موناليزا العراق
تُعتبر الإبداعات الفنية التشكيلية الرافدينية، مصدر إثارة دائمة للأجيال المعاصرة. ومرد ذلك يكمن فيما يراه الفكر المعاصر فيها من بنائية شكلية تتفق
مع العديد من النزعات الفنية السائدة في عالم اليوم وميول الذائقة المعاصر بشكل عام . إن قراءة تشكيلية لهذه الإبداعات الفنية باعتبارها دلالات هامة في بنية الفكر الحضاري، وإبداعات فنية بصدد التكوين التشكيلي تدعونا إلى أن نتجاوزها بانتقال الفكر إلى ما بعد ما هي كائنة عليه في واقعها المباشر من حيث هي معطيات، بحثاً عن تعبيرها الذي يتجاوز القيم الجمالية للأشكال إلى عمقها وإمداداتها لتقدم رؤاها المتسعة بذلك الفيض من حرية التعبير مما جعلها موضع جدل وتأمل واستيحاء وفاعلية إدهاش .
إن دراسة تحليلية من هذا النوع، لا تكتفي بإيضاح طبيعة الفن من خلال الفن ذاتهِ وإنما تتناول الأعمال الفنية الإبداعية داخل إطار واسع هو إطار الحضارة الإنسانية عموماً، إنها توجب رؤية أفق المشهد بآلية ذهنية تحليلية تركيبية جديدة، تنطلق من منظور قيمها المعمارية فكرياً، وعمقها الدلالي الفكري لزمكانيتها، فهي مجردة من وجودها المادي باعتبارها رؤى روحية ورموز دينية وقوى فاعلة في الوجود الإنساني . ولعل ذلك ما يحرك الإدراك من الوظيفة التي أوكلت إليها، فهي عبارة عن قوى متقنة بمدلولات عقلية، وهذه الدلالات تمتزج بإشكالات الفكر وترتكز عليه .
وموناليزا العراق الخالدة (شكل 1) رائعة من روائع الفن العراقي تعود إلى عصر ما قبل التدوين في تاريخها (5000 ق.م)، وإلى منطقة الموصل في بيئتها المكانية . وتتمثل بجسم من الفخار على شكل جرة كروية الشكل ذات رقبة طولية تتميز بحس شاعري في انتظام شكلها، وخبرة مستندة إلى تراكم معرفي كبير في إخراج مظهرها التشكيلي الجمالي . لقد وظف الفنان فضاء الرقبة الخارجية كسطح تصويري لتنفيذ وجه أمراه، وقد زاوج في بنائه بين النحت والرسم . في حين أستغل بدن كتلة الجرة المنتفخ لتنفيذ جسم المرأة) .
وإنطلاقاً من الكلي إلى الجزئي في بنائية التكوين، يكشف النسيج الفكري الكامن في بنائية المشهد عن تشخيصه كرمز فاعل في حركة الفكر الاجتماعي، ذلك إنه يسمو على كونه مفردة زخرفية تزينيه، ويمتد إلى مدلولات فكرية تنشد الخصب والتكاثر والتجدد والنماء في كل مظاهر الطبيعة . إن للصورة الذهنية الكامنة في الحاجة الروحية الاجتماعية، والتي تحتفل بقصدية وتقيم طقوسها بمولد الربيع الجديد في كل عام . وتكمن الخصوصية الإبداعية التي يقودها الذهن والأداء في المزاوجة التعبيرية بين العناصر البنائية للشكل والمضامين الفكرية المرتبطة بها . حيث أستغل الفنان، بقصدية، بدن الجرة المنتفخ لتمثل جسم المرأة الولود، باعتبارها رمز لحلول التجدد والخصب والنماء في عوالم إنسان العراق الأول . فليس التعبير هنا مجرد عرض خارجي قد تلبس في العمل الفني، وإنما هو بمثابة مركز إشعاع تنتظم حوله سائر مكونات التشكيل بقيمه المادية والروحية . لقد استطاعت التجربة الإبداعية المرتبطة بوسطها الحضاري، أن تمثل في شكل إنساني الجوهر الروحي، وأن تخلق بين الروح والشكل البشري بنية فكرية وهي السمة الهامة التي تميز مثل هذه الأشكال الرمزية .
