فكرة الشرق الأوسط الجديد طرحت بعد حرب الخليج الأولى وكان أحد أهم منظريها ومتبنيها وزير خارجية الكيان اليهودي آنذاك (شمعون بيريس)، وتحولت فكرة الشرق الأوسط الجديد عمليا إلى المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بغية تطوير الفكرة وضم أطراف أخرى إليها غير البلدان العربية الشرق أوسطية. وليصبح الكيان اليهودي جزءا من ترتيبات إقليمية اقتصادية، تضمن لهم أداء دور الوكيل المعتمد في إطار اقتصادي، والانفتاح على العرب وأسواقهم تحت مسمى (شرق أوسط جديد).
ورؤى قيادة الاحتلال اليهودي تتمثل بأن كيانهم أصبح بحكم الأمر الواقع دولة موجودة وقوية ومتفوقة، وعليهم الإسراع في إيجاد الصيغة المناسبة لاستمرار وجودهم وتمكنهم، ومن أنجح الصيغ مصطلح (الشرق أوسطية)، و(السوق شرق أوسطي) و(شرق أوسط كبير)، و(شرق أوسط جديد)!! للتغلغل في أرجاء الوطن العربي لبناء نظام شرق أوسط جديد، يتحول فيه وطننا إلى أجزاء ممزقة، مقطعة الأوصال، ويكون الدور القائد والمهيمن فيه للأقوى.
وبعد إسقاط النظام السياسي في العراق أعيد طرح فكرة «الشرق الأوسط» لكنه سمي « الشرق الأوسط الكبير «- يشير إلى بلدان العالم العربي بالإضافة باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا والكيان اليهودي - ظنا من قيادة الولايات المتحدة أن ما تم تحقيقه بالقوة في العراق من الممكن قطف ثماره سريعا سياسيا واقتصاديا، ورغم محاولات تسويق هذه الفكرة عربيا إلا أنها ما لبثت أن طواها النسيان لعدم قدرتها على ضمان ما تم إنجازه عسكريا في العراق.
(شمعون بيريس) وكتابه (الشرق الأوسط الجديد)
خلال عام 1993م أصدر (بيريس) كتابه المعنون: «الشرق الأوسط الجديد» الذي قدّم من خلاله أطروحته (العظيمة) «الشرق الأوسط الجديد»!! واصفا إياها : «بالأسلوب الجديد في التفكير للوصول للأمن والاستقرار، الذي يتطلب منا جميعا نظاما أمنيا وترتيبات إقليمية مشتركة واسعة النطاق، وتحالفات سياسية لدول المنطقة كلها».
وتحدث في الكتاب عن فشل الحروب وأهمية السلام، وسوغ بأسلوب ماكر الحروب التي خاضوها فقط لضمان الأمن والاستقرار بقوله: «إننا خضنا الحروب من أجل ضمان الأمن والاستقرار... ولم نكن يوماً بالشعب الذي يرغب في التحكم بالآخرين»!! وأضاف: «يتوجب علينا جميعاً التحرك للأمام لبناء إطار يحمل السعادة والرخاء لكافة شعوب المنطقة»!!
لا شك أن مشروع شرق أوسط جديد مشروع محكم يفرض علينا سوقا شرق أوسطي لا هوية له، لا يعرف الزمان أو التاريخ فهو سوق مكتفٍ بذاته، وليس عربيا أو إسلاميا، وإنما ينتمي إلى مكان دون زمان أو تاريخ، وهذا المكان هو الشرق الأوسط، وعلاقة الدول في «الشرق أوسطية» علاقة تعاقدية فقط. وعبر عن ذلك (بيريس) صراحة بقوله : «إن عظمة (إسرائيل) تكمن في عظمة أسواقها».
وخلاصة ما نظّر له (بيريس) : شرق أوسط جديد تقوده تل أبيب، شرق أوسط مدجج بالتنمية والرفاه- هذا في الظاهر- أما في الباطن فهو شرق أوسط مفكك على أسس عرقية وطائفية ومذهبية يشتبك الجميع فيه مع بعضهم بينما يتصالحون جميعاً وربما يتحالفون أيضاً مع الدولة العبرية، استراتيجية يهودية جديدة لضرورة استمرارية الهيمنة على المنطقة، وإن اختلفت الوسيلة وتغيرت من دبابة وقذائف إلى بضاعة متقنة الإنتاج !!
