يعد الفيلم الوثائقي أحد أهم أنواع الأفلام التي لها مساس مع جوانب عديدة من حياة الإنسان وواقعه المعاش، لأن فلسفة الفيلم الوثائقي تعتمد أساسا على الواقع واستنطاق حقائقه، أي عملية كشف الواقع للوصول إلى أعماقه غير المرئية بشكل مباشر، من خلال معالجة العديد من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية.فعملية إبراز المسببات الحقيقية للمشاكل، وطبيعة الأماكن الحقيقية التي اشتملت على الأفعال الواقعية، بكل ما تحمله من بساطة وتعقيد، سواء من خلال النقل المباشر لها، أو إعادة تمثيل الحدث، أي بناء الوثيقة بظروفها الموضوعية القياسية، كل هذه سمات اساسية في بنية أي فيلم وثائقي.
بعد ان خاض العراق حروباً عدة، ابتدأت بالحرب العراقية الايرانية، ومن ثم حرب الخليج الثانية العام1991،وصولا الى حرب احتلال العراق التي انتهت بسقوط النظام وانهيار الدولة العراقية بكل مؤسساتها العسكرية والامنية والاقتصادية، توفرت للسينمائيين العراقيين وغير العراقيين مادة وثائقية غزيرة، كان احد أعمدتها ماصور ابان هذه الحروب، من قبل الأطراف المتحاربة، كذلك من قبل العديد من المراسلين الحربيين الذين رافقوا القوات العسكرية المتصارعة في ساحات القتال.
افلام وثائقية عديدة انتجت عن هذه الحروب معتمدة على المصادر والأشرطة الوثائقية التي صورت، هذه الوثائق وظفت ضمن بنية النص الفيلمي، تبعا لأهداف ورغبات الجهات المنتجة لهذه الأفلام، لذا جاءت متباينة في طروحاتها من خلال انحيازها لهذا الطرف أو ذاك.
في عودة إلى وثائقيات الحرب العراقية الإيرانية، نلاحظ مدى العنف والإرهاب والترهيب الذي مورس من خلال أفلام وثائقية، ضمن برنامج "صور من المعركة" يبث يوميا في الفترة الذهبية للبث المسائي لكي يشاهده أكبر عدد من الناس، أفلام تحتوي على جثث الجنود القتلى وقد تفسخت وتعفنت،هذا الأمر لا يقتصر على طرف دون آخر فكلا الطرفين كان يبث هذه الأفلام، معتقدين أنها يمكن أن تسهم في شحذ همم المقاتلين، وكان لهذه الأفلام انعكاساتها النفسية على شرائح المجتمع، الذي ربما تحول من مجتمع مسالم إلى مجتمع شبه عنيف بسبب ذلك.
هذه الحرب، وبسبب طولها حيث امتدت لفترة ثماني سنوات متواصلة، ربما لم تلق فيما بعد اهتماما توثيقيا حتى انها سميت من قبل بعض المتابعين بالحرب المنسية.
الوثائق السينمائية لأحداث هذه الحرب، وظفت في العديد من الأفلام الروائية، سواء العراقية أو الإيرانية، مثل الفيلم العراقي الحدود الملتهبة لصاحب حداد، والمنفذون لعبد الهادي الراوي، كذلك الفيلم الإيراني"مرز" للمخرج جمشيد حيدري.
حرب العام 1990 ربما اختلفت في الكثير من مفاصلها عن الحرب الاولى، بسبب المفاجأة التي صدمت العالم، باحتلال وغزو بلد عربي من بلد عربي آخر، هذه الحرب وثقت ربما بكل تفاصيلها بدءا من عقد اجتماعات القمة العربية، والوساطات التي حاولت إقناع رأس النظام العراقي السابق صدام حسين بالانسحاب من الكويت وتجنب تعرض بلده إلى حرب تتسبب بدمار كبير لبنيته التحتية والفوقية كذلك، ومن ثم وثق لوصول الجيوش العديدة لدول التحالف، ومازالت مشاهـد وصــــول السفن الحربية وناقلات الطائرات ماثلة في ذهن المشاهد من خلال الكم الهائل من الأفلـام الوثــائقية التــي كــانــت تستــخدم ضمن الضغط النفسي على نظـام بغـداد آنذاك.
التصوير المباشر لكل مايجري على الأرض من قبل الأقمار الصناعية، وكذلك الصور التي تلتقطها الطائرات وتسجيلها لضرب الأهداف العسكرية العراقية، ارتال الآليات وحشود الجنود، كانت الأكثر تأثيرا في الشارع العربي والعراقي، بل وحتى العالمي، ومازال مشهد طريق صفوان - الكويت ماثلا في أذهان الناس، حيث مئات الآليات العسكرية والسيارات وجثث الجنود ملقاة على جانبي الطريق وهي تحترق، لم يقتصر الأمر في تصوير كل ماجرى وثائقيا على ساحات القتال وتصوير ما يجري فيها، بل صورت الأهداف المدنية العراقية التي ضربتها طائرات قوات التحالف بشكل كبير، ومازال المشهد الوثائقي المثير والمتمثل بلحظة قصف الطائرات العسكرية للضفة الغربية من نهر دجلة في بغداد حيث مقر الحكومة وبنايتها المهمة يتصدر العديد من البرامج السياسية، والافلام الوثائقية التي تتحدث عن هذه الحرب، كذلك صور العراقيون اللحظات الأولـــى لدخـول القوات العسكرية العراقية إلى مدينة الكويت والخراب الذي طالهـا، وصور الرئيــس الســابق صدام حسين وهو يزور قطعاتها، فـي محاولة لرفع الروح لمعنوية للمقاتلين العراقيين.