وفي بنائية موناليزا العراق، كان الفكر يعمل بآلية تهدف إلى خلق موازنة بين الإحساس الداخلي وعالم التجربة الخارجي . حيث تكون مهمة التشكيل الفني إدراك مثل هذه الموازنة ليكون الوسيط ما بين الظاهرة الحسية بخصائصها المعروفة وعالم الموجودات الروحية، في تفاعل جدلي ما بين الشيء وجوهرة وبين الشكل ومضمونه . وفي ذلك تكمن القدرة الإبداعية في الرقي على جميع الصور الفردية وشتى أنواع الجزئيات . فقد أعطيت الصور الطبيعية تفسيرات عقلية، ورفع العضوي بموجبها إلى مستوى الفكر، إذ لم بكن التقليد غرض هذا الفن، بل الكشف عن الرؤى التي تساعد الإنسان في امتلاك صلات حميمية مع الميتافيزيقيا، حيث حرر الشكل البشري من حالة الإنسان ليوحد مع أشكال الآلهة، لتوضيح مظهر الإنسان بمسحة إلهية .
وفي مجمل العلاقات الذهنية الكامنة في عملية التحليل والتركيب للعمل الفني التشكيلي كمنهج نقدي، يتصف أسلوب التمثيل بالتجريد القائم على نشاط الذهنية في التبسيط والاختزال، بوجود مضاف تبته فيها الذات الفردية للفنان التي تتأمل وتعقل وتبتكر، فنحن هنا أمام صور رمزية، وليس محاكات أيقونية لشكل المرأة في طبيعيتها . فالتجريد يطال كل التفاصيل الجزئية، ولا يغدو تمثيلاً حقاً في بنائية مثل هذه الأشكال الرمزية، إلا بعد أن يلغي من الحدس العيني كل ما يؤلف خصوصية الموضوع الفردية بعد تبسيطه واختزاله إياه . فقد كان حراً في تطويع المظهر الخارجي للشكل البشري، إمعاناً منه في التعبير عموماً هو أكثر صدقاً وثباتاً وبشكل يدعو إلى التحرر من القيود المظهرية السطحية، سعياً منه لتحقيق وجود حقيقي وجوهري . ويظهر ذلك في السمات الفنية المميزة للبورتريت (الوجه)، في اختزال شكل الحاجبين إلى نسق خطي بسيط، وتمثيل شكل العينين بهيئة حبتي القمح، وتجريد شكل الأنف إلى مجرد بقعة لونية، وقد زين بحلية تعرف بالخزامة، ومازالت مستخدمة في العراق حتى الآن . إنه السعي المعرفي الجمالي لتجميل النفس بأنفس أحجار الأرض . وفي مجمل بنائية الشكل التجريدية الرمزية، يبدو أن تشبيه الصورة الظاهرة المدركة بصرياً، لم يكن الجوهري في نشاط الفنان الإبداعي، بل عمد عوضاً عنه إلى تركيب مجمل للعلاقات الفكرية والتشكيلية، لصياغة رموز تتسم باستذكارات أو استدلالات عن الشيء المدرك حسياً . فآلية عمل ذهن الفنان كانت تعمد إلى انتزاع هيئة الشكل استناداً لواقعها الخاص بالذهن، وكما آلت إليه في خزينه الذهني لحظة الرؤية الأولى . هذه الآلية قد رجعت إلى تصورات الذهن على حساب الأحاسيس الآتية من العالم الخارجي . لقد كان الفنان يجد مجموعة أفكارهِ في الواقع الخارجي، لكن فلسفة التعبير هي ما يؤلف جوهر عمله ومآثرته . فالوعي والقصدية والإرادة في عمل الصورة الذهنية، كانت تنطلق مما هو داخلي واجتماعي وروحي، في حين تراجع ما هو طبيعي أو مادي إلى مرتبه ثانوية .
