الاختصاص التشريعي لمجالس المحافظات في العراق
المحامي حسن العكيلي
بعد تغيير النظام في العراق في 9/4/2003 شرع القادة السياسيون بالتفكير بطبيعة نظام الحكم وشكل الدولة في العراق الجديد عراق ما بعد التغيير وطي صفحة النظام السابق الذي بنى نظام حكمه على الديكتاتورية والقمع والمركزية الشديدة كنظام لإدارة البلد بحيث كانت القرارات منحصرة في المركز ولربما بشخص الرئيس وحاشيته لذا كان لابد من تبني نظام اللامركزية الإدارية كنظام للحكم الاتحادي في العراق وقد تضمن دستور العراق لعام 2005 والذي صوت عليه العراقيون نصا صريحا بهذا الصدد حيث نصت المادة (116) منه على (يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية) وبناءاً على تحديد شكل النظام بهذه المحددات أتت المواد الأخرى في الدستور تباعاً لتكرس اللامركزية الإدارية ولتعبر بشكل واضح عن حدود تلك اللامركزية وبصرف النظر عن الآراء التي تعتبر تلك الحدود اللامركزية الإدارية التي وردت في الدستور مبالغ فيها وربما تشوه اللامركزية الإدارية، الا اننا في هذه الدراسة سنتعرض لها كواقع حال قائم بناء على الدستور والقوانين النافذة...
ستقتصر هذه الدراسة على الصلاحيات التشريعية لمجالس المحافظات دون غيرها من الصلاحيات الأخرى التي منحها الدستور لتلك المجالس فضلاً عن القانون.
ومن المهم في المقدمة ان نبين المستويات المختلفة للتشريع في العراق كي نتمكن من فهم المستوى الأخير لها والمتمثل بالتشريعات التي تصدرها مجالس المحافظات وقبل تفصيل ذلك من المهم التعرض الى تقسيم الاختصاصات الدستورية كما أوردها الدستور العراقي فالاختصاصات وزعها الدستور على السلطات الاتحادية والإقليمية والمحافظات فحدد اختصاصات السلطات الاتحادية على سبيل الحصر وكل ما لم يرد ضمن تلك الاختصاصات يكون من اختصاص الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم وكذلك حدد الدستور بعض الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية من جهة وبين الأقاليم والمحافظات من جهة أخرى وبذلك يكون النظام في العراق مبني على ثلاثة مستويات وان المستويات الثلاثة المذكورة قد منحها الدستور والقانون صلاحيات تشريعية وقد رتب المشرع العراقي تلك التشريعات على ثلاثة مستويات أيضاً نبينها على التوالي:
المستوى الأول: التشريع الاتحادي الذي يصدر عن السلطات الاتحادية لتنظيم الشؤون الاتحادية وهذه التشريعات منها القديم الذي صدر قبل الدستور ومازال نافذا ومنها التشريعات الحديثة التي صدرت بعد الدستور.
المستوى الثاني: التشريعات الإقليمية (في الأقاليم) لتنظيم شؤون ذلك الإقليم ولا يتعدى نفاذ تلك القوانين الى خارج حدود الأقاليم، ويجب ان لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية المنظمة للاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، المادة (121) أولاً من الدستور العراقي.
المستوى الثالث: التشريعات المحلية وهي التشريعات التي ستصدرها مجالس المحافظات لتنظيم شؤون المحافظة الإدارية والمالية، ولا يتعدى نفاذها خارج حدود تلك المحافظة ويجب ان لا تتعارض مع الدستور أو مع القوانين الاتحادية، وكذلك ان لا تتعدى تنظيم شؤون المحافظة المالية والإدارية (المادة (7) ثالثاً من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008).