حــرب تـحريــر العراق حسب ما أطلق عليها، هي ثالث حروب العراق، والتي ابتدأت في العشرين من آذار العام 2003، لم تختلف الأفلام والأشرطة الوثائقية التي وثقتها بشيء عن سابقتها، من حيث استعراض القوة العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها، وفي الجانب العراقي كان التوثيق فقيرا جدا ربما بسبب ظروف هذه المعركة وانعكاساتها على الجميع. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة مهمة مع الاستشهاد بحادث مماثل، في العام 1945 وبعد سقوط الفاشية في ايطاليا نزل السينمائيون الإيطاليون إلى الشوارع ليصوروا كل الذي يجري من عمليات قتل للفاشيين وتعليقهم في الشوارع، وكذلك إعدام موسوليني، وعمليات النهب والتخريب والفوضى التي جرت، هذه الأشرطة الوثائقية، صنع السينمائيون الإيطاليون منها فيما بعد أفلاما وثائقية عديدة، ووظفت كذلك في العديد من الأفلام الروائية، خاصة بعد ظهور الواقعية والواقعية الجديدة التي اعتمدت بشكل كبير على هذه الأشرطة الوثائقية .
الذي حدث في العراق ان السينمائيين العراقيين لم ينجحوا في توثيق كل الذي جرى، ومعظم الذي صور مشاهد بسيطة لعمليات نهب بعض المؤسسات الحكومية، في حين ان دخول الدبابات إلى بغداد والقصف، وحركة الجنود في الشوارع، وترحيب بعض الناس بهم، ومهاجمتهم من قبل البعض الآخر، كان بالإمكان توثيقها كلها، حتى يمكن الإفادة منها مستقبلا في عمل أفلام وثائقية تعتمد على الوثيقة الفيلمية أو في أفلام روائية توظف هذه الوثيقة. لكن يبدو ان الخوف والقمع الذي كان يتعرض له هؤلاء السينمائيون كان يشكل حاجزا نفسيا كبيرا، وخشية من التعرض للاعتقال حتى بعد دخول القوات الأميركية، فالاطمئنان لا يأتي بلحظة واحدة، فكل من يحمل كاميرا فوتوغرافية أو سينمائية كان يتعرض للاعتقال وربما إلى القتل.
الأشرطة الوثائقية التي صورها المراسلون الحربيون وبعض الإعلاميين كانت هي المادة الأساس لعمل العديد من الأفلام الوثائقية لاحقا، وجرت وفق أسلوب البناء المونتاجي المتمثل بالحصول على أكبر عدد ممكن من الأشرطة الوثائقية، والتعامل معها مونتاجيا بإضافة بعض اللقاءات من الشهود على بعض الحوادث وكذلك بعض الضحايا.أو بطريقة إعادة بناء الحدث، واستخدام بعض الممثلين.
فيلم القرار الأخير للمخرج أنور الحمداني أفاد كثيرا من هذه الأشرطة الوثائقية، حيث وظفها بأسلوبي إعادة بناء الحدث والبناء المونتاجي، الفيلم يتحدث عن ليلة ضرب مزرعة الرئيس صدام حسين قبل البدء بإعلان ساعة الصفر، لكن الرئيس كان قد غادر المزرعة قبل ذلك بقليل، التحضيرات التي أعدت لهذه الضربة، والتي كانت تتابع من قبل كل رجالات الحرب والسياسة في واشنطن، وظهروا في الفيلم من خلال ممثلين غير محترفين، التعليق كان هو محور إدارة أحداث الفيلم، هذا الحوار اعتمد على الوثائق الخطية التي وثقت لاجتماعات القيادات الحربية والسياسية .
العديد من الأفلام الوثائقية التي اتخذت من موضوعة احتلال العراق مادة لها اعتمدت على الوثائق الفيلمية المصورة من قبل كل الجهات، وربما يكون مشهد اعتقال الرئيس صدام حسين في محافظة صلاح الدين يعد أهم المشاهد الوثائقية وتبعه بعد ذلك التصوير الكامل لمحاكمته مع أعضاء حكومته، حتى لحظة النطق بحكم الإعدام بحق، ومن ثم التسجيل المثير لتنفيذ الإعدام بحقه، وما أثاره من جدل كبير ما زال قائم إلى الآن .
فيلم مهم انتجته شبكة الجزيرة الوثائقية بعنوان" محور الشعب" للمخرج عبد الله البني، يحاول بالوثائق والإحصائيات الوصول الى حقيقة وأسباب قيام الحرب، وهل تستحق الثمن الذي دفعه الشعبان العراقي والأميركي، حيث قتل في هذه الحرب 600000 مواطن عراقي و4000 جندي اميركي، وبجرأة عالية يطرح الفيلم آراء أهالي الضحايا الأميركان في قيمة الحرب وهدفها، وهل جاءت فعلا كرد على اعتداءات الحادي عشر من أيلول، وماعلاقة العراق بها.
كذلك يظهر الفيلم جهود ناشطي السلام لمنع قيام الحرب ومن ثمة جهودهم لإيقافها.
اذن أفلام وثائقية عديدة أنتجت عن حروب العراق الثلاث التي خاضها منذ العام 1980 وحتى العام 2003، ومازال العراق يعاني من وضع مرتبك وحوادث عنف، ربما تشكل مادة للعديد من الأفلام والبرامج الوثائقية مستقبلا.