وتظهر حيوية الصورة الذهنية الإبداعية للفنان، في تأشير علامات الوشم على الخدين، كمظهر جمالي ومعتقد اجتماعي لنيل حسن الطالع بكل تفاصيله، وتمثيل مظاهر الحجاب الفلاحي الذي يغطي الرأس والفم، حياءاً من رجال القبيلة . وقد أفرز نظام الحجاب خصلاً من الشعر أطرت جانبي الوجه، وبدت بشكل نسق من الخطوط العمودية المتموجة (شكل 1) . ترى كم هي أصيلة حضارة أرض وادي الرافدين، حين يردد الفكر مثل هذه الأشكال رغم سعة الهوة الزمنية الفاصلة (شكل 3) ؟ إن جميع ما يتصل بالعمل الفني من تقاليد وأعراف اجتماعية، ما أن تستقر وتختبر وتصل من جيل لآخر، حتى تصبح لها طبيعة مترسخة، ويبقى الناس متشبثين بها ويغلبهم إزاءها التوقير والاحترام . فمثل الفردية الجماعية كمثل فردية الشخص، الذي يصدر عنه العمل الفني، حيث تترك طابعها الذي لا يزول على الفن الذي تبدعه . إن لمثل هذه الأشكال الرمزية تدليلات حضارية ودلالات جماعية .
وتتضح خصوصية الإبداع في تركيبة هذا الشعار الرافديني الخالد، بالمزاوجة بين الواقع الذي يجده الفكر في مجمل العلاقات المدركة المحيطة به، ونشاط الذهن في إحالتها إلى رموز روحية اجتماعية، بتقصي الجوهري والشمولي في بنائية الشكل، وتجريد ما هو وقتي وزائل من التفاصيل الشكلية . وهنا يمكن أن نصل إلى نوع من الرمزية الواعية، في توظيف مظاهر الأشياء باتجاه مطامح حركة الفكر الاجتماعي . وهذه التجريبية بحد ذاتها لا تشكل محض نسخ عن الطبيعة، وفي ذلك تكمن القدرة الواعية على الرقي على جميع الصور الفردية وشتى أنواع التفاصيل . فهي تشبه نفسها بالقصدية الطبيعية، لكنها خارج حضورها الواقعي، وبفعل ذلك تتجلى الهيئة البشرية، ليس في كونها شكلاً طبيعياً، وإنما في كونها تمثيلاً للروح وتعبيره .
لقد ارتدت عروس العراق حجاباً للرأس وثوباً فلاحياً زين بمفردةِ تجريدية رمزية لها قيمة فكرية هامة في الفكر الحضاري لهذه الفترة . فشكل المثلث الذي نظم بأنساق تزينية للزي، يرتبط في مدلوله أو شفرته السيميائية بفكرة زيادة تناسل الجنس البشري، تلك القوة الآلية المهمة في إدامة فعاليات الزراعة في بداية اختراعها من قبل العراقيين الأوائل ولأول مرة في التاريخ . وإزاء مثل هذه الحقيقة التي تربط الإبداع بفكر الجماعة، كان على الفنان أن يحمل مكنونات المجتمع بوعيه وإدراكه . فالفنان في تجربته الإبداعية، مرتبط بالجماعة ومتشبعٌ بروحها . لقد كانت شخصية المبدع والرائي الكبير، تتبادل التأثر والتأثير بطريقة ديناميكية إزاء المحركات الأساسية في بنية الفكر . وهكذا تتميز العلاقات بين الأشياء والأفكار بطابعها المباشر، فهي مقارنة تشبيه وتداع بالنسبة لأفكار الجماعة، وهي المفردات التي تشكل الجزء الخاص من الفكر بخصوصيتها الطبيعية، والتي تشير أو تدلل على مغزى عام أو إيحاءات كلية تكمن خلفها، في بنيتها السوسيولوجية في الفكر الاجتماعي .
