امير المؤمنين
كانَ يَجْلِسُ بَيْنَ أربَعِينَ رَجُلاً مِنْ رِجَالِ العَشِيرَةِ.. يَسْتَمِعُونَ إلى كَلامِ رَسُولِ اللهِ وسلم بَعْدَ أنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ الشَرِيفَةُ : (وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ) (1).
حِينَ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ وسلم : ـ إنِّي أدْعُوكُمْ إلى كَلِمَتَينِ خَفيفَتَينِ على اللِّسانِ.. ثَقِيلَتَيْنِ في المِيزانِ.. تَمْلِكُونَ بِهِما العَرَبَ وَالعَجَمَ.. وَتَنْقادُ لَكُمُ الاَُمَمُ.. وتَدْخُلُونَ بِهِمِا الجنَّةَ.. وتَنْجَونَ بِهِما مِنَ النّارِ.. وهُمَا شَهادَةُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنّي رَسُولُ اللهِ.. فَمَنْ يُجِيبَني إلى هذا الاَمرِ.. ويُؤازِرُني عَلَيهِ وعَلى القِيامِ بِهِ.. يكونُ أخِي. وَوَصِيّي . ووزِيرِي . وَوارِثي.. وخَليفَتي مِنْ بَعْدِي.. وما زالَ الرسولُ وسلم يُكرِّرُ كَلامَهُ فَلَمْ يَسْمَعَ جَواباً مِنْ أحدٍ سِوى ذلِكَ الّذِي كانَ يَجْلِسُ بَيْنَهُمْ.. وَرَغْمَ أنَّهُ كانَ أصْغَرُ الحَاضِرِينَ سِنّاً.. إلاّ أنَّهُ كُلّما سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ وسلم يَنهَضُ واقِفاً وبِكُلِّ ثِقَةٍ يَقُولُها : ـ أنَا يَا رَسُولَ اللهِ أُؤازِرُكَ عَلى هذا الاَمْرِ..
فَيَأمُرُهُ الرَّسُولُ وسلم : ـ إِجْلِسْ..
ثُمَّ يُعِيدُ عَلى الحَاضِرِينَ قَوْلَهُ..
يا مَوْلايَ يا رَسُولَ اللهِ.. هَلْ تَنْتَظِرُ غَيْرَ هذا الفَتى .
وأنْتَ أعْلَمُ الناسِ بِهِ..؟!
أليْسَ هُوَ الّذي اختَرْتَهُ مِنْ بَيْنَ إخْوَتِهِ لِيَعِيشَ مَعَكَ وَلَمْ يَكُنْ عُمْرُهُ آنَذاك سِوى سِتِ سَنَواتٍ ؟! فَجَعَلْتَهُ يَنْشَأُ في رِعايَتِكَ . ويَشْرَبُ مِنْ يَنابِيعِ عِلْمِكَ.. كُنْتَ تَضُمُّهُ إلى صَدْرِكَ.. وتَمْضَغُ الطَعامَ ثُمَّ تَضَعُهُ في فَمِهِ.. مَنْ غَيْرُهُ كانَ يَعْلَمُ بِكَ وأنْتَ تُجاوِرُ في كلِّ سنة غارَ حِراء فَيَراكَ ولا يَراكَ غَيْرُهُ..؟! وهَلْ هُناكَ غَيْرُ هذا الفَتى الّذي شَمَّ رائِحَةَ النُّبُوَّةِ.. وَرَأى نُورَ الوَحْي والرِسالَةِ مُنْذُ نُعُومَةِ أظْفارِهِ..؟! وَأخَذَ العِلْمَ مِنْكَ حَتّى بادَرَكَ في يَوْمٍ سائِلاً إيّاكَ بَعْدَ أنْ سَمِعَ رَنَّةً تنْسابُ إلى مَسامِعِهِ : ـ يا رَسُولَ اللهِ.. ما هذِهِ الرَنَّةُ ؟!
فَقُلْتَ لَهُ : هذا الشَيْطانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبادَتِهِ.. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أسْمَعُ وتَرى ما أرى إلاّ أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ.. وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ..
وَهَلْ غَيْرُهُ يا رَسُولَ اللهِ.. وَقَدْ شَهِدَ الحالةَ الرُوحِيّةَ الّتي كُنْتَ تَمُرُّ فِيها خِلالَ اختِلائِكَ في غارِ حِراءِ.. حَتّى أيْقَنَ بِكُلِّ شَيءٍ فَلَمْ يَحْتَجْ أنْ تَدْعُوهُ إلى الاِسلامِ ؟! وَهُوَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ الّذي لَمْ تُصِبْهُ الجاهِلِيَّةُ بِشَيءٍ مِنْها.. ولَم يَتَفاعَلْ مَعَها.. فَقَدْ كانَ مُطَّلِعاً على أمْرِ دَعوَتِكَ ومنهجِ رِسالَتِكَ.. فَأعلنَ تَصدِيقَهُ بِكَ وأيقنَ حتّى قالَ: ـ عَلَّمَني رسولُ اللهِ وسلم ألفَ بابٍ مِنَ العلمِ يُفتَحُ لي مِنْ كُلِّ بابٍ ألفُ بابٍ..
