سينما الأبعاد الثلاثة تواجه أزمة مصير مؤجلالجمهور يفضل السينما «الطبيعية»
«أفاتار».. بدأ الموجة الجديدة
«باسيفيك ريم».. تفاؤل رغم ضعف إيراداته
«جامعة الوحوش».. ثلثا إيراداته من السينما الطبيعية
دبي: محمد رُضا
«السينما ذات الأبعاد الثلاثة هي هنا لتبقى».. قال المخرج مايكل باي في أكثر من مقابلة تمهيدا لإطلاق فيلمه الأخير في سلسلة «ترانسفورمرز» تحت عنوان «ظلام القمر» (Transformers: Dark of the Moon) سنة 2011. وهو لم يكن الوحيد في هذا الظن، فحتى حين قريب ساد الاعتقاد بأن فيلم البعدين بات في عداد المخلفات التي تتركها وراءها – عادة - التطورات والتقنيات الحديثة. أليس صحيحا، على سبيل المثال، أنه منذ أن اختارت السينما الفيلم الملون والأفلام السوداء والبيضاء انزوت تدريجيا حتى لم يعد من بينها سوى تلك النادرة التي تحركها عوامل النوستالجيا والبحث عن التفرد والاختلاف؟لكن هناك أمورا لا يمكن أن تنجرف في هذا الاعتبار. تقاليد من الصعب اقتلاعها وتغييرها أو الطموح للتخلص منها، واليوم، وكما أن التلفزيون لم يلغ السينما (كما كان متوقعا) ولا أسطوانات الأفلام المدمجة (DVD) ألغت عادة الذهاب إلى السينما، فإن أهل صناعة أفلام الأبعاد الثلاثة باتوا اليوم أكثر اقتناعا بأن هذا النظام لن يستطع تغيير التقليد السائد والأكثر شعبية.. تقليد الشاشة ذات البعدين.
* محاولات محدودة
* هذا الإدراك لم يتم مجانا. الأفلام التي انطلقت مباشرة بعد «أفاتار» لجيمس كاميرون في هجمتها الكبيرة على سينما الـ3D كانت من الكثرة والتعدد بحيث بدت السينما آيلة إلى الاستسلام إلى نظام كان برهن عن فشله في الخمسينات حين حاولت هوليوود اعتماده في المرة الأولى. وكانت بالغة التكلفة، فعلى عكس الغزو المحدود لتلك السينما في الخمسينات عندما تم استخدام النظام في سينما الخط الثاني والثالث من الإنتاجات، أمّت النظام المتجدد أفلاما بالغة التكاليف بحيث إذا ما جمعنا أرقام ميزانياتها لتجاوزت الأربعة مليارات دولار منذ ذلك الحين وإلى اليوم.
كل ذلك كان على أمل أن تنجز سينما الأبعاد الثلاثة من الإيرادات ما يشكل منعطفا مهما على صعيد الإيرادات وعلى نحو لا يمكن لوسائط العروض الأخرى المتاحة تقليده أو تجاوزه. وفي البداية كان الجمهور رائعا في تجاوبه. «أفاتار» كان حدثا عملاقا على أكثر من صعيد وسجل في نهاية عروض العالمية مليارين و800 مليون دولار. جيمس كاميرون قال لـ«الشرق الأوسط» قبيل افتتاح الفيلم «أعتقد أن كل أفلامي المقبلة ستكون بالأبعاد الثلاثة. إنه تطور منطقي في عالم لا يتوقف عن التطور».
صحيح أنه بعد ثلاث سنوات قال لهذا الناقد في مناسبة أخرى «إذا ما استمرت هوليوود في إنتاج أفلام الأبعاد الثلاثة على هذا النحو (المتزايد) فإن الجمهور سينصرف عنها» إلا أن نقده المبيّت ذلك كان موجها لموجة تحويل الأفلام التي لم يرها صالحة لذلك النظام، مثل «كيف تدرب تنينك» (2010) و«كلاب الفضاء» (2010) و«بيرانا» (2011) و«المريخ يبحث عن أمهات» (2011). وما هو صالح في اعتباره «على الفيلم أن يحتوي أسبابا أهم من مجرد الرغبة في إبهار المشاهد بنتوء يخرج من الشاشة. على النظام أن يدخل في صلب السرد ويضيف للدراما من دون أن يأخذ منها».
في الأعوام السابقة لتجربة جيمس كاميرون كانت المحاولات محدودة وكانت تتم في معظمها على نظام الكاميرا المزدوجة: كاميرتان متلاصقتان في مكان واحد يستخدمان فيلمين يتم تصويرهما معا من الزاوية ذاتها وبالحجم ذاته، كما في فيلم ألفريد هيتشكوك «أدر قرص م للجريمة» (1954) وقبله بعام فيلم ألفريد ووركر الويسترن «وادي الشيطان»، وفي العام ذاته ويسترن آخر هو «تازا ابن كوتشيز» (لدوغلاس سيرك) و«مخلوق من البحيرة السوداء» (جاك أرنولد - 1954).
