لقد ماتت أمه بعد ولادته بساعات قليلة .. ولم يجد فى حضن أبيه ما يمكن أن يعوضه عن حنان أمه المفقود ، وتزوج الأب بعدها من امرأة كان قلبها كالحجارة أو أشد قسوة ، فكرهها وكره النساء جميعاً ، ولكن هذه الكراهية قد ولدت بداخله براكين من الإرادة فكان متفوقاً فى دراسته وأصبح بعدها مهندساً شاباً تنظر فى عينيه فترى مستقبل مشرق يطل من نافذة مخلوقة من الحزن .. والخوف من تذكر الماضى الأليم أو النظر إلى الغذ المجهول.
وفى وسط هذه الحياة المظلمة وأثناء السنة الثانية من دراسته .. كان ذاهباً إلى جامعته فى المدينة التى تبعد عن قريته بمسافة ليست بكبيرة رأى وجهها لأول مرة .. فأسرته عيناها ، وأحس بأن الدنيا كلها تضئ من حوله .. لقد رأى فى عينيها الحنان الذى فقده منذ صغره ، أحبها حباً كبيراً ولكنه لم يصارحها بحبه .. كانت تسكن فى بلدة بجوار بلدته وتذهب إلى كليتها فى نفس الجامعة التى يدرس بها ، وعاهد نفسه أن يكون حبه لها سراً يكتمه فى قلبه لا يبوح به لأحد قبلها عندما يحين الوقت المناسب .. ظل عاماً تلو عام يحبها يزداد الحب فى قلبه وتلتهب الأشواق يوماً بعد يوم.
وفى فترة الإجازة التى تسبق السنة النهائية فى دراسته ، كان الحب قد تملك منه فقلب ليله نهاراً ونهاره ليلاً .. وقرر فى نفسه أن يذهب إليها فى بداية الدراسة ليصارحها بحبه.
وجاء اليوم الموعود .. وركبت بجواره القطار .. وهو يخشى النظر إليها ، يرتب الكلمات فى ذهنه حتى يفاتحها ، فإذا بيدها تخبط يده .. فيفيق من غيبوبته وينظر إلى يديها ويسمعها وهى تعتذر له .. لم يكن يعرف لماذا تعتذر هل لأنها خبطت يده أم لأنها حطمت قلبه بقسوة .. حينما رأى دبلة من الذهب تلتف حول اصبعها فى يدها اليمنى كأنها قيد قيدها ومنعها عنه .. لم يرد عليها بكلمة واحدة .. فعندما كان يظن أنه اقترب من الحلم ظهر له أنه مجرد سراب .
ظل طوال عامه الدراسى الأخير يعانى ويعانى فتعمد ألا يراها ، ولكنه حينما كان القدر يقدر لقاؤهما يجد قلبه أقوى منه ويجد نفسه أضعف من سحر عينيها الجميلتين.
وأنهى عامه الدراسى الأخير .. وانشغل فى حياته ولكنه لم ينسى أبداً تلك العينين ، ولكن ما فائدة حلم تعيش فيه طوال ليلتك حتى إذا ظهر شعاع من النور تحطم الحلم على صخرة الواقع.
وبعد فترة ليست بقصيرة .. استطاع أن يتغلب على قلبه وأن يطوى حزنه وحنينه بداخله ، ولكن .. وآه من كلمة لكن ، فعندما ترتضى بهزيمتك من الزمان يناديك مرة ثانية ويوعدك بنصر جديد يمحى كل الهزائم السابقة ويعوضك عما فاتك وما ضاع منك .. لقد جاءه صديق كان يحس أثناء دراستهما بحبه لها .. جاء وأخبره أن خطبتها قد تم فسخها ، فلم يستطع أن يدارى لهفته وسأله عن كيفية معرفته بذلك فأجابه بأنه قد رآها صدفة ورأى يدها اليمنى خالية من دبلتها.
وبدأ الشوق يدب فى قلبه ثانية .. وبدأت الأحلام تداعب خياله .. وهاهو اليوم يقف فى نافذته ينتظر شروق الشمس بفارغ الصبر .. ينتظر شعاع من أشعتها الدافئة ليذيب جبال الخوف التى تعتصر قلبه .. سيذهب إليها هذه المرة ويصارحها بحبه .. لن يكرر غلطته ثانية .. لن يكتم حبه عنها .. لقد ضاعت منه مرة ولن يسمح للزمان أن يحرمه منها مرة أخرى .. اليوم سيتحدد مصيره .. اليوم سيداوى جرح الماضى الدامى.
وذهب إليها وقطع عليها طريقها وهى عائدة من عملها .. ومد يده إليها بالسلام .. وجاءت اللحظة التى عاش ينتظرها .. كان يلمح فى عينيها نظرة غريبة .. وقلبه يكاد يتوقف عن النبض .. هل أصبح الحلم حقيقة ؟ .. هل جاء الوقت المناسب ؟ .. ، وأخيراً صارحها بحبه ، لم يتحدث إليها كثيراً ، أحبك .. أريد الارتباط بك .. أكون ملكك وتكونين ملكى .. أسكن قلبك وتحتمين بحبى .. لم يستطع أن ينطق بأكثر من هذا ، لقد أحس فى هذه اللحظة فقط أنه رمى أحمالاً شكى قلبه من ثقل حملها ، ووقف صامتاً ينتظر الرد .. ولكنها لم تنطق ببنت شفة .. كان الذهول يرتسم على ملامحها لا تعرف كيف ترد .. ذاب الكلام على شفتيها .. ولكنها رفعت يدها اليسرى ليرى القيد الذهبى قد انتقل من اليد اليمنى لليد اليسرى .
جاء ليداوى جرح الماضى الدامى فأصبح الجرح ألف جرح .. اليوم فقط تأكد من خطأ الحكمة التى عاش يؤمن بها .. ومشى فى طريقه وهو يحس بأن الزمان يخرج له لسانه ويقول له : " أنا عدوك الذى لا يقهر