الدكتور حمدي التكمجي: في محلتنا جامع وحسينية وكنيسة ومدرسة ومحل خمور!
إذاعة العراق الحر/نبيل الحيدري:شطرَ شارعُ الملكة عالية (الجمهورية لاحقا) بداية الخمسينيات، إحدى أعرق محلات بغداد القديمة في الرصافة "محلة صباببغ الآل"، فقد ضمت هذه المحلة على مدى قرون نسيجا اجتماعيا عراقيا أخّاذا في تنوع قاطنيها وانتماءاتهم.
وقد سعى الباحث الدكتور حمدي التكمجي المولود في هذه المحلة عام 1929 الى توثيقها من خلال دراسة تكوينها الاجتماعي والاقتصادي والعشائري، ورسم َ مخططاً لدرابينها وعقودها أوضح فيه مواقع بيوتها بأسماء العائلات والشخصيات التي سكنتها على مدى عشرات السنين.
لا بعرف أغلب الشباب البغدادي حاليا منطقته الأصلية التي سكنها أجداده، قبل أن ينتقلوا إلى أحياء بغداد المستحدثة، ففي العقود الأخيرة اندثرت وتغيرت ملامحُ اغلب المحلات البغدادية في الرصافة مثل باب الأغا، وصبابيغ الال، والدهانة، وباب الشيخ، والفضل، وقنبرعلي، وابو سيفين حيث قسم أغلبها لتصبح محالا تجارية ومخازن، آو تحولت الى شوارع.
يخبرنا ضيف " حورارت" حمدي التكمجي أن محلته "صبابيغ الآل" مثلت نموذجا صادقا عن المجتمع البغدادي في النصف الأول من القرن العشرين، فقد تجاور قاطنوها من المسلمين الشيعة و السنة والكرد مع المسيحيين واليهود والأرمن في تعايش يسوده السلم والوئام والاحترام المتبادل
واحتفظت كل فئة بعاداتها وتقاليدها دون تجاوز من قبل الآخرين، ففي عقود المحلة التي حوت عدة جوامع وحسينيات كانت هناك كنيستان في عقد النصارى وكنيس يهودي، وفيها تأسست المدرسة الجعفرية، ومدرسة التفيّض التي أسستها جمعية مسيحية.
لعله من المستغرب لدى البعض اليوم أن يسمع انه كان في هذه المحلة البغدادية الأصيلة محلان لبيع الخمور، لم يتعرضا للاعتداء او التجاوز في تلك الأيام، ولكن أصحابهما – خلال أيام شهر رمضان- كانا يسدلان ستارة قماش على واجهة المحل فقط، ويبقى للمتسوق الحق أن يشتري ما شاء له من الخمور!
وتمتعت العائلات المسيحية واليهودية في هذه المحلة بحرية المعيشة وفق تقاليدهما، ويذكر ضيف حوارات ان بعض الفتيات والسيدات المسيحيات لم يكنّ يرتدين العباءة البغدادية، بل يمشين سافرات وهو أمر مقبول لم ُيثر سلوكا رافضاً من الآخرين، ويتذكر التكمجي كيف أن مناسبات مختلفة مثل شهر رمضان والأعياد وعاشوراء، حضيت بمشاركة واسعة من جميع أبناء المحلة.
برغم وجاهة بعض العائلات التي سكنت محلة صبابيغ الال، فقد تجاورت وتعايشت مع عائلات ذوي المهن اليدوية والحرفيين والبنائين في تعايش طبقي سلمي.
يستذكر الدكتور التكمجي تأسيس المدرسة الجعفرية في محلة "صبابيغ الآل" التي لم تكن تحمل من (الجعفرية) من شيء سوى اسمها! فقد كان طلبتها خليطا من المسلمين شيعة وسنة بل لم يكن مستغربا أن تجد طلابا من أديان أخرى، فضلا عن تنوع ديانة وانتساب مدرسيها، وهذا ينسحب ايضا على مدرسة التفيّض التي أسستها جمعيات مسيحية، بينما كان طلبتها من مختلف الانتماءات الاجتماعية والدينية
يكشف ضيف حوارات عن أن مكتبة جامع الخلاني المجاور لمحلة صبابغ الال، كانت توفر الكتب بمختلف اتجاهاتها لقرائها من أبناء المنطقة الشعبية، فلم يكن صعبا على الشباب المتطلع الى المعرفة أن يجد الكتبَ الفلسفية والسياسية والفكرية بمختلف اتجاهاتها مادية و وجودية وقومية وماركسية، إضافة الى الإسلامية.
الحوار مع ابن المحلة وموثقها حمدي التكمجي يرسم صورةً لواحدة من محلات بغداد العريقة، التي لم يبق منها إلا بضعة أزقة وبيوت وجدران... وذكريات تستحق التوثيق.
كاردينيا