ويبدو من نظم العلاقات الفكرية، كما أفصحت عنها البقايا المادية القبتاريخية، إن لموناليزا العراق ماهيات طقوسية وشعائرية كانت تقام في مناسبات احتفالية وبالأخص احتفالات الربيع حيث يُملأ جوفها بسوائل خاصة، وبعد أن تَتَخَصب في وعاء الفكر، ترتشف بجرعات منتظمة من قبل النسوة، لتؤدي فعلها في تحقيق حسن الطالع، بنيل الولادات المتزايدة والمستمرة وإحلال الخصب في الطبيعة . فهذه الأشكال بحد ذاتها كانت وسائل للالتحام بالخلود، والعقيدة القبل تاريخية، تتحدث عن إشكالات قد لا تكون موجودة دون كشف الصورة المبهمة للعالم غير المنظور، فقد كان هدف هذا الفن ليس التقليد، بل كشف النظم الفكرية التي تساعد الإنسان على الدخول في صلات وثيقة وحميمية مع آلهته . فتبرز خصوصية الإبداع كتركيب واعي يسيطر فيه الفنان على إعادة ترتيب العناصر الفكرية والمادية والجمالية . وفقاً لفكرة كان الذهن قد خبرها في تجربته الاجتماعية . فهي تعود إلى عالم لم يكن قائماً على الأرض، ولا يمكن أن يكون لولا وجود فنانين مبدعين، لاكتشاف هذه الصورة المبهمة للعالم غير المنظور، وقد كانت هذه الحرية الخلاقة التي توجه كل الفن الرافديني، أشبه بحجر المغناطيس غير المنظور .
ويؤسس الفكر المعاصر للشكل في نظامه البنائي التجريدي الرمزي، عدة افتراضات تشكل بنية العناصر الجمالية المتفاعلة لشعار العراق الخالد – موضوع الدراسة – وفق لرؤية تنطلق من الكلي إلى الجزئي، أهمها الوعي الكبير المستند إلى تراكم المعرفة التجريبية، في اختيار نوعية الخامات، وخصوصية التقنيات المستخدمة لجعلها أكثر مطاوعة للتشكيل، والإحساس الذاتي الجمالي للفنان في أساليب التشكيل، وموسيقية التصوير في تنظيم التكوين وبنائه الداخلي، والقصدية في إخراج المظهر الجمالي للعمل الفني . وأهم من ذلك قوة التنظيم الشكلي، والحب الشديد للحقيقة، وتدفق الحياة الداخلية . فالفكر يبحث هنا عن وعاءٍ تستقر وتحتل به قدسية الفكر المضمونية . ذلك إن بنية التكوين، مزيج من عناصر بنائية وجمالية ووظيفية، وقد انصهرت في بودقة واحدة، وبنوع من التجريب لا يفصل الحس الجمالي عن الصناعة أو الخبرة بشكل عام .
وإذا كانت موناليزا العراق، تدلل بنسيجها الفكري وسماتها الفنية المميزة، على أصالة هوية الحضارة الرافدينية، بدليل تواصلها في خصوصية الفكر العراقي حتى هذه اللحظة . وذلك بفعل نوعية الممارسة والأفكار المرتبطة بها، ونظم الأزياء وحلي الزينة التي تميز نظامها الشكلي . فإن مكانتها الهامة في تاريخ الفن، تتمثل في كونها بمثابة لحن خالد، ودعوة إلى التجدد والبقاء، باعتبارها قيمة رمزية ترتبط بالإنسانية وبالفكر الاجتماعي الحضاري العالمي في جميع إرهاصاته وإشكالاته . ولعل ذلك ما يجعلها تعمل وبفعالية خارج إطار تاريخيتها، محتفظة بمكانة أسمى من مكانة موناليزا دافنشي، والتي لم يكن لها من قيمة سوى كونها حالة فردية في التشخيص، وإسقاطات سايكولوجية دافنشية في فلسفتها الكامنة خلف شفافية الشكل المرئي.
أ. د. زهير صاحب