في بغداد.. ايام زمان كانت مجالس الادب والثقافة ترتبط بمكتباتها العامرة بكنوز الثقافة والفكر خاصة مكتباتها الاهلية التي تشكل ملاذاً لعشاق الكلمة خاصة في سوق السراي التي اخذت امتداداتها الى شارع المتنبي الذي كان عامراً بالمطابع الاهلية، اضافة الى مخازن الكتب المستوردة من كل بقاع العالم وتناثر بعض المكتبات الاهلية التي انتشرت شيئا فشيئا من سوق السراي لتشمل بدايات من نهر دجلة حتى شارع الرشيد.
وفي جولة حرة قمنا بها في سوق السراي وشارع المتنبي لتسجل ما بقى من ذكريات وشجون تلك المكتبات التي كانت لنا معها ذكريات من رحيق الزمن الماضي، ومن تلك المكتبات "مكتبة دار البيان" والتي افتتحها وانشأها الشيخ علي الخاقاني في العام 1963م في شارع المتنبي، وكانت قبلة للادباء والدارسين والصحفيين والعلماء الذين ينهلون منها كنوز الثقافة ومختلف العلوم.
وعن اسلوب عمل تلك المكتبة حدثنا نجل الخاقاني "بديع" بقوله:
ـ لقد اسس والدي هذه المكتبة وكانت اول من عمل "الخصم" والتخفيض في الاسعار لمختلف الكتب والعناوين وخاصة لطلبة الجامعات والمدارس، وكانت ايضا تقدم المساعدة لمن يرغب بشراء الكتب بأسعار مخفضة وخاصة لذوي الدخل المحدود، حيث تباع لهم الكتب بالتقسيط دعماً لمن يستزيد من الثقافة والعلوم والمعارف وليس الربح المادي هو كل شيء، وكان الناس آنذاك يتسمون بالبساطة.
ويضيف بديع:
ـ لقد قام الوالد بتأسيس دار الكتب آنذاك، وهي اشبه بالدار الوطنية، وذلك بالتعاون مع بعض دور النشر منها التعاون مع عبدالرحمن حياوي صاحب "مكتبة النهضة" و"مكتبة الاهلية" و"مكتبة التربية" وصاحبها شمس الدين الحيدري و"المكتبة العصرية" وصاحبها محمود حلمي، بعد ذلك كان التعاون مع صادق القاموسي وشركة العروبة وكانت بحق مكتبة وداراً كبيرة للكتب والعناوين القيمة، حيث تضم تلك الكتب والمصادر التي لن تتكرر في هذا الزمن ..
ويوضح "لا شك أن مكتبة حسين الفلفلي رحمه الله الذي كنا نسلم عليه كلما مررنا في سوق السراي وهي تكاد تكون شبه يومية، وكان الفلفلي صاحب مكتبة الزوراء التي اسسها في العام 1920م وعمل فيها حتى وفاته والتي يعمل فيها نجله "أكرم" حيث يقول: لقد كان الوالد يستورد الكتب في تلك الحقبة من مصر أثناء العهد الملكي وكان يسافر من أجل التجارة والترفيه عن النفس، وكانت معظم سفراته مع صديقه أستاذ اللغة العربية الدكتور مهدي محبوبة ويرافقهم الدكتور علي الوردي والدكتور جواد علي صاحب الكتاب المشهور "المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام"، وقد كان يجلس كثيرا في مكتبتنا ويقرأ كل كتاب يصادفه ويقع اختياره عليه.
ويضيف أكرم: ومن الشخصيات التي كانت تمر دوما على مكتبتنا رئيس الوزراء العراقي، آنذاك، "نوري السعيد" حيث طلب والدي منه المساعدة في نصب هاتف للمحل وفعلا تم نصب الهاتف في العام 1949م حيث استفاد الوالد منه في عمله واتصالاته من أجل توفير نفائس الكتب والمصادر الكثيرة.
