التطور التاريخي لمبدأ استقلال القضاء
إنَّ الإحاطة بمبدأ استقلال القضاء يستوجب معرفة تطوره عبر مراحل زمنية متتالية كما يلي
اولاً:- الفقه الدستوري
إن مبدأ استقلال القضاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الفصل بين السلطات لأن مقتضى هذا المبدأ أن يقوم القضاء بوصفه سلطة تقف على قدم المساواة بجانب السلطتين التشريعية و التنفيذية ، وأنّ تكون مستقلة عنها كي تمارس اختصاصاتها بحماية حقوق الأفراد و حرياتهم بوصفها ضامناً على تلك الحقوق و الحريات. فكيف بدا مبدأ الفصل بين السلطات و تطورها عبر العصور المتلاحقة من خلال كتابات فقهاء القانون:-
دعوة أرسطو إلى التمييز بين وظائف ثلاث هي وظيفة المداولة أي هيآة التشريع ، وظيفة الأمر و تعادل الهيأة التنفيذية و وظيفة العدالة أي القضاء .
قيام الفيلسوف اليوناني أفلاطون بوضع الأسس لستة هيآت مستقلة في وظائفها واختصاصاتها بدل من تمركز السلطات بيد واحدة، وهذه الهيآت هي مجلس السيادة يمارس التنفيذ ، ومجلس الشيوخ يمارس التشريع والإدارة ، وجمعية كبار المشرعين والحكماء تراقب تطبيق الدستور وهيآة قضائية ، وهيآة البوليس وهيآة الجيش .
ظهرت بوادر مبدأ الفصل بين السلطات خلال القرنين السادس عشر و السابع عشر عندما بدأت المحاولات للحد من الاستبداد بالسلطة و ضرورة توزيعها على هيآت متعددة بحيث تختص كل هيئة بوظيفة محددة، نظراً لتركيز السلطات بيد فرد واحد.
كتابات الفقيه الانكليزي (جون لوك) الذي نادى بفصل السلطتين التشريعية و التنفيذية ، في حين جعل السلطة القضائية جزءاً من السلطة التشريعية لكون البرلمان الانكليزي كان يعهد إليه مهمة الفصل بالمنازعات .
نادى الفقيه الفرنسي ( جان جاك روسو ) بالفصل بين السلطتين التشريعية و التنفيذية بيد أنّه جعل السلطة القضائية جزءاّ من السلطة التنفيذية .
اما الفقيه الفرنسي ( مونتسيكو ) فقد أرسى في كتابه ( روح القوانين ) الصادر في عام 1748م دعائم استقلال القضاء من خلال تكريسه لنظرية الفصل بين السلطات المكرسة لضرورة وضع حدود معينة لكل من السلطات الثلاث ( التنفيذية و التشريعية و القضائية ) و استقلال كل سلطة في عملها عن السلطة الأخرى وعدم وضع كل السلطات في يد واحده لأن ذلك يؤدي إلى الظلم .
ثانياً:- القانون الدستوري
يعدّ مبدأ استقلال القضاء من المبادئ المستقرة في الدساتير ، حيث نص (34) دستوراً وطنياً على وجوب اجراء المحاكمة الجنائية أمام محكمة مستقلة و محايدة ، كما نص (104) دستور وطني آخر على وجوب استقلال القضاء و حياده بصورة عامة من دون الإشارة إلى المحاكمات الجنائية ، وفي بعض الدول التي تأخذ بنظام المحلفين و القضاء معاً نص على وجوب استقلال المحلفين و حيادهم أيضاً ، كما وردت نصوص (21) دستوراً عربياً على المبدأ نفسه و وجوب عدم خضوع القاضي الا للقانون { سيأتي اقتباس بعض النصوص العربية في الملاحق } أما الدساتير العراقية المتلاحقة فقد عرف بعضها مبدأ استقلال القضاء بشكل يفتقر إلى ضمانات تطبيقية في الواقع :-
القانون الأساسي العراقي لسنة (1925 ) نص في م/ 71 منه على: (( المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها )).
دستور 27/ تموز/1958 نصّ في م/23 منه على : (( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة وينظم القانون الجهاز القضائي )) .
دستور 29/نيسان/1964 نصّ في م/58 منه على (( الحكام و القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة وتنظم السلطة القضائية بقانون )) .
دستور 21/ايلول/1968 نصّ في م/79 على نص مطابق للدستور السابق له .