هذا في الخمسينات، أما قبل «أفاتار» ببضع سنوات فإن النظام المعمول به غالبا ما ارتبط بوجود كاميرا الديجيتال التي تتيح النتيجة ذاتها باستخدام كاميرا واحدة. وهذا ما أقدم عليه على سبيل المثال «فصل مفتوح» سنة 2006 و«حياة الموتى الأحياء» (2007). كذلك أمكن للسينما تطوير الفيلم المصور بالبعدين ليناسب نظام الأبعاد الثلاثة كما حدث سنة 2006 عندما تم توفير «سوبرمان يعود» ثلاثيا وسنة 2009 عندما تم تحويل «هاري بوتر والأمير نصف الشقيق» من النظام السابق إلى الجديد كما في العام التالي مع تجربة «صدام العمالقة» (Clash of the Titans) الذي تم تصويره كذلك بالبعدين ثم دخل المطابع لتحويله.
* محاذير التجربة
* على أثر نجاح «أفاتار» لم يكن في وسع هوليوود سوى رفع نسبة الأفلام المتحوّلة من بعدين أو المصورة مباشرة بالأبعاد الثلاثة، لذلك لاحظنا ارتفاع المنسوب إلى 42 فيلما معظمها (33 فيلما) من هوليوود. كثير منها ينتمي لسينما الأنيميشن (مثل «شريك» و«يا لحقارتي» و«كلاب الفضاء») ومنها ما انتمى إلى السينما الحية (مثل «ترون: الإرث» و«بيرانا» و«شر مستوطن: بعد الحياة» و«المعركة الملكية» إلخ..).
في العام التالي، 2011، ارتفع العدد إلى أكثر من ستين فيلما حول العالم (بينها الفيلم اللبناني «آخر فالنتاين في بيروت» لمخرجه سليم الترك) من بينها 47 فيلما أميركي الإنتاج (بينها أفلام أميركية - أوروبية مشتركة، منها الحلقة الأخيرة من «هاري بوتر»).
هذا الدفق استمر رغم بداية ظهور تلكؤ في عدد الناجح من هذه الأفلام جماهيريا. الذي حدث خلال عام 2011 ولم تستدركه هوليوود إلا مع جلاء الأرقام الإجمالية، هو أن الإقبال على أفلام الأبعاد الثلاثة هبط إلى أقل من ربع الإيرادات العامة. وإذا ما أخذنا بريطانيا مثلا، وهي مثال جيد، فإن ما أنجزته الأفلام التي عرضتها صالات السينما بنظام الأبعاد الثلاثة من إيرادات لم يزد على 230 مليون جنيه (نحو 500 مليون دولار) أي بتراجع قدره 24 في المائة عن العام الأسبق 2010.
من هناك سادت محاذير قليلة. بدأ الريب يخالج بعض المخرجين ولو أنه لم يمنع عددا منهم من الإقدام عليه. على طاولة عشاء جمعتني والمخرج مارتن سكورسيزي في جمعية المخرجين الأميركيين قبل إطلاق فيلمه «هيوغو» سنة 2011 سأل نفسه «هل لدي شكوك في أن فيلمي المقبل سيكون بالبعدين التقليديين؟ لا، لأني أنوي دخول التجربة. هل عندي شك في أن هذا النظام لا يزال طريا وقد يأخذ وقتا طويلا قبل أن يصبح حتميا؟ نعم».
حين سؤاله لماذا إذن سيقدم على تصوير تلك الدراما التي دارت حول إعادة اكتشاف تراث المخرج الفرنسي جورج ميلييس الذي أنجز مع مطلع القرن الماضي مئات الأفلام القصيرة ثم التوى منسيا لما قبل وفاته سنة 1938، قال «لأنني أريد اختبار هذا الوسيط من ناحية. كذلك إذا لاحظت كل الأفلام المصنوعة بنظام الأبعاد الثلاثة في هوليوود فإنها أفلام مغامرات وفانتازيا وخيال علمي. جزء مني يريد البرهنة على أننا نستطيع تحقيق فيلم درامي جيد بمضامين إنسانية بهذه الطريقة».
على أن سكورسيزي لا يبدو أنه بات مقتنعا بالفكرة اليوم. فيلمه الجديد «ذئب وول ستريت» الذي يسجّل فيه لقاء رابعا مع ليوناردو ديكابريو اختار تصويره بالبعدين التقليديين. وإذا ما كان البعض يعزو ذلك إلى أن «تيمة» الفيلم الدرامية لا تؤهله للنظام الثلاثي، فإن هذا ما قيل أيضا في «هيوغو» قبل تصويره بذلك النظام.
* تكلفة البعد الثالث
* مهما يكن فإن الأرقام الأخيرة لا تستطيع إلا أن تثير علامات استفهام كثيرة حول مستقبل نظام الأبعاد الثلاثة حتى في نطاق سينما المغامرات والأنيميشن والخيال العلمي.
