البرلمان وقصة المائدة الكبيرة

بقلم: حيدر محمد الوائلي

أيام الحكم الملكي في العراق، كان هناك شيخ عشيرة طاعن في السن عضواً في مجلس الأعيان في الفترة التي كان فيها الراحل نوري سعيد رئيساً للوزراء، ومجلس الأعيان من أعلى السلطات وقتها.
كان شيخنا كثيراً ما يغلب عليه النعاس في جلسات المجلس لكبر سنه ويغط أحياناً في غفوة عميقة تستمر حتى يوقظوه أو يستيقظ وعندما تحين لحظة التصويت فيصوت مع من صوّت على قرارات لا يعرفها ولم يسمعها ولم يكن مركزاً عليها، فهو عندما يرى البقية يصوتون فيصوت معهم!
في أحد المرات لم يكن الشيخ نائماً و(يغفي) كعادته في الجلسات فلقد كان مصحصحاً يقظاً ويترقب الوجوه متفرساً، وكان كثيراً ما يلتفت يميناً ويساراً وعلى باب القاعة، ويحملق بالمائدة الكبيرة التي اصطف حولها الأعيان، فألتفت رئيس الوزراء الراحل (نوري السعيد) للشيخ الكبير ولنظراته الغريبة وحملقاته الغير معتادين عليها، فسأله قائلاً:
شيخنا خو ما كو شي! أشو تتلفت يمنة ويسرة وبالك مشغول!
فأجابه الشيخ: لا والله بس انة دايخ! هذا الميز الجبير الكاعدين داير ما دايره شطببه من هذا الباب الزغير!
لم يدري المسكين أن النجارين أتوا به قطعاً صغيرة وركبوه داخل القاعة!

نسبة كبيرة من برلمانينا القدامى المتنعمين بتقاعدهم الخيالي داخل وخارج العراق لخدمة فعلية لم تتجاوز حتى السنتين ومن الحاليين المتنعمين براتب خيالي يعقبه تقاعد ولا بالأحلام ومن خلفهم سياسيين ورجال دين هم من النائمين والمنومين وممن يساعدوا على التنويم ممن دمروا العراق بسوء فعالهم وتدبيرهم.
من البرلمانين من يتم توجيههم ليصوتوا بملأ إرادة الرؤوس الكبار من قبل قيادات حزبية ودينية أو من قبل البرلمانيين القياديين الغائبين عن حضور جلسات البرمان فيصوت على ما يريدوه سواء شاء البرلماني الحاضر أم أبى!
ومنهم من يصوت ويتخذ موقف لمجرد أن رجل دين شاب أو عجوز جالس في بيته ويصدر أمره لأتباعه أن يصوتوا فيصوتوا، ولو خالف برلماني ولم يصوّت لكتب تقرير ضده من (متملق) ليقوم رجل الدين هذا بفصله من الكتلة وطرده لأنه (ما يرتاحلة) ولا يتبع مثل الحمار كل ما يقول!
تخيلوا أن الكثير من البرلمانيين الجدد الذين يتحاورون ويتصارعون ويتناقشون حول الحكومة وآليتها وطريقة عملها هم القلة القليلة من البرلمانيين فأكثرهم حالهم كحالنا (ينتظرون نشرة الأخبار لمعرفة ما يُتفق على إعلانه في اجتماعات القصور المغلقة لأصحاب الروؤس الكبيرة من دينيين وعلمانيين).
ولا أعرف أأقول تعساً لنا أم لهم، فهم متقاعسين وساكتين ومتخاذلين، وكأن الوضع السياسي والحكومي لا يعنيهم بشيء.
لا يجرأ أكثرهم على التفوه بما يمليه عليه ضميره، فيسوقونه كيفما إتفق حيثما تريد الرؤوس الكبيرة التي حالت دون تفعيل آلية التصويت الألكتروني بالرغم من تخصيص ميزانية لذلك، والغرض منه منع البرلماني من التصرف بحريته لكي لا يخالف تلك الرؤوس.

من أربيل لبغداد للنجف فالموصل تدار الصفقات والمداولات في قصور الزعماء ومن ثم لا ندري إلى أين ستكون الجولة القادمة وفي أي قصرٍ من قصور السياسيين ورجال الدين فقد ولّى زمن البيوت، ويالغبائهم وغباء دينهم وعلمانيتهم حيث وقعوا في فخ القصر الذي لم يخلد بخيرٍ بانيه ولم يتنعم فيه ساكنيه فيما مضى واليوم لأنه بني على جرفٍ هار.
ظل دور البرلمان هزيل طوال سنين فهو مغلق وخارج نطاق التغطية ولا يوجد فيه إتصال حتى في وقت لاحق، فهو يغط في سبات كسبات ساكنيه من عشرات الحاضرين وعشرات الغائبين (حيث يتساوى الغائبون مع الحاضرين في الحقوق والأمتيازات وهذا من عجائب البرلمان العراقي)، فالغائبون لا يفصلون ولا يعاقبون كبقية موظفي الدولة، فهم فوق القانون ولا خير في قانون يوجد هنالك ما فوقه.

