عن موقفهن، في مقابل هجوم سهام حبشي، رئيسة جمعية "لا عاهرات ولا خاضعات"، على النقاب واعتباره على حد قولها "رمزاً لاضطهاد المرأة"، وكذلك جان فرانسوا كوبيه- سياسي فرنسي مخضرم ورئيس مجموعة الاتحاد من أجل حركة شعبية- المشارك في حملة منع النقاب، الذي اقترح غرامة ٧٥٠ يورو على من تخرج عن الحظر.
معسكران متضادان تحول الحوار بينهما إلى حوار "الطرشان"، ولكنه حوار يثير لعاب وسائل الإعلام التي لم يعد لديها إلا هذا الموضوع، وطبقاً للإحصاءات الرسمية الفرنسية فإن هناك ١٩٠٠ امرأة منتقبة في فرنسا.
تتساءل إليزابيث إلكسندر: كيف تم إحصاؤهن، وكيف نعرف أنهن مرغمات على النقاب كما يدعى البعض؟ وتضيف: المؤكد أن المرغمات على النقاب لن يجدن طريقهن للظهور أمام التلفزيون وسيُمنعن من ذلك.
"ذهبت اليوم إلى مكتب البريد، أمام موظفة الاستقبال، كانت هناك سيدتان في غاية الود، أشارتا إلى حقيبتي وحذراني من أنها مفتوحة. حينما حضرت الموظفة وتجاوزتني إلى شخص آخر، تبرعت السيدتان وقالتا لها إنني جئت قبله، كانت أول مرة بعد ارتدائي النقاب أعامل فيها بود كشخص طبيعي. مددت لها هويتي الشخصية وعرضت عليها حقيبة متعلقاتي فأعادتها لي بطريقة جافة. حينما أظهرت تعجبي من أنها لم تطلب مني أن أكشف عن وجهي، أجابت بجفاء: سأفعل. ارتباكها كان واضحاً".
في نهاية اليوم الثالث سجلت إليزابيث الملاحظة الثانية قائلة "عندما عدت لمنزلي تخلصت من النقاب.. شعرت بالارتياح، الثقبان المخصصان للعينين مجرد شقين صغيرين ضيقين يجعلان رموشي تحك في قرنيتي. شعرت بأن النقاب يحول المرأة لشخص داخلي منغلق يفضل السكون والانعزال في المنزل على مواجهة الشارع. بعد ٣ أيام فقط من ارتدائي الحجاب الكامل لاحظت أنه يدفع للانغلاق".
الملاحظة الثالثة: جعلني أكثر حساسية لجسدي
في اليوم الرابع سجلت الملاحظة الثالثة وهي أن النقاب يجعل المرأة أكثر حساسية لجسدها "بدأت أشعر بثقل التجربة، فكم النظرات المتفحصة المتسائلة تخترقني، بالإضافة إلى الفضول والأحكام المرسلة ومشاعر الشفقة أو الكراهية".
وتشرح ذلك قائلة "لم يحدث في حياتي أن شعرت بأنني غير مرئية وفي نفس اللحظة وكأنني في فاترينة عرض (فُرجة). الاختفاء الكامل للجسد والوجه يمحو من داخلك أي إحساس بالغرور أو النرجسية.. الغريب أن هذا الاختفاء تحت هذا الغطاء الأسود جعلني حساسة تجاه جسدي بشدة حتى أصبح مجرد ظهور بضعة سنتيمترات منه من تحت العباءة بمثابة كارثة، ما بين القفاز الذي أرتديه وكُم العباءة ظهر جزء من ذراعي".
وتصف إليزابيث إلكسندر تلك الحالة "اعتبرت ذلك خدشاً لبراءتي، جسدي يصبح بعد الإخفاء فضيحة، وتتحول نظرة الرجال إليه إلى عبء وكأنهم جماعة من المهووسين جنسياً الذين يريدون بي وبجسدي شراً، وعليّ أن أحمي طهارتي بحجابي الأسود الذي يتحول لقلعة صد تحميني وتفصل بيني وبين العالم. منذ ارتديت النقاب وأنا- ولأول مرة في حياتي- أشعر بأنني تحولت لقنبلة جنسية وكأنني فخ لغاوية".
