نظريات تفسير نشأة الخلية الاجتماعية الاولى - تايخ قانون
1-نظرية الأسرة الأبوية: يرى أنصار هذه النظرية ومنهم (روبرت لوي) أن أول تنظيم اجتماعي كان هو الأسرة المكونة من أبوين وأولادهما بوصفها أصغر وحدة اجتماعية فالأسرة الأبوية وفقا لهذه النظرية هي الخلية الاجتماعية الأولى، وبمرور الزمن وكثرة النسل، واقتناء الرقيق، اتسعت دائرة الأسرة فتحولت إلى عشيرة ثم إلى قبيلة، وباستقرار القبائل وتوحيد السلطة العليا فيما بينها تكونت الدولة .
واستند أنصار هذه النظرية على بعض ما جاء في التوراة عن العشائر اليهودية التي تناسلت من إسحاق، وما ذهب إليه بعض فلاسفة اليونان من أن العشيرة اليونانية هي أصل المجتمع اليوناني، وبأن الحيوانات الراقية تعيش في جماعات تتكون من الذكر وأنثاه وصغارهما، وأن الإنسان عندما يولد يحتاج إلى عناية من بني جنسه في كل شئ حتى يتكامل ويكون قادرا على العيش.
ولقد انتقد الباحثون هذه النظرية على أساس أنه من الخطأ اعتبار الأسرة الأبوية هي الخلية الاجتماعية الأولى، لأنه قد سبقتها الأسرة الأمية، حين كان الأطفال ينسبون إلى أمهم، والقول بأن الأسرة الأبوية سابقة يتعارض مع ما انتهت إليه دراسات الباحثين مثل ما كتبه ماك لينان في كتابه المشهور ( الزواج البدائي)، وتشبيه الإنسان بالحيوان لا بجدي في تأييد هذه النظرية، لأن الإنسان قد يقوم بأفعال يأنف منها الحيوان، فالنمور تربي صغارها بينما وجد من البشر من مارس عادة وأد البنات .
2 _ نظرية القبيلة: يذهب أنصار هذه النظرية وفي مقدمتهم الاسكتلندي ماك لينان Mc Lennan، والأمريكي مورجان Morgan إلى أن القبيلة كانت أول خلية اجتماعية وجدت عند الجماعات البدائية، وكانت عبارة عن مجموعة من الأفراد ضمتهم المصادفة أو الضرورة للتعاون في اتقاء الأخطار دون أن تجمعهم رابطة القرابة ودون الخضوع إلى ضابط في علاقاتهم الجنسية، فكانت المرأة مشاعا بينهم والولد ينسب إلى أمه، وقد اضطرتهم ظروف الحياة إلى التخلص من بعض الأفراد، فكانوا يئدون البنات بحجة أنهن غير قادرات على درء المخاطر والحصول على القوت. وترتب على ذلك ندرة عدد الإناث، وأصبحت الجماعة تتكون من مجموعة من الرجال يشتركون في امرأة واحدة، وظهر نظام تعدد الأزواج . وبعد ذلك ظهر نظام المشاركة الأخوية حيث يشترك عدد من الاخوة في زوجة واحدة، وينسب الأطفال إلى الأخ الأكبر، ثم ظهر أخيرا نظام الزواج الفردي حيث يستأثر الزوج بزوجته وكان ذلك إيذانا بظهور نظام الأسرة الأبوية التي حلت محل القبيلة في التنظيم الاجتماعي.
واستند أنصار هذه النظرية على بعض العادات الإباحية القديمة لدى بعض الشعوب والقبائل المتخلفة كزواج الأخ من أخته التي كانت سائدة عند الفرس والمصريين القدامى، ونظام تعدد الأزواج الموجود لدى بعض قبائل الإسكيمو والهند، والعلاقات الجنسية غير المقيدة قبل الزواج السائدة في بعض القبائل الأفريقية ، وكذلك ما يعرف بزواج التجربة ونظام الدعارة المقدسة الذي كان يمارسه اليهود عند المعابد، والبابليون في أبراج الزهرة .
ولقد واجهت هذه النظرية انتقادا شديدا من علماء الاجتماع باعتبار أنها تقوم على تصور غير حقيقي، فكل الحجج التي سيقت للتدليل على مرحلة الإباحية الجنسية لا تعدو أن تكون مجرد استنتاجات من عادات لاحقة عدت من أثار مرحلة سابقة، افترض وجودها دون أن يقوم دليل على وجودها حقيقة. كما أن هذه النظرية تحط من قدر الإنسان وتجعله اقل تقدما من بعض أصناف الحيوانات ، ومن جهة أخرى لو كانت الأسرة الأمية نشأت نتيجة الإباحية الجنسية لدى الجماعات البدائية لوجب أن توجد عند الجماعات التي مازالت في أدنى درجات التطور، غير أن المشاهد أن بعض القبائل المتأخرة التي تعيش على جمع القوت تسير على النظام الأبوي، فالنظرية في مجملها لا تنهض دليلا على وجود مرحلة سابقة من الإباحية الجنسية .
