اذا كان يوم كربلاء فريداً في الدهر فان فيه مواقف تتميز واضحة جلية تتملاها ونتملاها فتظل في عيوننا جديدة غضه تغرينا بالتأمل والاستزاده وتبعث بنا في كل ساعة روحاً متسامياً وشعوراً وثاباً يظل يدفع الى اعلى مدارج الرجولات…
فهذا الفتى الهاشمي علي بن الحسين الاكبر هو وحده في يوم كربلا سفر ضخم من اسفار الخلود نقلبه صفحة صفحة في مجالات من الانسانية لا نعرف بأيها نعجب وامام ايها نقف هذا الفتى الهاشمي النضر الشاب الغض الاهاب الذي كان يقف على ابواب العشرين مثقل الصدر بذكريات مريرة تتمثل له في مصرع جده العظيم وخيبته في امته التي اراد ان يقودها الى سعادتها فأبت الا ان تتردى في شقائها وتتمثل له في ابيه الكريم الذي اجتمع له من المزايا ما يصعد به الى القمة في الامة فاذا على القمة اقزام ومسوخ يعبثون بتراث محمد ويمزقون رسالته ويلهون بامجاده وينكلون بانصاره وحماته وتتمثل في هذا المستقبل الغامض الذي يتجلى من وراء الغيب مربد الوجه كالح الجبين.

هذا الفتى الهاشمي ابن العشرين يلتفت الى الوراء فاذا ماض دام وينظر الى الامام فاذا مستقبل تكاد كلومه تبين !...
كان الركب الحسيني يطوي الصحراء في قلب العراق ويطلع من بين الكثبان مقبلاً على ساعته الحاسمة وكان عميد الركب يسير في الطليعة مرفوع الجبين مزهو النفس كأنه يسير بقافلته الى الفتح الذي مابعده فتح.
لقد كان يتلفت الى جيشه الصغير الذي لا يكاد يتجاوز المائة عداً فما يستطيع الا ان يرسل من شفيته ابتسامة فيها المباهات بهؤلاء الانصار الذين تخلو عن الحياة لئلا يتخلوا عنه وفيها السخرية بهذه الدنيا التي جعلت منه قائداً للمائة وجعلت من يزيد اميراً للمؤمنين ومن ابن زياد قائد للملايين !..
وكان يختلس النظر من ابنه الشاب (علي) ويتطلع اليه في دروعه ومغفره وسيفه ورمحه وقوسه ويرى هذه الفتوة المتغطرفه فيود لو فسح لها مجال الحياة والكفاح لتطلع على الدنيا باروع صور البطولات واسمى مظاهر الرجولات ولتعمل على تشييد الصرح الاسلامي ونشر رسالة النبي !..
وكان الشاب يرنو الى ابيه ويرى سجاياه الشماء فيهوله ان تكون معطلة لا تقود الامة خير مقاد !..

لقد كان كل منهما يأسى على صاحبه ويأسى على امته وكان كل منهما يود لو يفتدي الآخر بحياته ويدفع عنه عوادي الدهر بدمه وكانا يسيران صامتين هادئين يكتبان ما يعتلج في صدريهما وما تزخر به نفساهما وكان كل منهما يقرأ على قسمات الآخر ما تنطق به نفسه وما تتحدث به عاطفته.
ولكن الصمت لم يدم فان الحسين اعلن بالتكبير فاقبل عليه ابنه وقد هاج شعوره وثارت كوامنه لان اباه انما يكبر مهموماً ويهتف مغموماً وسأله يا أبتي لم كبرت ؟..

فقال الحسين لقد هتف بي هاتف ان القوم يسيرون والمنايا تسير بهم فعلمت انها نفوسنا نعيت الينا .
هذا الفتى الهاشمي ابن العشرين يفاجئه ابوه لا بما يرضى الشباب ونضارة الصبا يفاجئه بأن المنية تنتظرهم على الطريق:
وانتظر الحسين ليسمع جواب ابنه ولم يطل انتظاره.
قال علي: أو لسنا على الحق ؟
قال الحسين: بلى .
قال علي: اذن لا نبالي ان نموت محقين !
يا فتيان العرب ويا شباب الاسلام اذا عصفت بكم مكايد الزمن، وتألبت عليكم عوادي الدهر فتطلعوا بقلوبكم الى ذاك الماضي البعيد واصيخوا بأسماعكم الى صوت البطل الشاب يصرخ بكم من اعماق الاجيال أو لسنا على الحق؟ اذن لا نبالي ان نموت محقين …