كيف يتحقق « الشرق الأوسط الجديد»؟
لكي يتحقق لليهود «الشرق الأوسط الجديد» لا بد من تجزئة التجزئة وإحداث تغيرات ضرورية في المنطقة، تحقق الأمن للكيان اليهودي، وتعيد رسم خريطة المنطقة – بسايس بيكو جديدة - وهو ما يطلق عليه تجزئة التجزئة، لما يحقق الأهداف بأسرع الطرق، والأهم من ذلك كان لابد من تقسيم المنطقة على أساس طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب، وإعادة صياغة المنطقة باعتبارها فسيفساء من أقليات إثنية ودينية - كما الحال في العراق الآن - على أن يستمر بينها قدر من الصراع المعقول الذي يمكن التحكم فيه من قبل القوى المهيمنة في المنطقة، ومع ذلك لا تقبل الفوضى الشاملة؛ إذ لابد أن يستمر البيع والشراء والإنتاج والاستهلاك وسلب الموارد.
أين ذهب «الشرق الأوسط الكبير»؟
اعترفت (مارينا أوتاوي) كبيرة الباحثين في «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي» والمشرفة على برنامج «التحول الديمقراطي في العالم العربي», في 12 يونيو/2006 أي قبل شهر واحد من بدء الهجوم الصهيوني على لبنان, بأن المبادرة التي أطلقها جورج بوش – الأب - تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» ماتت من دون أن يتطوّع أحد بإعلان نبأ وفاتها أو إقامة مراسم دفنها, بعدما اكتشفت الولايات المتحدة ومعها الدول الثماني أن الإستراتيجية التي وضعتها لدفع مسيرة الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي أدت إلى تقدم الإسلاميين في كل انتخابات عربية أجريت خلال عامي 2005 و2006. هذه الصدمة دفعت واشنطن وحلفاءها إلى التراجع عن رفع لواء الديمقراطية والاكتفاء بخطوات محسوبة لا تسبب الصداع لأصدقائها في المنطقة, من خلال برامج ثنائية مع كل نظام عربي على حدة.
وتضيف (مارينا أوتاوي): «أن ما تبقى من المبادرة الرامية إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط, يمكن اختصاره في ثلاث نقاط أساسية:
- الأولى : «الطنطنة» اللفظية التي يلجأ إليها الرئيس الأميركي في كل مناسبة للتأكيد أن واشنطن لم تتراجع عن ضغوطها لـ«دفع مسيرة الحرية والديمقراطية في المنطقة».
- الثانية : النشاطات المتواضعة أو الخطوات المدروسة التي تموّلها الحكومة الأميركية من خلال مبادرة الشراكة والتعاون مع حكومات المنطقة, مثل دعم حقوق المرأة, وإصلاح نظم التعليم, والإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي, وتدريب الأحزاب السياسية, وتدريب الكوادر النسائية على تنظيم حملات انتخابية فعالة, مع الحرص على تجنب الدفع في مجالات تشكل تهديدا لعلاقات واشنطن الودية مع زعماء الدول الصديقة في المنطقة.
- والثالثة : الانحدار المتواصل في مستوى الضغط السياسي, وهو ضغط لم يكن كافيا منذ إطلاق المبادرة».
وباختصار شديد فإن ما تطلبه الولايات المتحدة الأمريكية يتعارض مع كل ما هو قائم في منطقة الشرق الأوسط، وقد كانت للولايات المتحدة تجربة قريبة في العراق وقبلها في أفغانستان، وهي تجربة اصطدمت بالواقع وأكدت على أن عملية التغيير لا يمكن أن تحدث دون فهم للواقع.
ولكن الجديد في مشروع الولايات المتحدة هي كلمة «الكبير» التي أضيفت إلى تسمية الشرق الأوسط، ولا معنى لهذه الكلمة إلا بإضافة الكيان اليهودي، ويبدو ذلك واضحا بتأكيد الولايات المتحدة على أن مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يشترط حل القضية الفلسطينية، أي إنه يمكن أن تبدأ الدول العربية تطبيق المشروع قبل أن يوجد حل للقضية الفلسطينية.
أما الجانب المتعلق بتحرير الاقتصاد فليس المقصود منه إحداث نقلة نوعية في اقتصاديات هذه الدول؛ لأن طبيعة الاقتصاد في الدول العربية لا تساعد علي درجة عالية من التبادلية، والمقصود هو فتح المجال أمام الشركات الصهيونية واليهودية العالمية لتدخل في بنية الاقتصاد العربي لتسيطر عليه كما تسيطر على بنية الاقتصاد العالمي. وأما ما يتعلق بتحرير المرأة وإحداث تغييرات في نظم التربية العربية، فليس المقصود منه بكل تأكيد تحديث المجتمعات العربية وإنما الهدف منه ضرب النظام الذي يؤثر على منظومة القيم والمفاهيم التي تخلق حالة عداء متصلة مع الكيان الغاصب، وبالتالي فإن مجمل المشروع الأمريكي لا يعدو كونه وسيلة من أجل تكريس الوضع القائم في الأراضي المحتلة وإعطاء اليهود مزيدا من الأرض والقوة على حساب الدول العربية، وهذا أسلوب ظل متبعاً منذ أن بدأت عملية التراجع في المواقف العربية، وتوقفت الدول العربية عن مساندة الشعب الفلسطيني بعد أن ألقت بكل ثقلها وراء الحلول السلمية المزعومة!!