تستطرد في تفاصيل تجربتها: عندما تجاوزت شارع سان جيرمان، كنت مازلت أشعر بثقل نظرات المارة، وصلت إلى مكتبة للفنون يديرها صديق، عندما شاهدني صاح "أوه للاّ".. دخلت المكتبة دون أن أنطق.
أحد الزبائن- وكان شاباً وسيماً اقترب مني وعاكسني "أنت جميلة جداً، ترتدين مثل نساء الحكايات والأساطير، هذه السرية المثيرة تطلق للخيال العنان في تخيل ما تحته.
وآخر قال "وكأنك حقيبة مفاجآت، لا نعرف ما تحتها".. توجها لصديقي وسألاه رأيه في نقابي فأجاب "أمر لا يهمني، بالنسبة لي لا يوجد أحد".
وتمضي إليزابيث في سرد تجربتها "رفعت النقاب عن وجهي، الخيالات الشرقية التي كان يسبح فيها الشخص الأول توقفت، أما الثاني فعلق "بالنسبة لي، امرأة مختفية بالكامل ليس لها وجود فردي وتفقد إنسانيتها وتفقد احترامي، من لا أراه ليس له وجود".
النهاية.. سلوكيات لا يجب خلطها بالإسلام
بدأت الصحافية الفرنسية يومها الخامس مع النقاب بقولها "في اتجاه بوبورج، حيث يقع معرض الفنان بيار سولاج- فنان تشكيلي فرنسي اشتهر بلوحاته السوداء، فهو يبحث عن النور داخل العتمة الكالحة- عند المدخل استوقفني الحارس وفتش حقيبتي دون أن يطالبني بتحقيق الشخصية. في المدخل، طفل صرخ رعباً عندما شاهدني أقف أمام لوحة سولاج، كان المشهد يستحق الملاحظة، أسود أمام أسود، كان لديّ انطباع بأنني لوحة من لوحات الفنان العاشق للأسود".
"في الرابعة من بعد الظهر اندست وسط مجموعة من الأمهات ينتظرن أطفالهن أمام باب حضانة، الجميع نظر لي من فوق لتحت، أحاطت بي دائرة من الفراغ، شعرت بالخجل، ذهبت لأتحدث مع سيدتين بدا عليهما الاضطراب لوجودي، شرحت لهما أنني صحافية أكتب تقريراً لمجلة "ماري كلير".. كانتا من المسلمات.. ولكنهما قالتا لي إنه لا أمهما ولا جدتهما كانتا من المنقبات، فلم ترتد أي منهما النقاب أبداً، ولكنهما كانتا تحملان تديناً عميقا".
وتستطرد الصحافية الفرنسية إليزابيث إلكسندر "لم تكونا بحاجة لهذه الخدعة السوداء، وأكدتا أنهما تعرفان فتيات ينتقبن فقط للفت الأنظار، كما قالتا لي إنه يجب ألا يخلط الناس بين هذه السلوكيات والدين الإسلامي، ويجب ألا يجرح أحد في هذا الدين العظيم. أكدت كلامهما، وكنت أشعر بتقدير لكلتيهما وابتعدت عن المكان".
أخيراً تختم بقولها "في المساء وعند عودتي لمنزلي أودعت ملابسي التي رافقتني على مدى خمسة أيام قاع دولابي المظلم".
من جهتها قالت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية إن ضباط الشرطة سيتيح لهم مشروع قانون حظر النقاب المتوقع حق مطالبة أي شخص يظهر في الأماكن العامة مرتدياً قناعاً أو نقاباً أن يكشف عن وجهه أو وجهها، وفرض غرامة لم تحدد قيمتها بعد على كل من يمتنع.
وسيتضمن المشروع فقرة خاصة بمعاقبة كل رجل يجبر زوجته على ارتداء النقاب.