لست سوى قطرة مطرمرت السحاب كعادتها في بداية فصل الشتاء مجتمعة حول البحر العظيم فتأهب البحر لاستقبال المطر المتساقط لينشد أغنية الحب الجميلة التي طالما عزفتها القطرات على وجهه مكونة نغم متقطع شبيه بصوت الملائكة عندما تحمل فوانيس النور لتحوم حول عروش القلوب المطمئنة فتزيدها عذوبة من ترانيم الصلوات التي تدندن لتروي به الأرواح العطشى لتراتيلها فتشعر بالسكينة والهدوء,وما أجمل هبوب الرياح حين تمتزج معها تلك البلورات المائية كما تمتزج الألوان في فرشاة رسام ليرسم لوحة لوجه طفلة نائمة توسدت أحضان والدتها مغمضة عينيها بطمأنينة العابد في هيكله , فتحمل القطرات الجريئة بنسيم من البحر الهائج الذي أعلن فرحته باستقبال محبوبته قطرة المطر التي طالما انتظرها بشوق لضمها أليه بلهفة بعد طول انتظار عذبه,كعذاب من نفي عن أرضه لمجرد انه احبها فلم يرضى لها الذل .فالبحر اليوم مشوق لمعشوقته كما تتوق أنامل عازف لمقطوعة موسيقية فريدة و تلحين نوتات الفرح الذي يغمر نفوس المحبين عند اللقاء بعد طول الفراق فيطير بهم نحو الناموس الأعلى نحو المجد المخلد نحو الحب , ازداد صراع الأمواج فيما بينها لتلتقط القطرات العذبة لتخبأها بين ثناياها ,عندها سقطت تلك القطرة الماسية التي انعكست جمال الطبيعة فيها بحلاوة الشهد بعذوبة المياه بخفة النسمة برشاقة أشعة الشمس التي تخترق أعماق البحار فتلج به لإضفاء النور والدفئ بين مياهه ,بعدها توقف المطر وبدأت الرياح بالتراجع معلنة انسحابها من معركة الطبيعة التي تصارعت كل مكوناتها لتجمع بين البحر وقطرته.
أين كنت؟تساءل البحر بعتب ممزوج بنغمة فرح لرجوع قطرة المطر لأعماقه,لقد كنت في السماء انظر أليك واستمتع برؤيتك و أنت تراقص مياهك متلاعبة مع رمال الشواطئ الدافئة لتغمرها ببرودتك ولتغمرك بدفئها. تعجب البحر من قطرة المطر؟أتتكلمين عني أنا؟وأنت من صنعتني ؟أنتي من كونتي دقائقي الصغيرة فكنت قبلك في جفاف ,لا اعرف للأمواج شكلا ولا لسواحلي المهجورة من وطأة لقدم ادمي أو أي كائن يحيا في أعماقي ,فأنت من مزجتي ملوحتي بحلاوة عذوبتك التي استمد منها قوتي فأكون كالعاشق الغيور لمن ينظر لحبيبته حين أراك تتساقطين على غيري من معالم الطبيعة .ردت قطرة المطر خجلة وبحزن :أنا يا بحري العظيم,أنا قطرة وانت بحر فأين انا منك يا سيدي.أجابها والموج بدأ بالارتفاع :انتي كلي أنتي حلمي الذي اقبل خيوط الشمس من اجل أن أراك تلامسين سطح وجهي متراقصة بدلال صبية في مقتبل العمر ترن بخلخالها الجديد لتغيض به بنات جيلها ولتسمع حبيبها الفتي رنة خلخالها التي تذوب له قلوب الصبيان, انتي مني والي فلماذا تريدين الابتعاد والهروب؟ أجابته وكلها الم :أنني قد نظرت من الأعلى فوجدت نفسي كم صغيرة أنا أمامك ,بالرغم انك كنت بالأمس تحتضنني بين ضلوعك فكنت اشعر بما تقوله وأحس أني أنا وحدي التي تكونت مياهك مني واستمدت أمواجك حركتها بفرحي و أنا أهيم في أعماقك المليء بالأسرار وخزائن الجمال ألي لم تبصرها عيون أو اكتشفتها نفوس الفضوليين لينعموا بجمالك دون توقهم لمعرفة سرك الذي هامت كل الأرواح له فكم من المحبين شهدت أمواجك لأنينهم ولدموع تساقطت لشوقهم أو لذكرى حب مرت بخاطرهم أو فراق يندبون حظهم له أو حنين لماضي فاتهم به فرصة قدمت لهم فلم يأخذوا بها واستدارت أعينهم للحاضر المجهول ففاتهم ما مضى منها واخذهم الندم لانتظار تكرارها ,كما تضيع لحظات حب تمرغت بين رمالك التي يا ما خطت أقدام العاشقين عليها طالبين لأرواحهم الاغتسال من أمواجك فرحا بالمحبة التي تعانق نفوسهم الظامئة له وجزعا لجنون العشق الذي يحملهم حزن انتهاء هذه الاوقات كمرور نسمات نسيان الجميلة على خصلات شعر تلك الفاتنة الجالسة تحت ظلال الزيزفون بانتظار حبيبها المغرم الذي يقطف الزهور البرية ليحوك لها اكليلا فيتوج بها رأسها مطبوع بقبلة على جبينها الخمري. أخبرني كيف لي أذن مواجهتك؟