وأخيراً قالَها رسولُ اللهِ وسلم لِعليٍّ : ـ إجلِسْ فَأنتَ أخي ووصيِّي ، ووزيرِي، ووارِثي ، وخليفَتِي مِنْ بَعدِي..
فنهضَ القومُ يُخاطِبونَ أبا طالبٍ ساخِرينَ : ـ لِيهُنِئَكَ اليومُ أنْ دخلتَ في دينِ ابنِ أخيكَ . فقدْ جَعلَ ابنَكَ أميراً عَليكَ..
وَهَل غيرُ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ الفتى الّذي كَرّمَ اللهُ تعالى وجْهَهُ بِما لَمْ يُكرِّمْ بِهِ غَيرَهُ حتّى مِنَ الاَنبياءِ.. وذلكَ باستضافَةِ أُمّهِ فاطمةَ بنتِ أسد في بيتهِ الشريفِ.. فدخَلَتْ لِتَضَعَهُ هُناكَ.. فَـوَلَـدتـهُ حَـسَـنَ الوجهِ مَسروراً نظيفاً.. وأطعمَ اللهُ أمَّهُ
مِنْ ثِمارِ الجنَّةِ وَهيَ ما تزالُ في الدُّنيا.. وناداها : ـ يافاطمةُ سَمِّيهِ عليّاً.. إني شَقَقتُ اسْمَهُ مِنِ اسمي.. وأدّبتُهُ بأدبي.. وَوَقّفتُهُ على غامِضِ عِلمي.. فَطُوبى لِمَنْ أحَبَّهُ وأطاعَهُ.. وَوَيلٌ لمنْ أبغَضَهُ وَعَصاهُ..
وكلُّ ما جَعَلَهُ اللهُ تعالى من أمرِ عليٍّ منذُ لَحظةِ وِلادتِهِ في بيتِهِ الشَّريفِ.. وإلى لَحظةِ دعوتِكَ يا رسولَ اللهِ ما كانَ إلاّ أن يَكونَ هو خليفَتك ووزيرَك..
* * *
وتَمُرُّ الاَعوامُ متعاقبةً.. حتّى جاءَ ذلِكَ اليومُ الموْعودُ.. ويا لَهُ مِنْ يومٍ.. كانَ الجوُّ شديدَ الحرارةِ في ظهيرَةِ ذلِكَ اليومِ.. وكانَتْ آلافُ القوافِلِ عائدةً مِنَ الحَجِ مَعَ رسولِ اللهِ وسلم وكانَتْ أقْدامُهُمْ تكتوَي مِنْ شدَّةِ حرارةِ الرّمالِ.. وتَلفَحُ وجُوهَهُمْ سمومُ الصحراءِ تحتَ لهبِ الشمسِ.. والاَكثرُ منْ هذا هوَ ما كانَ يَختَلِجُ
في صدورِهِم.. فقدْ لَمَّحَ لَهُمْ رَسولُ اللهِ وسلم أثناءَ مناسكِ الحَجِّ بما جَعَلَهُمْ يشعرُونَ بأنَّ هذهِ الحَجَّةُ هيَ آخرَ حَجّةٍ لهُ وسلم .. وواصَلَتِ القَوافِلُ سيرَها حتّى وَصَلَتْ إلى مكانٍ تَتفرَّعُ منهُ طُرُقُ بُلدانِ الحُجّاجِ.. والّذي يُسمّى بغَديرِ خُمٍّ.. سَمِعَ الناسُ صَوتاً يُناديهِم ويدعُوهُم إلى التَوَقُّفِ.. فَنَظَرُوا خَلْفَهُم مُتسائِلينَ عَمّا يجري : ـ مَا الّذي حَصَلَ في هذا الوقتِ وفي هذهِ الظُروفِ.. ؟!
فهناكَ أشخاصٌ يَعْمَلونَ على تَهْيئَةِ بَعْضِ الخِيامِ لِينصِبوُها في أماكِنَ مُعَيَّنَةٍ..