وما يهمنا هنا هو المستوى الثالث وهو التشريعات المحلية التي ستصدرها مجالس المحافظات ومن الجدير بالذكر ان تجربة مجالس المحافظات طيلة السنوات التي أعقبت التغيير لم تشهد إصدار أي تشريع من مجالس المحافظات وذلك ربما لعدم وجود نص قانوني واضح وصريح يبيح لها ذلك قبل صدور القانون المرقم (21) لسنة 2008 حيث ان عمل المجالس كان مستنداً الى دستور 2005 وآمر سلطة الائتلاف المذكور لا نجد نصا صريحا يمنح مجالس المحافظات صلاحية تشريعية وهذا ما يبرر عدم صدور التشريعات منها، الا ان القانون رقم (21) انف الذكر منحها هذه الصلاحية وذلك في المادة (7) ثالثاً منه حيث نصت على صلاحيات المجلس ومنها (إصدار التشريعات المحلية والأنظمة والتعليمات لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وبما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية)، ومن خلال نص المادة المذكورة يتبادر الى الذهن مجموعة من التساؤلات تحتاج الى إجابة...
-ما نوع التشريعات التي خول القانون مجالس المحافظات إصدارها؟
-حدود سريان ونفاذ تلك التشريعات من حيث المكان (الرقعة الجغرافية).
-من الجهة الرقابية التي تتولى الرقابة على دستورية التشريعات الصادرة عن مجالس المحافظات؟
-ما هي العلاقة بين التشريعات المحلية التي تصدر عن مجالس المحافظات والتشريعات الاتحادية؟
ولعل الإجابة عن هذه التساؤلات تساعد كثيرا مجالس المحافظات المنتخبة حديثا في فهم الدور التشريعي الذي نص عليه قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم ذي الرقم (21) لسنة 2008، وسنجيب على هذه التساؤلات تباعاً... من حيث نوع التشريعات التي خول القانون تلك المجالس إصدارها فهي كما ذكر نص المادة أعلاه بان تكون هذه التشريعات لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية ويفهم من النص ان التشريعات يجب ان تكون تنظيمية بالجانبين الإداري والمالي، أي ان تكون التشريعات الصادرة عن تلك المجالس منظمة لجانب إداري في المحافظة أو جانب مالي فيها..
والأمثلة على هذين الصنفين كثيرة سأورد بعضها، فمثلا التشريعات التي تنظم الجانب الإداري (استحداث وحدة إدارية كان يكون استحداث ناحية أو قضاء، أو دمج قضائين بقضاء واحد أو ناحيتين بواحدة أو تغيير اسم ناحية أو قضاء.....الخ)، وهذه كلها تصدر بقانون صادر عن مجلس المحافظة لتنظيم إداري فيها.
اما التشريعات التي تنظم الجانب المالي فلعل من ابرز صورها (تشريعات لفرض رسوم معينة أو تشريعات يصدر بموجبها طوابع مالية أو بريدية خاصة بالمحافظة..الخ)، لذا فيمكن القول ان التشريعات التي ستصدرها مجالس المحافظات يجب ان لا تتعدى هذين الشكلين من التشريعات فلا يجوز مثلاً لمجالس المحافظات إصدار تشريعات عقابية أو جزائية تجرم أفعالاً مثلاً أو تحدد عقوبات على أفعال غير مجرمة في قانون العقوبات الاتحادي كما لا يجوز لها ان تصدر تشريعات مدنية تنظم العلائق التعاقدية بين أفراد المجتمع في المحافظة كون القانون الاتحادي كفل تنظيم ذلك وكونها أي مجالس المحافظات غير مختصة وغير مخولة بإصدار هذا النوع من التشريعات. اما التساؤل الأخر بشأن حدود سريان تلك التشريعات من حيث المكان فيمكن الإجابة عليه بان تلك المجالس انتخبها شعب المحافظة فلا تسري تشريعاتها الا على تلك المحافظات ولا تنفذ في حدود إدارية لمحافظة أخرى فلا يجوز مثلا لمجلس محافظة بغداد ان يصدر تشريعا ليغير اسم قضاء تابع إدارياً لمحافظة بابل، كما لا يجوز له ان يصدر تشريعا يفرض فيه غرامة مالية معينه على من يرمي الازبال في غير الأماكن المخصصة لها في محافظة غير محافظته، لذا فان تلك التشريعات لا تنفذ الا في حدود المحافظة التي أصدرت التشريع ولا تنفذ بحق المحافظة الأخرى. أما التساؤل بشأن الجهة المتخصصة بالنظر في دستورية تلك التشريعات فيمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال نص المادة (93) من الدستور حيث أشارت المادة المذكورة الى اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا وقد ورد ضمن تلك الاختصاصات.
