إن مبدأ استقلال القضاء نتيجة حتمية لتبني مبدأ الفصل بين السلطات بوصفه ضمانة أكيدة للحقوق و الحريات وسيادة القانون و تحقيق العدالة أمراً نظرياً ما لم يحصن بمجموعة من الضمانات التي من شأنها تطبيق المبدأ على أرض الواقع وتعمل على ديمومته واستقراره في التطبيق العملي ، فالخشية تبقى قائمة من تدخل السلطة التشريعية تارة أو من خلال تدخل السلطة التنفيذية تارة أخرى بأعمال القضاء و شؤونه واختصاصاته أو بأستقلال القاضي و التأثير في قراراته لحسم الدعاوى بأتجاه معين خارج الاتجاه الذي تتحقق فيه العدالة ويفض المنازعات أو يتمتع المتخاصمين بعدالة القضاء .
لذلك تسعى الدساتير عادة إلى تحصين مبدأ استقلال القضاء بأشكال مختلفة من الضمانات من أهمها ما يأتي:-
اولاً:- الرقابة الدستورية على دستورية القوانين .
تعد الرقابة الدستورية واحدة من اهم الضمانات التي تكون بيد السلطة القضائية التي تواجه بها باقي السلطات خصوصاً السلطة التشريعية ، فكما ان للسلطة التشريعية حق التدخل الإيجابي بشؤون تنظيم القضاء من خلال إصدار القوانين فإن الخشية قائمة بأن يكون مثل هذا التدخل انتقاصاً أو اعتداءً على استقلال القضاء ، لذا فإن الدساتير تعطي الإمكانية للقضاء بأن يقف ضد إجازة أو نفاذ مثل هذه التشريعات التي تخالف الدستور مادامت تخالف مبدأ استقلال القضاء و سواه من المبادئ الدستورية الأخرى .
وحسناً فعل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 حين أناط بالمحكمة الاتحادية العليا صلاحية الرقابة على دستورية القوانين و الأنظمة النافذة وذلك في م/93 الفقرة اولاً .
و مما تجدر الإشارة إليه أن الدساتير العراقية السابقة قد خلت من هذه الضمانة بالرغم من أن بعضها قد نصّ على مبدأ استقلال القضاء مما يدعو إلى القول ان المبدأ في الدساتير العراقية كان مجرد نظرية مثالية تحتويها النصوص فقط ورغم إن دستوري 1925 ودستور 1968 قد نص على وجود محكمة تراقب مدى دستورية القوانين بيد إن المحكمة الأولى لم تصدر أي قرار بشأن دستورية أحد القوانين أو الأنظمة أما المحكمة الثانية فلم تنعقد أصلا حتى تقرر أي قرار .
ثانياً:- الاستقلال الإداري للقضاء
يكون تنظيم الشؤون الإدارية للقضاء بعيداً عن تدخل السلطة التنفيذية واحدة من الضمانات المهمة التي تسهم في ترسيخ مبدأ استقلال القضاء وديمومته واستقراره في التطبيق ، فمسائل تعيين القضاة و عزلهم ونقلهم وترقيتهم و أحالتهم على التقاعد ومساءلتهم تأديبياً أو جنائياً أو مدنياً كل هذه المسائل يجب ان تنظمها السلطة القضائية نفسها وبعيداً عن تدخل السلطة التنفيذية .
و بهذا الصدد ان دستور جمهورية العراق لسنة 2005 قد أسس مجلس القضاء الأعلى و أناط به مهمة ادارة شؤون الهيآت القضائية و الاشراف على القضاء الاتحادي ، وذلك في المواد 90،91 من الدستور، أي انه فك كل ارتباط بين السلطة القضائية و وزارة العدل التي تعد احدى وزارات السلطة التنفيذية .
و عادة ما يطالب القضاة في العالم عند وجود المجلس الأعلى للقضاء أن تكون أغلبيته منتخبة من القضاة أنفسهم وعدم اقتصار تشكيله على عدد من الشخصيات القضائية بحكم مناصبهم الرسمية لأن ذلك يؤدي إلى تبعيتهم للحكومة بشكل يؤدي في معظم الأحيان إلى الاصطدام بمصالح القضاة أو غير معبر عن مطالبهم .
وحري بالإشارة إلى أن السلطة القضائية و القضاة كانا مرتبطين إداريا بوزارة العدل بموجب قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 المعدل النافذ .
ثالثاً:- الاستقلال المالي للقضاء .
ان تأسيس ميزانية مستقلة للقضاء تشكل إحدى الضمانات المهمة في تأكيد مبدأ استقلال القضاء ، فكلّما كان هناك استقلال مالي وميزانية خاصة بالقضاء كلما قلت الضغوط و التأثيرات في عمل السلطة القضائية من قبل السلطة التنفيذية .
وبهذا الصدد نجد دستور جمهورية العراق جعل للقضاء موازنة سنوية مستقلة يقوم باقتراحها مجلس القضاء الأعلى ويعرضها على مجلس النواب و ذلك في م/91 الفقرة 3.
رابعاً:- الاستقلال الوظيفي للقضاء
ومفاد هذه الضمانة أن يستقل القضاء باختصاصات معينة و حصرية لايمكن للسلطتين التشريعية و التنفيذية ان تتدخل بتلك الاختصاصات سواء بمباشرتها أو التعقيب على عمل السلطة القضائية بإصدار القوانين أو القرارات التي من شأنها إيقاف تنفيذ أحكام المحاكم أو التحقيق في تلك الأحكام .
وضمن هذا المفهوم فإن الاستقلال الوظيفي يوجب وحدة النظام القضائي وعدم إنشاء محاكم مؤقتة أو استثنائية أو خاصة، بل يجب ان يكون النظام القضائي موحداً ماسكاً بزمام السلطة القضائية بمفرده وذلك كونها تتمتع بالولاية العامة على الأشخاص و الأموال جميعاً ولها حقّ الفصل في المنازعات كافة .
واستقلال القاضي الوظيفي لايقل شأناً عن الاستقلال الوظيفي للقضاء ، لذا يجب ان يكون عمل القاضي منحصراً بالعمل القضائي فقط ،ولا يجوز له مزاولة أي عمل آخر بجانبه ، وبهذا الصدد فإن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 في م/98 منه منع القاضي وعضو الادعاء العام الجمع بين الوظيفة القضائية و الوظيفتين التشريعية و التنفيذية أو أي عمل آخر ، كما حظر عليه الانتماء إلى أي حزب أو منظمة سياسية أو العمل بأي نشاط سياسي .
منقول