إنَّهُمْ يَتساءَلُونَ ورُبَّما في تِلكَ اللحظَةِ لا يَعلَمون أنَّ رسولَ اللهِ وسلم لم يَفعلْ ذلِكَ رَغْبَةً مِنْهُ . وإنَّما بأمرٍ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ.. نَزَلَ بهِ الاَمينُ جبرائيلُ مُخاطِباً بهِ رسولَ اللهِ وسلم :
( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناسِ..) (2). نُودِيَ لصلاةِ الظُهرِ.. فَصَلّى الرَسولُ وسلم بِتِلْكَ الجمُوعِ الغَفيرَةِ وفي ذلِكَ اليومِ الذي كانَ يضَعُ فيهِ الرَجُلُ بعضَ رِدائِهِ فَوْقَ رَأسِهِ وبَعْضَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الرَمضاءِ .
ولمّا سَلَّمَ الرَسولُ وسلم مُنتَهياً مِنْ صَلاتِهِ.. قامَ خَطيباً فوقَ أقتابِ الاِبلِ وَسَطَ تِلكَ الجمُوعِ رافعاً صَوتَهُ لاِسماعِهِم : ـ الحمدُ للهِ.. ونَسْتعينُهُ ونُؤمِنُ بهِ ونَتَوَكَّلُ عَلَيهِ.. ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعْمالِنا.. الّذي لا هاديَ لِمَنْ ضَلَّ.. ولا مُضِلَّ لِمَنْ
هَدى.. يا أيُّها الناسُ ! قدْ نَبَّأني اللطِيفُ الخبيرُ أنَّهُ لَنْ يُعَمَّرَ نَبيٌّ إلاّ مِثْلَ نصفَ عُمرُ الّذي قَبْلَهُ.. وإنّي أُوشَكُ أنْ أُدعى فَأُجيبُ وإنّي مَسؤولٌ ، وأنْتُمْ مَسؤُولونَ . فماذا أنْتُم قائلونَ ؟
قالوا : ـ نشهدُ أنَّكَ قدْ بلَّغْتَ وجاهَدْتَ ونَصَحْتَ فَجزَاكَ اللهُ خيراً..
فقالَ لَهُمْ : ـ ألَسْتُمْ تشهَدُونَ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأنَّ مُحمّداً عَبدُه ورسولُهُ.. وأنَّ جَنَتَهُ حَقٌّ.. ونارَهُ حَقٌّ.. والموْتَ حَقٌّ.. والبَعثَ حَقٌّ.. وأنَّ الساعةَ آتِيةٌ لا رَيْبَ فِيها.. وأنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبورِ.. فقالوا : ـ نشْهَدُ بِذلِكَ..
فقالَ : ـ اللّهُمَّ اشهَدْ.. يا أيُّها الناسُ ! إنَّ اللهَ مَوْلايَ.. وأنا مَوْلى المُؤمِنينَ.. أوْلى بِهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ..
وقَدْ كانَ الاِمامُ عليٌّ إلى جانبِهِ فأخَذَ بِيَدِهِ ورَفَعَها عالِياً معَ يَدهِ..
حتّى شاهدَ الناسُ بَياضَ إبْطَيْهِما.. ونادى رافعاً صوتَهُ : ـ فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهذا عَليٌّ مَوْلاهُ ، اللّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وعادِ مَنْ عاداهُ ، وأحِبَّ مَنْ أحَبَّهُ وابْغُضْ مَنْ أبْغَضَهُ.. وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ واخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ ، وأدِرْ الحَقَّ معهُ حَيثُ دارَ.. يا أيُّها الناسُ ! إنّي فَرْطُكُمْ.. وإنَّكُمْ وارِدونَ عَلَيَّ الحوْضَ.. حَوْضٌ عَرْضُهُ ما بَيْنَ بصْرى إلى صَنْعاءَ.. فيهِ أقداحٌ بعدِدِ النُجومِ مِنَ الفِضَّةِ.. فَانْظُروا كيفَ تُخلِفُوني في الثَّقَلَينِ.. إنّي سائِلُكُمْ عَنْهُما حينَ ترِدونَ عَلَيَّ الحَوْضَ.. الثقلُ الاَكْبرُ كتابُ اللهِ تعالى طَرَفٌ
مِنهُ بيدِ اللهِ تعالى والطَرَفُ الآخَرُ بأيدِيكُمْ.. فاستَمسِكُوا بهِ لَنْ تَضِلُّوا.. والثَقلُ الآخَرُ عِتْرَتي أهلُ بَيتي.. وأنَّ اللطيفَ الخبيرَ نَبَّأني أنَّهُما لنْ يَفتَرِقا حتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ.. فلا تتقدَّموهُما فَتَهْلَكُوا.. ولا تُقَصِّروا عنْهُما فَتَهلَكُوا كذلِكَ.. ولِيُبَلِّغِ الشاهدُ مِنْكُمُ الغائبَ..