أولاً الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.
رابعاً من نفس المادة.. الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ومن خلال تلك النصوص يتبين أن المحكمة الاتحادية العليا هي المختصة في النظر في دستورية التشريعات القانونية والأنظمة أيضاً، وتكون قرارات هذه المحكمة ملزمة للسلطات كافة، كما ورد في المادة (94) من الدستور.
وللإجابة عن التساؤل الأخير الذي عرضناه سابقاً وهو حدود العلاقة بين التشريعات الصادرة عن مجالس المحافظات والتشريعات الاتحادية يمكن القول في هذا الصدد ان العلاقة بينهما لها صفتين (علوية القانون الاتحادي، تكاملية القوانين).
علوية القانون الاتحادي: حيث نصت المادة (7) ثالثاً من قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم والتي بيناها في بداية البحث على ان لا تتعارض التشريعات المحلية مع الدستور والقوانين الاتحادية، وبذلك تكون للقوانين الاتحادية علوية على التشريعات التي تصدرها مجالس المحافظات، فمثلاً لا يجوز لمجلس محافظة بغداد إصدار قانون يعفي المحامين من الضريبة لأن هذا القانون يتعارض مع قانون اتحادي فرض على الدخل المتحقق لذوي المهن (ضريبة دخل)، لذا يكون القانون المحلي مخالفاً لقانون اتحادي ما يوجب إلغائه.
التكاملية بين القانون المحلي والقانون الاتحادي: ومعنى ذلك أن المساحة التي منحها القانون لمجالس المحافظات لممارسة الدور التشريعي مساحة محدودة فأي تشريع يتعدى هذه المساحة يكون باطلاً ومخالفاً للدستور والقوانين، لذا فإن التشريعات التي ستصدر ضمن هذه المساحة تكون صحيحة وموافقة للقانون إلا أنها أي التشريعات المحلية يجب أن تتكامل مع التشريعات الاتحادية كي يمكن تنفيذها وتطبيقها. ولتقريب المعنى يمكن تصور صدور قانون من مجلس محافظة بغداد يفرض غرامة مالية على فتح مقاهي الانترنت من دون إجازة مسبقة من جهة معينة، فإذا ما امتنع المخالف عن دفع الغرامة، فما هو الحل؟.. يمكن هنا تفعيل القوانين الاتحادية التي تحاسب المتخلفين عن تسديد الديون والغرامات الحكومية لتطبيقها بحق المخالف.
وختاماً تبقى جميع التشريعات والقرارات الصادرة عن مجالس المحافظات، فضلاً عن الأداء خاضعة لرقابة مجلس النواب العراقي وذلك وفقاً لأحكام المادة (2) ثانياً من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 التي نصت على (ان يخضع مجلس المحافظة والمجالس المحلية الى رقابة مجلس النواب) والصلاحية الرقابية الممنوحة لمجلس النواب تبيح للأخير الكثير من الحقوق لعل أبرزها حل مجلس المحافظة وإقالة المحافظ، وذلك وفق ما ورد في المادة (20) ثانياً، حيث في حالة مخالفة مجلس المحافظة للدستور أو القوانين الاتحادية يكون لمجلس النواب حله بالأغلبية المطلقة، وبذلك يكون مجلس النواب العراقي كسلطة اتحادية عليا له حق الرقابة على تلك المجالس بناءاً على قانونها المذكور آنفاً.