دستور 16/تموز/1970 نصّ في م/63 الفقرة ( أ ) منه على (( القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون )).
قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2003 في م/43 الفقرة( أ ) منه على : (( القضاء مستقل ، ولا يدار بأي شكل من الاشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل ، ويتمتع القضاء بالصلاحية التامة حصراً لتقرير براءة المتهم أو ادانته وفقاً للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية أو التنفيذية )) . و اهم ما يلاحظ ان هذا الدستور قد كفل الاستقلال الاداري للقضاء ، كما كفل الحصانة القضائية للقاضي أي اعتمد ركن استقلال القاضي الذي يعد ركناً أساساً من أركان مبدأ استقلال القضاء .
دستور جمهورية العراق لسنة2005 فقد نصّ في م/87 منه على: (( السلطة القضائية مستقلة و تتولاها المحاكم على اختلاف انواعها و درجاتها وتصدر احكامها وفقاً للقانون )) وهذا النص يكرس مبدأ استقلال القضاء ، كما نصّ في م/88 على (( القضاة مستقلون و لاسلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة )) و الدستور في هذه المادة يكرس استقلال القاضي ، كما يكرس مسألة ارتباط القضاء بمجلس القضاء الاعلى و ليس بوزارة العدل .
ثالثاً:- القانون الدولي
لقي مبدأ استقلال القضاء اهتماماً دولياً ملحوظاً نظراً لخطورة رسالة القضاء واهميتها في سبيل اعلاء كلمة القانون و حماية حقوق الإنسان ، وقد تجسد ذلك الاهتمام المتزايد بما حفلت به المواثيق الدولية العالمية و الإقليمية و المؤتمرات الدولية من نصوص و قرارات و توجهات تؤكد مبدأ استقلال القضاء ، ويمكن اجمال هذا الاهتمام الدولي بما يأتي :
الاعلان العالمي لحقوق الانسان المعتمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار 217 في 10/كانون الأول /1948 نصّ في م/10 منه على :- (( لكلّ إنسان الحقّ على قدم المساواة التامة مع الآخرين ، في ان تُنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه و التزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه )) . و تقرر المادة أعلاه أن نزاهة القضاء و استقلاله حقّ من حقوق الإنسان الأساسية أكثر من كونها امتيازاً للسلطة القضائية.
الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية و السياسية المعتمدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/كانون الأول/1966 التي بدأ نفاذها من 23/اذار/1976 حيث نصّ في م/14 الفقرة ( 1 ) على : (( أن جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء و لكلّ فرد الحق عند النظر في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه و التزاماته في أية دعوى مدنية تكون قضيته محل نظر منصف و علني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية ، منشأة بحكم القانون )) .
وعلى المستوى الإقليمي فقد نصت الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي أبرمت في روما 1950 و أصبحت نافذة في عام 1953 في م/6 الفقرة ( 1 ) على المبدأ نفسه، وكذلك الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي أصبحت نافذة عام 1978 فقد نصّت في م/8 الفقرة ( 1 ) على المبدأ ذاته.
كما ورد في مقررات الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في 26/اب الى 6 أيلول /1985 و إعلان بيروت للعدالة الصادر عن المؤتمر العربي الأول في بيروت عام1999 ، تأكيد مبدأ استقلال القضاء ( سوف نورد اهم فقرات هذه المؤتمرات في الملاحق ) . و كذلك المؤتمر العالمي لاستقلال العدل المعقود في مونتريال عام 1983 فقد رسخ المبدأ نفسه .
البيان العالمي لحقوق الانسان في الاسلام الصادر عن المجلس الإسلامي المنعقد في باريس في 17/أيلول/1981 الذي جاء في صياغته :- (( حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه تنصفه وتدفع عنه مالحقه من ضرر أو ظلم ، و على الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة و يوفر لها الضمانات الكفيلة بحياديتها و استقلالها )) . إنّ الاهتمام الدولي المتزايد بموضوع استقلال القضاء الذي لا يقف عند الامثلة التي أوردناها أعلاه يؤكد ابتعاد المطالبة بمبدأ استقلال القضاء عن نطاق دولة أو دول بعينها و إنما هي مطالبة عالمية واسعة تتزايد يوما بعد يوم لكونها ترتبط بضمان الحقوق والحريات وسيادة القانون واستقرار المجتمع إلى غير ذلك من المواضيع المتصلة بهذا المبدأ .
منقول