شرق أوسط جديد أم إعادة إنتاج القديم ؟!
بشرت (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بولادة «شرق أوسط جديد»، سينمو ليحقق «حلا سحريا» لعلاج أزمات المنطقة المزمنة !! ووضحت عبارتها بالآتي : «حان الوقت لوجود شرق أوسط جديد.. حان وقت القول لمن لا يريدون شرق أوسط جديدا إن الغلبة لنا»!!
فلا شك أن الواقع الذي نعيشه يشكل فرصة مناسبة لإعادة تشكيل وصياغة الجغرافيا السياسية في المنطقة، فبعد الحديث عن «شرق أوسط كبير» وتطور إلى «شرق أوسط جديد»... لتبقى مسميات حائرة تكشف الغطاء المطلوب لإدامة التجزئة في المنطقة واستكمال تبعيتها، أوضاع سيُعاد ترتيبها، تحالفات سيعاد إحياؤها، وأخرى سيتم إقصاؤها، ورؤساء سيتم عزلهم ومحاكمتهم.
الشرق الأوسط الجديد.. وحدود الدم:
في مجلة القوات المسلحة الأمريكية (عدد يوليو / تموز 2006 م ) نشر الضابط الأمريكي السابق (رالف بيترز) مقالة بعنوان: « حدود الدم» وهي جزء من كتابه الجديد: «لا تترك القتال أبدا»، يعد (رالف بيترز)الصراعات الشرق أوسطية والتوتر الدائم في المنطقة نتيجة «منطقية» لخلل كبير في الحدود الاعتباطية الحالية التي وضعها حسب تعبيره «الأوروبيون الانتهازيون».
وينطلق أيضا من فرضية مفادها «أن الحدود الدولية لا يمكن أن تكون عادلة بشكل كامل»، ولكن حجم الظلم الناتج عن ذلك يحدد الفرق بين ما يسميه : الحرية والقمع، التسامح والوحشية، الشرعية والإرهاب أو الحرب والسلم». ويزعم أن «الحدود غير المنصفة في الشرق الأوسط تولد اضطرابا أكبر مما تستطيع المنطقة تحمله. صحيح أن الشرق الأوسط يعاني من مشكلات متعددة مثل الركود الثقافي والظلم الاجتماعي والتطرف الديني ولكن مفتاح فهم الفشل الكبير في المنطقة، كما يقول، ليس الإسلام بل الحدود القائمة بين دول المنطقة والتي ما يزال الحديث عنها محظورا.
ورغم اعتراف (رالف بيترز) بأن المجموعات الإثنية والدينية في الشرق الأوسط مارست الاختلاط والتعايش والتزاوج ولكن لابد من إعادة رسم الحدود لإنصاف الإثنيات الموجودة، ويذكر قائمة طويلة بهذه المجموعات من منظور إثني وتصنيف ديني أو طائفي. ويذكِّر بيترز أولئك الذين لا يريدون إعادة ترتيب الحدود باعتباره نوعا من «التفكير بالمستحيل» يذكرهم «بالتطهير العرقي» السائد منذ خمسة آلاف عام من أجل العودة إلى ما يسميه: «حدود الدم». ويرى (بيترز) أن الحروب المستمرة بين العرب واليهود ليست صراعا على الوجود بل هي خلاف على الحدود وأن المنطقة ستظل تعاني من الاضطراب ما دامت الحدود مضطربة وغير نهائية.
لذلك ومن أجل شرق أوسط أمريكي جديد يتقدم بيترز بخارطة أمريكية جديدة تلغي الحدود القائمة ويقسم الدول الحالية فتتحول الدولة الواحدة إلى دويلات وتنشأ دول جديدة وتكبر دول صغيرة وتصغر دول كبيرة. والخاسر الأكبر في الخارطة الجديدة هو السودان وكذلك السعودية، أما العراق فيتحول إلى ثلاث دويلات، وهناك وضع جديد لسوريا وغيرها كما سيظهر لاحقا.