وعن اهم المكتبات التي امتازت بها تلك الفقرة يقول أكرم:
ـ إن مكتبات بغداد كانت عامرة جداً واذكر منها "مكتبة سيد باقر مكتبة الحيدري ومكتبة ابراهيم الاعظمي ومكتبة احمد كاظمية ومكتبة ابراهيم السدايري نسبة لارتدائه السدارة بشكل مستمر ومكتبة المثنى لصاحبها هاشم الرجب ومكتبة عواد والمكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي والمكتبة الاهلية ومكتبة التربية ومكتبة دار البيان ومكتبة نعمان الاعظمي التي انشئت في الثلاثينات ومكتبة الاندلس ومكتبة المعارف.
وعن شارع المتنبي يقول اكرم:
ـ اما شارع المتنبي فقد شهد كساداً وفتوراً لفترة من الزمن وقد كانت تجارة الكتب مزدهرة جداً، أما اليوم فهي لم تعد كما في السابق مع الأسف الشديد، وإن كثير من المثقفين العراقيين قد هاجروا وقراء الكتب ليسوا كما في السابق لانه وسائل التكنولوجيا اليوم قد ابعدتهم كثيرا عن الكتب والكتاب كان في السابق فعلا خير جليس!!
اما مكتبة النور لصاحبها نعيم الشطري وهي تقع في شارع المتنبي فيقول عنها:
ـ انشئت هذه المكتبة في العام 1958 م في مدينة الشطرة ومن ثم اقفلها الوالد وتوجه الى بغداد وتعرف هناك على احد باعة الكتب القديمة وهي الكتب التي لم تلقِ رواجا عند صاحبها وبقت في المخازن التابعة لدور النشر اللبنانية، فأخذ بجمعها بكميات كبيرة وتم بيعها بالشراكة مع صديقه، وكانت قيمة الكتب في حينها تبلغ 150 فلسا للكتاب الواحد ومن ثم بدا بتصديرها الى محافظة البصرة والى محافظات اخرى.
ويضيف الشطري:
ـ استمر والدي على هذا النمط في البيع وحقق ربحاً جيداً لعدة سنوات، ثم بدأ باستيراد كميات من الكتب الحديثة الى العراق وبدأت فكرة فتح مكتبة من خلال بناء عمارة حديثة عام 1970م واستأجر والدي فيها محلين واستمر بالعمل فيها، وانا اليوم ادير العمل فيها بعد ان تغيرت الاوضاع العامة في العراق، واعتقد الفترة التي ازدهر عملنا فيها هي فترة الحكم الملكي وفترة حكم الرئيس عبدالرحمن عارف رحمه الله ..
اما مكتبة التربية التي كان اسمها في السابق مكتبة الاندلس فيقول صاحبها ابو محمد:
ـ تأسست هذه المكتبة في العام 1964 في مدنية النجف الاشرف ثم انتقلت الى بغداد العام 1968 وكان صاحبها المرحوم عبدالحسن الرفضي وقد بدا بالعمل على بيع وشراء كتب التربية والكتب التراثية والثقافية والتاريخية الرائجة في يومنا هذا، وان الكتب كانت ولاتزال الوسيلة الوحيدة لغذاء الفكر الانساني ..
ثم انتقلنا الى مكتبة قديمة خارج شارع المتنبي وهي مكتبة الصباح في الاعظمية حيث يقول صاحبها الحلي سالم جاسم التي ورثها عن والده :
ـ لقد تاسست هذه المكتبة عام 1947م في منطقة باب المعظم قرب بناية الوقف العام وهي بالقرب من وزارة الصحة الحالية، واستمر والدي بالعمل فيها حتى نقلها الى منطقة الاعظمية عام 1956 وكما تلاحظون موقعها الآن.
ويضيف جاسم الى حديثه :
ـ وفي العام 1997 حولت ملكيتها من والدي لي شخصيا، وقد باشرت بيع الصحف والمجلات والقرطاسية والسكاكر اضافة الى الكتب، ثم تطورت الى بيع الكماليات وحصلت على وكالة من الشركة العامة للاجهزة الدقيقة لبيع مختلف انواع الاجهزة والكاميرات وغيرها، وقد اصدرت وزارة الاعلام انذاك قراراً بجعل المكتبة مقتصرة على بيع المطبوعات فقط وسبب انتقالنا من محلنا السابق الى الحالي هو بسبب الايجار وصدور قانون الايجار .
خالد النجار
جريدة الدستور