3- نظرية العشيرة الطوطمية: تقوم هذه النظرية على أن الخلية الاجتماعية الأولى قد تكونت من رابطة بين أفراد يعتقدون أنهم ينتسبون إلى طوطم واحد، وقد أطلق العلماء على هذه الخلية اسم العشيرة الطوطمية . ولا يرتبط أفراد هذه العشيرة برابطة القرابة كما هو شأن الأسرة الأبوية أو الأمية، ولا برابطة المصالح كما هو حال القبيلة، وإنما الاعتقاد الخرافي هو اصل الترابط، والطوطم عبارة عن حيوان أو نبات تعتقد الجماعة أنه جدها الأعلى الذي تناسلت منه، والعشيرة التي تتخذ الذئب طوطما ترى أن أفراد تلك العشيرة هم أبناء لذلك الطوطم يتخذون منه اسما لهم ويجعلونه موضع القداسة . والطوطمية نظام ديني لأنه يقوم على اعتقاد الجماعة بعبادة الطوطم باعتباره الجد الأعلى، وكذلك نظام اجتماعي لأنه يقوم على أساس التضامن فإذا وقع اعتداء على أحد أفراد العشيرة هبت جميعها لنجدته، وإذا وقع اعتداء من أحد أفراد القبيلة تتعرض جميعها للانتقام الواقع عليها من قبيلة المعتدى عليه.
ويستند أصحاب هذه النظرية على ما كشفت عنه البحوث الأثرية في الدول ذات المدنيات القديمة من أنها اتخذت كثيرا من الحيوانات والطيور آلهة باعتبارها الجد الأعلى، وكذلك بعض الجماعات القديمة السائدة حاليا مثل بعض القبائل الأسترالية، والهنود الحمر في أمريكا الشمالية.
وتعرضت نظرية العشيرة الطوطمية لنفس الانتقادات التي تعرضت لها النظريات السابقة .
الرد على هذه النظريات
من الملاحظ أن النظريات المتقدمة جميعها لم تسلم من الرد الأمر الذي يدفع إلى التشكيك في صحتها، ومن العجيب حقا أن كل فريق يسوق من سهام النقد ما يحاول أن يدحض به نظرية الفريق الآخر، دون أن يقيم دليلا دامغا على صحة نظريته. وليس أدل على البطلان مما يسوقه ماك لينان بزعمه أن الجماعات البشرية في العصر الحجري لم تكن تعرف الزراعة، ولا تربية الماشية، وكانت تعيش على قنص الحيوانات الوحشية، وتعتمد في قنصها على القوة البدنية والمهارة في القنص، ومن أجل ذلك كانت تعني بتربية الذكور وإعدادهم لهذه المهمة الخطيرة التي تتوقف عليها حياة الجماعة، ويرى أن الإنسان اضطر إلى قتل البنات ووأدهن ليتخلص من أفواه تأكل ولا نفع من ورائها. لأن النساء لم يكن قادرات على القنص والصيد، ولأنهن عاجزات عن اقتحام المخاطر للحصول على الغداء، وقد أدى ذلك إلى ندرة النساء وأضحت المجموعة البدائية تتكون من مجموعة من الرجال يشتركون في امرأة واحدة وهذا ما يسمى بحالة تعدد الأزواج.
وتأسيسا على ما تقدم يرى لينان أن عادة خطف البنات قد أدت إلى جهالة نسب الولد إلى أبيه لأن المختطفات من النساء كثيرا ما يتم إعادة خطفهن أو استرجاعهن وهن حوامل، ولهذا كان ينسب الولد إلى أمه ونتيجة ذلك نشأت ما يعرف بالأسرة الأمية .
ويستند بعض الكتاب على ما جاء في النصوص المحرفة في التوراة عن إبراهيم عليه السلام والزعم من أن سارة أخته لأبيه، وأن يعقوب عليه السلام قد تزوج من أختين، ومن ذلك ما جاء في العهد القديم من أن بنات لوط (عليه السلام) خشين من فقدان أثر أبيهن فاتفقن على أن يقمن بأسكاره ثم تختلي به إحداهن، وتمكنه من نفسها لكي تلد منه، وهكذا أنجبت كل منهما ولدا . وكذلك بعض العادات الإباحية المنتشرة في بعض مناطق من العالم قديما وحديثا.
