من الأفكار الحديثة في تحليل وفهم النص، تلك الأفكار "اللسانية" التي تنطلق من فهم وتحليل الأساليب. ولعل أوضح الافكار، تلك التي يلمها الرأي القائل، وأظنه لشيرماخ، أن الجملة تنتمي إلى سياق عمل الكاتب الكلي، وعمل الكاتب ينتمي إلى مجمل النوع الأدبي، أو إلى الأدب. وان النص نفسه، بوصفه تجليا للحظة إبداعية، ينتمي في الوقت نفسه إلى حياة المؤلف الباطنية ككل. ولايحدث هذا الفهم التام إلا ضمن هذا الكل الموضوعي والذاتي. هذا أولاً.
ثانيا: معروف اننا نفسر الجملة قبل أن نحاول فهم المعنى اللغوي لأجزائها. عملية التفسير هذه محكومة بتوقّع. فإذا حصل مؤول آخر سيحصل توقع آخر. المؤول يكيف النص إلى التوقع "الجديد" وتكييف النص على يد ثالث يعني توقعاً ثالثا...عاشراً الخ. النص دائماً يوحد معناه لتوقع آخر. هنا مزية ومجد الكتابة الجيدة أو النص الجيد (أو الخالد). انها في قدرته على توحيد أجزائه أو معانيه لتعطي توقعات مختلفة في الزمان الواحد وأيضاً في الأزمنة المختلفة.
بجمع أولا وثانيا، نكون قد اعتمدنا الجملة أساساً وسياق النص معياراً. فمعيار الفهم الصحيح بحسب هذا الرأي هو تناغم جميع الأجزاء مع الكل، فاذا ما أخفق هذا التناغم، فذلك يعني ان الفهم قد أخفق.
وما دمنا بدأنا بالجملة، وفهم المعنى من خلال فهم أجزائها، إذاً لابد من مهارة "خاصة"، مقدرة خاصة، لاختيار الأجزاء المكونة وصياغتها جملةً تمنح معنى معيناً متميزاً. أي صناعة جُمَلٍ تولد توقعات. معنى هذا في الدرس الأدبي ان الجملة الركيكة تؤدي من بعد إلى سياقات ضعيفة لا تقدر أن تعطي معنى كبيراً. اختيار المفردة يعني اختيار مُدَّخر "دلالي" يزيد في القراءات المختلفة توقعات مختلفة. ومن مجموع التكوين اللغوي نستطيع أن ندخل إلى منظور المؤلف. فاذا كان التكوين اللغوي قاصراً فلن نمتلك منظورا مهما، وإذا ما امتلكناه اعتمادا على مكونات مفترضة أُخرى، فلن يكون واضحاً.
بهذا يصبح من العيب الدعوة لإيقاف الاهتمام بكاتب، والاهتمام بآخر. فالمسألة المهمة هي ليست الاهتمام بذوات. هذا مستوى يومي عابر وفيه يكون الاستنتاج مصطنعا ونكون بعد هذا وذاك أمام ضآلة القيمة لا رفعة الروح العلمي وحقيقة الأدب. فبدلا من إعطاء كل اهتمامنا للسياق الأقدر على صنع توقعات والأسباب الكامنة وراء هذا السياق، نسحب الموضوع إلى جانب شخصي لا علاقة له بالأدب نصا ولا علاقة له بالعمل كشفاً لحقيقة، وأظن الشواهد كثيرة في أيامنا على مثل ذلك الاهتمام القسري. الذي وصفناه. فالمسألة موضوع الاهتمام العلمي، هي مسألة توليد المعنى من أجزاء المكون اللغوي. وهذه مسألة لا تخضع إلى زمن أو إلى تصنيف تاريخي. هي فوق الأزمنة وتقلب الأذواق ما دمنا نريد علماً. ففي الوقت الذي ما تزال فيه عشرات الدراسات تظهر عن شكسبير وما تزال الدراسات الجديدة عن الالياذة وما يزال امرؤ القيس شاهدا وما نزال نذكر المتنبي والجاحظ وأبا العلاء المعري، نسمع بعض الشباب يريد غض النظر عن المبدعين على مبعدة عقد أو عقدين منهم. هذا لا يعني هما أدبيا علميا قدر ما يعني حاجة شخصية. قد تكون حاجة مشروعة ولكن منطقها غير علمي للأسف.
الفهم، فهم النص، لاتقرره عواطف شخصية للعناية والاهتمام. هذا مستوى صحفي يومي. الفهم تقاسم للمعنى، المعنى المشترك. أما افتراض مضمون أو فهم على غير الأسس العلمية، فلن يعطي ما هو مهم علمياً.
وإذ نؤاخذ رأياً على أمر في نص ونرى غيره مختلفاً أو متميزاً، فذلك طبيعي جداً. كل نص مكتوب هو موضوع تبادلي لتأويله. أفق الفهم لا يحدده ما كان في ذهن كاتبه ولا أفق الفرد الذي وُجِّه النص أصلاً اليه. ما يحدد الفهم، واسمحوا لي بإعلان هذا الذي تخشونه قليلاً، اقول ما يحدد الفهم هو اللغة. لغة الكاتب وطاقتها التي توصف بالتعبيرية. والمقصود هنا طاقة خلق المعاني وكشف مغلقاتها المتعاقبة مما يوسع من دلالاتها وإيحاءاتها. فأفق الفهم له صلة أساسية باللغة، كما ان قسماً كبيراً من مكونات الأفكار تجيء ومضات من خزين اللغة الذي لاينفد.
لسنا إذن بازاء معجم ولكنا أمام رأسمال ضخم من ممتلكات العصور!
ياسين طه حافظ