ويلقي بيترز باللوم على الولايات المتحدة وحلفائها في عدم استثمار الفرصة العظيمة بعد سقوط بغداد لتقسيم العراق إلى ثلاث دول من أجل ما يسميه «إنهاء الظلم» الموجود. والتقسيم سيؤدي إلى دولة شيعية في الجنوب وسنية في الوسط وكردية (كردستان الحرة) في الشمال. وهنا يخاطب (بيترز) الدول الغربية قائلا: إن «كردستان الحرة الممتدة من ديار بكر إلى تبريز « ستكون أكثر الدول صداقة للغرب من بلغاريا إلى اليابان»!!
أما بالنسبة للدولة السنية العراقية الصغيرة المتكونة من ثلاث محافظات فقط في الوسط فسوف تختار فيما بعد الوحدة مع سوريا. أما سوريا فسوف تخسر المنطقة الساحلية كلها لصالح «لبنان الكبير المتوسطي الطابع مما يؤدي إلى عودة الدولة الفينيقية». ولكن الجنوب الشيعي العراقي سيكون نواة «للدولة الشيعية العربية التي ستمتد على طول معظم الخليج «الفارسي». أما الأردن فإنه سيحافظ على أراضيه الحالية مضافا إليها مناطق جديدة من السعودية، أي هناك لبنان الأكبر والأردن الأكبر.
ويقترح وضع مكة والمدينة تحت سلطة دينية خاصة أسوة بالفاتيكان - سوبر فاتيكان إسلامي- ويقترح إلحاق آبار النفط السعودية الساحلية بالدولة الشيعية خاصة أن هذه مناطق شيعية، وإلحاق جنوب شرق السعودية باليمن والجزء الشمالي بالأردن. وهكذا يتم حصر السعوديين الحاليين بالرياض والمناطق المحيطة بها. وبهذه الطريقة يقول رالف بيترز «لن تستطيع الأسرة السعودية إلحاق المزيد من الأذى والشر بالإسلام والعالم».
أما إيران فستخسر بدورها أجزاء كبيرة من أراضيها لكل من أذربيجان وكردستان والدولة الشيعية وبلوشستان الحرة ولكنها ستحصل على منطقة «هيرات» من أفغانستان؛ لأن هذه المنطقة ترتبط لغويا وتاريخيا مع إيران فتصير إيران دولة إثنية من جديد ولكنه لا يتخذ قرارا بخصوص «بندر عباس». أما أفغانستان فسوف تعوض ما تخسره من الباكستان؛ إذ يتم عودة مناطق القبائل في شمال غرب الباكستان إليها وسيلتحق سكان هذه المناطق بإخوتهم الأفغان. ومن أجل عودة الباكستان غير الطبيعية إلى دولة طبيعية يجب أن تتخلى عن منطقة البلوش لنشوء دولة « بلوشستان الحرة».
والكويت ستبقى في الشرق الأوسط الجديد على حالها، أما الإمارات فسينضم بعضها إلى الدولة الشيعية الجديدة التي ستكون مناوئة لإيران وليست حليفة لها كما يقول بيترز. أما دبي فستبقى كما هي ملعبا «للأثرياء الفاسدين». ويزعم المؤلف أن بابل سقطت ثلاث مرات وستظل مضطربة حتى تتحقق الحدود الطبيعية.
ويختم مقالته بما يلي: «إن لم يحدث تصويب للحدود في الشرق الأوسط الكبير بشكل تتفق فيه هذه الحدود مع الروابط الطبيعية للدم والدين فسوف يكون هناك مزيد من سفك الدماء في المنطقة» وكأنه يهدد بحدود دموية إن لم تنجح حدود الدم الأمريكية.
هذا ما كتبه (رالف بيترز) في مقاله (حدود الدم) قبل سنوات، ونحن على يقين أنه ليس كل ما ينشرونه يكون هو المخطط الإستراتيجي الأساس للمنطقة، فما وراء الكواليس هو الذي ينفذ، وما ينشر هو ضمن حرب نفسية يراد بها تدمير ما تبقى لنا من تفكير. ومع ذلك رأينا – بعد أربع سنوات من نشر خريطة الدم - كيف قسمت السودان، وعطلت الحلول لإقامة ما أسموه دولة فلسطينية، وأضحت مناطق الحكم الذاتي برأسين وحكومتين، ومسيرة تقسيم المنطقة تتفاعل بأحداث افتعلوها أو استفادوا من انطلاقها بسبب الظلم والواقع التي تعيشه شعوبنا العربية. وسؤالنا: هل حان وقت تطبيق خريطة الدم (الشرق الأوسط الجديد)؟!
مجلة الفرقان