كيف لي معرفة سر خلود ذكرى الألم التي طالما تتصارع أمواجك المجنونة حين تحن لذكراها .فتكون كحلبة مصارعة روما العظيمة حين ينزلون المقاتلين لساحتها فأما قاتل او مقتول والكل يعلو بصوته وبهتافات لتأخذهم روح الاثارة الى منظر الجثة الهامدة بعد صراع لا ينتظر نصر فقط لأعجاب الجماهير ؟يا بحري اعذرني فأني خائفة حين تعود بك الذكرى اليها وأخاف اكثر حين اتجرد امامك بكل براءة فأغفو بين دقائقك متراقصة بفرح وسعادة لم يشهدها احد من المخلوقات فأهيم في حبك واسبح في عالمك المجهول وكلي توق الى ان اكون الوحيدة ,و اعشق هدءوك بعد ان أبدء بدندنة ترانيمي لك لكي أراك سعيدا بحاضرك لتحتضنه وتنسى ما فاتك من الماضي فتعود الى السكون وتحملني بدلال وخفة على سطح وجهك كمرآة صافية فيتغزل بي الشعراء وتكتب عن حبنا القصص, فيا بحري العظيم أعلم اني كنت أنا من سقطت بإرادتها في بحرك حملت نفسي بنسمات شواطئك معلنة أمام الملأ بحبي لك وتوقي وحلمي أن تكون كلك مني,بحر من قطرة مطر؟حلم من نسج الخيال أن تتحول من بحر عظيم إلى قطرة مني انا فقط؟ اشتد الموج اهتياج :يا قطرتي الغالية لو تعلمين ما في نفسي من ألم ماكنتِ اليوم تعتبيني لجنوني ,فأنا رغم اني بحر عظيم تستمد الطبيعة مني سر حياتها من مياهي ,لكني ارى في عيونهم تلك النظرة التي طالما احزنتني لظنهم بي غير الظنون ,ياقطرتي اني ارى نظرة التكبر حين اكون راكعا بين جذورهم و اقدامهم لأسقيهم فيأمروني بالمزيد كرق اسود يتيم ,لكني احيل بوجهي عنهم وانظر الى فروعهم التي تتراقص فرحا لمجيئي ولثمارهم التي ترتوي مني فأفرح لتلك الاوراق التي تصاعدت نحو الاعلى لتنعم بالحرية وبنور الشمس ولم تبقى في تلك الجذور التي تعفنت اجزائها وفقدت ذاكرتها و سبب وجودها في الاسفل لتدعم الفروع وتساعدها على النمو وليس لإجبارها على ان تبقى في مكانها مع الأفكار القديمة,ياقطرتي ان لكبر بحري سر مهم لكي اغذيهم واحتويهم وليس من طبعي الغرور او التفاخر فأنا اهم جزء في استمرار حياتهم على الارض ,لكن (ليس كل ما يعرف يقال).اجابت القطرة غاضبة :اذن دعهم ,اتركهم تبخر معي مع اول خيوط لأشراقات الشمس فنعلو نحو الناموس الاعلى في السماء ولنعيش بعيد عن ريائهم وخداعهم لسحب مياهك اليهم بكل الطرق والالتفاف حولك والابحار والغوص لسلب كنوزك التي حافظت عليها من اجلهم ولم يقدروا ذلك ,دعهم هيا وتعال معي الى ملكوت الفرح والحب لنعيش سوية بين السحاب وقد نقطر لهم من مياهك في بعض الاحيان ليعرفوا ويقدروا قيمة ماخسروه منك يابحري العظيم.ضحك البحر بنغمة حزنية:ياقطرتي لو كنت بهذه الانانية لكنت قد رحلت ولم اتحمل كل عذابات امواجي التي تشاهد كل يوم الغدر والخيانة وكل اساليب التفنن في قهر النفوس وإزهاق الارواح بشتى الطرق فكم من يائس ارتمى في احضان موجي وغرق فيها ليتخلص من هم ملئ حياته قهرا وألم فلم استطع إنقاذه وكم من خيانة شاهدتها حين رمي صاحب صديقه في بحري ليغرق فيه بغدر ,لكني دوما كنت بعد جزعي لتلك المناظر اتطلع لنظرات المحبين لي فيهيم العاشقين بين دقائق مياهي واسمع حسراتهم للقاء ,كما واتطلع الى مراكب تحوم حولي لتصطاد من خزائني فيحمل منها الرجال قوت يومهم فيفرح به عيالهم ,ياقطرتي ليس الهروب حلا لنا بل الصدق هو طوق النجاة .وبكل هدوء بدأت الشمس تعكس خيوط فجرها الجديد ملونة افقها بألوان السعادة متكسرة بدلع على سطح البحر ,عندها بدأت قطرة المطر بالتوجه نحو اشعة الشمس متصاعدة نحو الاعلى فهب بها البحر :حبيبتي ...قطرتي العذبة ..يامن حلت ايامي وزادتني هيام بها بعذوبة همسها وصوت غنائها النابع من اعماق قطرة صغيرة مدللة لا تعرف لغير حبي درب و لأحضاني دفئ تتوسده بحنان ولطف, فألى اين تمضين ؟