ولا حاجة للمرء إلى إقامة الدليل على تبرئة إبراهيم ويعقوب ولوط عليهم السلام من افتراءات اليهود ونصوصهم المحرفة. كما أن الأدلة على فساد تأسيس أصل نشأة الإنسان من الكثرة بحيث يضيق المكان عن سردها، وتقف في مجملها دليلا على فساد تلك الأراجيف وتدعو إلى وجوب إعادة صياغة هذا الموضوع وفقا لرؤية الإسلام . والجدير بالذكر أن هناك بعض الإشارات العارضة في بعض الكتب إلى عدم صحة ما قيل، ولكن دون الخوض في الموضوع أو الإشارة إلى البعد الحقيقي لما قيل، ومن ذلك القول: " بأنه مهما كانت الحجج التي قدمتها هذه النظريات الثلاث السابقة في بيان الأساس الاجتماعي للإنسان البدائي، فأنه يصعب القطع بصحة إحدى هذه النظريات، لأن كل ما بين أيدي العلماء لا يعدو أن يكون استنتاجات أو افتراضات ويتعذر ترجيح أي من هذه النظريات على الأخرى مادمنا لم نتوصل إلى الأدلة التي تقطع بهذا الترجيح، فأي من هذه النظريات الثلاثة لا تصلح لوحدها لتفسير قيام جميع المجتمعات البدائية، إذ لم يثبت بالدليل القاطع وجود مرحلة من الإباحية الجنسية عاش فيها الإنسان البدائي .
والإسلام يؤكد على أن الله عز وجل خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وسخر له ما في السماوات والأرض جميعا، وخطاب الله تعالى أما خطاب للإنسان أو خطاب عن الإنسان . والإنسان مخلوق مميز مكرم في الملء الأعلى، وظهر تمييزه بتعليمه للأسماء كلها، وصياغته صياغة تؤهله للقيام بمهامه الثلاثة في الأرض وهي: تحقيق عبودية الله، وعمارة الكون والاستخلاف في الأرض . ولا تتحقق غاية الإنسان إلا بهذا الأمر الذي يقتضيه العقل والمنطق . لقد اكتمل خلق آدم {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..} و علمه ريه الأسماء،{وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، وجاء الأمر بسكنى الجنة و النهي عن ارتكاب المعصية {وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} وكانت الغواية، وارتكبت المعصية، ولزمت العقوبة فكان الهبوط إلى الأرض، وكان ذلك كله حيث يعلم الله من الجنة{ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} .
هبط آدم إلى الأرض ورزق الذرية { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء }، وكانت ذريته على التوحيد، ثم اختلف الأبناء فيما بينهم لتعارض المصالح وكانت الخصومة الأولى في التاريخ، وأشار آدم عليه السلام على أبنائه المتنازعين أن يقدم كل منهما قربانا، ومن أكلت النار قربانه فهو صاحب الحق، فكانت القاعدة القانونية الأولى في تاريخ البشرية لحل النزاع، وقدمت القرابين، وتقبل قربان أحدهما ولم يتقبل من الآخر فكان الحكم الأول في تاريخ البشرية، ولم يرض أحد المتنازعين بالحكم، فامتدت يده الآثمة فقتلت صاحب الحق، وكانت الجريمة الأولى{ وأتل عليهم نبأ ابني ء آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين .}
تتابعت ذرية آدم، وكانت على التوحيد زمنا، ثم داخلها الشرك فأرسل الله الرسل، ومن الملاحظ أنه كلما خرج الناس عن النواميس التي وضعها الله لهم كلما انتشر الفساد، وتتابع الرسل حتى إذا عمّ الفساد أرسل الله نوحا ليطهر الأرض من أدناسها، وانتشر التوحيد زمنا بعد نوح، ثم عادت البشرية إلى فسادها وزيفها، فأرسل الله الرسل تباعا حتى كانت خاتمة الرسالات .
وإذا رجعنا إلى المواضع التي عرض الله فيها خبر الرسل، لوجدنا أن دعوة أول الرسل وأخرهم واحدة، وأن التصورات التي جاء بها نوح لم تكن بدائية كما يزعمون، وإنما هي نفس التصورات التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح }، وهذا من أوضح الأدلة على بطلان القول بأن البشرية قد ترقت في عقائدها. وهذا ما يؤكد على أن البشرية لم تبدأ بداية منحرفة وثنية ولم تكن بدايتها بهيمية، والعقل المستنير لا يحار كثيرا في فهم بطلان دعوى النظريات الغربية، والرجوع إلى القرآن يفسر الكثير من المعضلات التي يحار فيها العقل البشري، أما إذا ركن إلى العقل المجرد تاه في دياجير الظلام . ومن ركب البحر استقل السواقي .
منقول