في الشهرين الماضيين جاءت الإيرادات المسجلة للأفلام التي تم إطلاقها على هذا النحو مخيبة لأكثر التوقعات تواضعا: 31 في المائة من إيراد فيلم الأنيميشن «جامعة الوحوش» هي حصيلة الصالات التي عرضته بالأبعاد الثلاثة. إذ سجل الفيلم حالة صحية إجماليا (659 مليون دولار حول العالم إلى الآن) فإن ذلك يعني أن ثلثي هذا الإيراد تم تسجيله من صالات البعدين وحدهما. بعد أسبوعين من عرض هذا الفيلم انطلق فيلم الأنيميشن الآخر «يا لحقارتي 2»، فإذا بـ27 في المائة من إيراداته هي حصيلة إقبال الناس على مشاهدته ثلاثيا. وأضعف منه الفيلم الحالي «توربو» الذي جمع عالميا 120 مليون دولار فقط (تكلف 135 مليون دولار) ربعها فقط من صالات النظام المجسد.
والأمر نفسه وأشد من نصيب الأفلام الحية (غير الأنيميشن): «الحرب العالمية زد» اكتفت بـ34 في المائة من إيراداتها من صالات النظام، و«غاتسبي العظيم» اكتفى بـ33 في المائة، و«بعد الأرض» جمع 235 مليونا حول العالم (منها نحو 100 مليون دولار أميركيا أي أقل من كلفته التي جاوزت الـ140 مليونا) من بينها قرابة 60 مليون دولار من النظام الثلاثي.
«باسيفيك ريم» كان الاستثنائي. حصته من إيرادات الـ3D بلغت نحو 50 في المائة، ولو أن حصته من العروض الأميركية كافة لم تنجز المأمول لها واكتفت بأقل من مائة مليون دولار، علما بأنه تكلف ضعف ذلك تقريبا.
هل سيدفع كل ذلك شركات السينما للتوقف عن تحقيق أفلامها بالأبعاد الثلاث والعودة إلى سينما البعدين؟ هناك جوانب للإجابة عن هذا السؤال، من بينها أن معظم الجمهور يحب السينما بالبعدين ويفضّلها لأنها بالنسبة إليه «طبيعية» أكثر من سواها. صحيح أن سينما الإنتاجات المثلثة لها قرابة أقوى مع الحياة التي نعرفها في الواقع (التي هي طبيعيا ثلاثية وربما رباعية الوجود)، إلا أن الداخلين إلى السينما يريدون التميز وليس الالتقاء. يبغون الغريب وليس النسخة ذاتها. إلى جانب أنهم يجدون أن العديد من الأفلام المصنوعة بنظام الأبعاد الثلاثة لا تضيف جديدا على الفيلم بل تسطو عليه.
لكن الجانب المهم أيضا هو أن سعر التذكرة لأي فيلم ثلاثي الأبعاد يكاد يكون ضعف سعر الفيلم المسطح. وهذا عامل مهم، والأهم منه أن الاستوديوهات لم تتكلف كثيرا لصنع فيلم ثلاثي الأبعاد، فلم توافق على أن تقوم الصالات برفع سعر التذكرة إلى عشرين دولارا أو أكثر في بعض العواصم؟
هذا التفضيل لا يكفي لأن ندق مسمار النهاية في تجربة سينما الثري دي. وذلك لسببين: هناك أولا أفلام تستحق أن تُصنع بالأبعاد الثلاثة (من بينها أفلام جيمس كاميرون المقبلة في عداد سلسلة «أفاتار») وهناك، ثانيا حقيقة أن تحويل فيلم من البعدين إلى الثلاثة أو تصويره بالأبعاد الثلاثة لا يكلف، كما ذكرنا، كثيرا. يقول المنتج نيل دودسون لـ«الشرق الأوسط» في لقاء على أعتاب مهرجان «كان» الماضي حيث قدم فيلمه «كله ضاع» (بطولة روبرت ريدفورد): «بصراحة لا أنوي أو أحبّذ تحقيق فيلم بالأبعاد الثلاثة لأنها لا تناسب النوع الذي أريد أن أنتجه. أنا لست هنا في زيارة لمدينة ملاه بل أريد أن أحقق أعمالا تستحق أن تُسرد. لكني في الوقت نفسه أعلم أن تنفيذ البعد الثالث لكل فيلم لا يكلف كثيرا. بالتالي فإن الفيلم الثلاثي سيبقى معنا لزمن طويل إن لم يكن للأبد».
توضيحا، فإن كلفة تصوير الفيلم بالأبعاد الثلاثة تتراوح، حسب المشروع، ما بين عشرة ملايين دولار وعشرين مليون دولار تستطيع الاستوديوهات امتصاصها إذا ما حقق الفيلم نجاحا كبيرا حتى وإن كان هذا النجاح من نظام البعدين. القلق، رغم ذلك، يساور البعض منها على أساس أن كثرة المعروض بالنظام الثلاثي ستعني استمرار انصراف الجمهور عنه حبا في سينما «طبيعية».