ارتسمت ابتسامة على محياها كمن يودع شيء ثمين على قلبه كنظرة من حكموا عليه بالمنفى بعيدا عن ارضه التي عشقها وتوضأ من انهارها واشتد عضده من خيراتها ,فردت عليه وهي تلامس سطح وجهه العذب برقه عازف الناي حين ينفخ روحه في مزمار خشبي من صنع يداه فيطلق اجمل الانغام:ايها البحر ,اني قد علمت بسرك فلم يعد لي وجود بين ثنايا امواجك رغم اني اعيش لأتنفسها واحيا بها وازداد عذوبة وجمال من اجلها ,يابحري العظيم ...ياحبيبي..يامالك عرش قلبي ..سوف ارحل ,لعلمي بنهايتي معك بأني سأكون مجرد قطرة قد زادت البحر حلاوة في يوم من الايام ,فحملتني كالاميرات واغدقت علي بعطايا حبك فاحتضنتني دقائقك بأحترام وسمعت لشكواي فكنت خير ناصح لي وصديق ..والأجمل أفضل حبيب ...لكني اعلم جيدا النهاية انني مهما كبرت وتناثرت وامطرت واجتمعت سأكون مجرد قطرة وسط بحر,فياسيدي الك عذري ,ودعني ارجع الى دياري ,الى السماء حيث السحاب لكي انظر اليك واتمتع بجمالك لكني بطبعي غيورة بحبي لا اقبل ان تشاركني قطرات اخرى في تكوينك, اما انا وحدي والا لن اكون سوى ذكرى مرت بخاطرك كباقي الذكريات التي تخبئها بأعماقك والتي هلكت وانا اشاهدك تقلبها بوجع فأحس أن لا وجود لي بنبضك ولا تشعر بسعادتي بين ضلوع احتوتني ووضعتني انت بينها فقدمت روحي لها قربانا لتقبله مني ,لقد تعبت فدعني اتبخر فتحملني خيوط الشمس نحو مصيري فاليوم اصعد للسحاب وغدا من يعلم قد امطر على وردة فأكون في قلبها كقطرة ندى او اتساقط على نهر يجرفني الى الاسفل بين الصخور او قد اغسل ورقة شجر كتب عليها اول حرف لأسم حبيبين فأسعد بأن اكون من يمحي الغبار عنها فتسطع حروفهما للنظر,لكن اكثر مايخيفني ان اتساقط على صخر فلا يحس حتى بنعمة وجودي على سطحه فأنزلق الى اسفله فأكون كدمعة رجل في ليلة وداع حبيبته بعد ان وقع في غرامها فكانت فتاة احلامه ولكن كتب لحبهما المستحيل فقررت ان تتخلى عنه لكي يستريح من عذاباته بحبها وترجع هي الى حزنها الذي طالما كتب عليها ان تغرم في الوقت والمكان الغير ملائمين ,تلك الدمعه المقدسة التي تتوق الى حملها في قلبها وان تغلق كل النوافذ والابواب وتغتسل بها وتدفن زهرة أحياها في قلبها بعد ان قاست أنواع الألم والغدر من احبائها واقرب الناس إليها من تسري في عروقهم دماء واحدة,لكنهم لم يكونوا متشابهين اطلاقا,فجاء حاملا قلبه لها بكل نقاء مودعا ماضيه ليحتضنها بين اضلعه ,يابحري الحبيب اسفة على كل مافعلته بحق حبنا لقد كنت امل ان تكون كلك مني ...فأنجرفت سابحة بين امواجك متراقصة فرحة احمل نفسي بين ثنايا انفاسك أعيش بها أتوق كل يوم لها لتكون هي مصدر سعادتي وسر خلودي فأعلن امام كل قطرات انضمت لأمواجك واصرخ بعناصر الطبيعة بأعلى اصواتي واقول: هذا بحري انا ...انه حبيبي ..انه من اوقد نفسه كشمعة امل لقلبي فكان من يحرق نفسه من اجلي لأكون سعيدة فكيف اتجرئ اليوم واطلب منه ان اكون نصفه الاخر,بل كله ,هو مني وانا منه,بعد ان باح لي بسره انه لا يستطيع ان يتبخر معي نحو السماء , لكن من جنوني به أعمت بصيرتي بصري فنسيت انه البحر و انني لست سوى قطرة مطر.