برلمانيون مسيرون منذ البداية وحتى لو حانت النهاية فليس لهم أمر ولا نهي لا في بداية ولا في نهاية، فهم ليسوا مخيرين مثل الشعب العاقل الذي إنتخبهم بملأ إرادته وبكامل قدرته العقلية التي سيفقدها قريباً بسبب الصراعات السياسية والمؤامرات الداخلية والخارجية وسوء الأحوال الأمنية والخدمية.

يرتجون من غائبين عن جلسات البرلمان ممن يتقاضون الملايين من غير كدٍ وعناء والذين لم يتجرأ (النجيفي) رئيس البرلمان أن يصدر أمراً بفصلهم أو تبديلهم لأن المركز الأول بعدد الغيابات من قائمته (العراقية)، ويليهم نواب (دولة القانون) فـ(التحالف الوطني) ومن ثم (التحالف الكردستاني) حيث ينبغي مجاملتهم كي لا يزعلوا وكي يسكتوا، وقد سكتوا بالفعل ولكنهم دائماً ما يصرحون أنهم زعلانين (على شني ما ادري)!
فكيف يُرتجى منهم حل أزمة العراق السياسية والأقتصادية والأمنية وهم الذين لم يتورعوا أن يمرغوا كرامتهم حينما ذهب بعضهم متذللاً لقصور دول الجوار طالباً دعمهم لتحصيل مكاسب سياسية حزبية وشخصية على حساب كرامة وهيبة الدولة وسمعتها، فمن السعودية لقطر وتركيا وأمريكا فإيران ، يتمرغون بتراب تلك البلدان متذللين!

كان ضمن الفائزون بالبرلمان نائبان ثبت غشهما في إمتحان الكلية المسائية التي يدرسون بها حيث قاموا بتزوير هوية وجلب شخص ليؤدي الأمتحان بالنيابة عنهم!
أتعرفون بأي كلية كانا يدرسان...؟! كلية القانون!!
أتدرون ماهي وظيفة أحدهما في مجلس النواب...؟! مقرر لجنة النزاهة في مجلس النواب العراقي!!
أتتصورون لأي جهة ينتمون...؟! للحزب الأسلامي العراقي!!
ولك أن تتصور كيف سيكون القانون وأي نزاهةٍ سيراقبون وأي إسلامٍ هم يتبعون!!
أفترتجون من هؤلاء خيراً في تقويم عمل حكومة وبرلمان ودولة؟!
تلك الحكومة التي لا يملك رئيسها قرارها ولا يستطيع السيطرة على وزارءها لأنتماء كل منهم لكتلة سياسية يطيعها وهي المسيطرة عليه فها هي حكومة متهرأة ومتهالكة على نفسها، أم ترتجون منهم إحداث إصلاح سياسي أو إقرار قوانين لصالح الشعب أو تنظيم عمل الدولة!

ما هذا الذي يحصل من إستهتار بحقوق الشعب وكرامته واهانة هيبة الدولة من قبل رجال دين وسياسيي العراق؟!
هذا درس آخر وكم هي الدروس ولا عبرة مع الأسف فهو درس لنا كي ننتخب في المرة القادمة سكنى مناطقنا لنعرف الأخبار منهم لا من التلفاز ونحاسبهم على تقاعسهم وممن نعرفهم ونعرف أصلهم وفصلهم.
هذا أن كان في العمر بقية وبقيت في النفس عزيمة.

لماذا (لم) و(لا) و(لن) نرى دوراً فاعلاً لـ(325) عضو برلمان فاز في الانتخابات، فكل المتحاورين الذين نراهم ونسمع عنهم في الصحف والتلفزيون والانترنت هم قلائل جداً قياساً بمجموع الأعضاء!

طبعاً والمتحاورون منهم يتحاورون لغواً دون فائدة لكي لا يفسرون الكلام مدحاً لهم فهم يتعاركون على الظهور في وسائل الأعلام وتسقيط بعضهم بعضاً ويغطي عن فساد جماعته.
كان ولا زال أكثرهم مسير وليس مخير أو مسافر للخارج ليستمتع مع الأهل والأحبة بينما يحترق العراق بنار ساكنيه وجواره، أو هم نائمين كحال الشيخ رحمه الله ويصوتون بنعم أو لا وهم لا يدرون عن ماذا صوتوا، أو مجبورين على ما صوتوا.