وشَهِدَ غَديرِ خُمٍ في تِلكَ السّاعَةِ عاطفةٌ خاصةٌ ونكهةٌ لا يُمكنُ أن تُنسى وقائِعُها عِنْدَ البَشَرِ.. فَقَدْ جَاءَ هَذا التَّبليغُ مُتزامِناً مَع عباراتِ الوَداعِ لِيبقى حيّاً في ضَميرِ الاُمّةِ ووجدانِها وذاكرتِها.. فَتَقاطَرَ عَليهِ الناسُ يُبايعُونَهُ.. وجاءَ الشيخانُ أبو بكرٍ ، وعمرُ بنُ الخطّابِ إلى رسولِ اللهِ وسلم
وقالا له : ـ أهذا الاَمرُ مِنكَ أمْ مِنَ اللهِ..؟!!
فقالَ النبيُّ وسلم : ـ وَهَلْ يَكونُ هذا عن غَيرِ أمرِ اللهِ.. ؟!!!
فتقدَّمَ عُمَرُ بنُ الخطابِ مِنْ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ وسَلَّمَ عليهِ قائلاً : ـ السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنينَ بَخٍ بَخٍ لَكَ يا عليُّ.. لَقَدْ أصبَحتَ مَولايَ ومَولى كلِّ مؤمنٍ ومُؤمنةٍ..
وكذلِكَ فَعلَ أبو بكرٍ مِثلَ ما فَعَلَ عمرُ بنُ الخطّابِ أمامَ تلكَ الجُموعِ المحتَشِدَةِ..
* * *
وَرغْمَ كلِّ الّذي حَصَلَ في بيعةِ الغَديرِ المباركةِ مِنْ تأكيدٍ للرَّسولِ صلى الله عليه وآله وسلم على أنَّ الخِلافةَ لعليٍّ بنِ أبي طالبٍ كانتْ أمراً مِنَ اللهِ تَعالى لا علاقةَ للرَّسولِ في مَنْحِها رغبةً مِنْهُ لِصِلَةِ القرابَةِ بَيْنَهُ وبينَ عليٍّ بنِ أبي طالب إلاّ أنَّهُ يَعْلَمُ بِما سَيَحصَلُ بعدَ وفاتِهِ وسلم وها هُوَ في إحدى الليالي يُنادي عليّاً وجماعةً مِنْ أصحابِهِ.. لِيَخرُجَ بِهمْ إلى البَقيعِ.. وَقَدْ كان يَشعُرُ بِتَدَهورِ حالتِهِ الصّحِيّةِ.. ودِنوِ أجَلِهِ وسلم . فَوَقَفَ بينَ القبورِ مُخاطباً موتى المؤمنين: ـ السلامُ عليكُمْ يا أهلَ القبورِ.. لَيُهنِئَكُمْ ما أصبَحتُم بِهِ.. ممّا فيه الناسُ فَقَدْ أقبَلتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ يَتْبَعُ أوّلُها آخرَها..
ثُمَّ استَغفَرَ لَهُم طويلاً.. ونَعى نفسَهُ لِمنْ كانَ حاضِراً مِنَ المؤمنينَ...
* * *كانَ الرسولُ وسلم قَدْ أمَرَ بتجهيزِ جَيشٍ وَضَعَ في عِدادِهِ شيوخَ المُهاجرينَ والاَنصارِ.. أبا بكر.. وعمرَ بنَ الخطابِ.. وعثمانَ بنَ عفّانِ وغَيرَهُم.. وَوَضَعَ لِقيادِة الجيشِ الصّحابيَّ الشابَّ أُسامةَ بنَ زيدِ بنِ حارثةٍ الحارث.. وفي الوقتِ الّذي كانَ الرسولُ وسلم يُعاني مِنْ شِدَةِ مَرَضِهِ.. اعتَذَرَ عمرُ بنُ
الخطّابِ وأبو بكرٍ.. وعثمانُ.. عن التِحاقِهِمْ بِجَيشِ أُسامةَ.. رغمَ أنَّ الرسولَ وسلم كانَ قَد قالَ ساعتَها : ـ لَعَنَ اللهُ مَنْ تَخلَّفَ عَنْ جيشِ أُسامةَ..!!
زاعمينَ بِذلِكَ أنَّهم لا يَستطِيعونَ مُفارَقةَ رسُولِ اللهِ وسلم وَهُوَ في أشدِّ حالاتِ مَرَضِهِ.. ولكِنْ حِينَ سَقَطَ رأسُ الرّسولِ وسلم في حِجْرِ عليٍّ بنِ أبي طالب عليه السلام وَفاضَتْ نَفسُهُ الطاهرةُ..
خَرَجَ هؤلاءِ الثَّلاثَةُ تارِكِينَ أمرَ رسولِ اللهِ وسلم وتَوجَّهُوا إلى سَقيفَةِ بني ساعِدَةَ لِعقدِ اجتماعٍ لِتَنصِيبِ مَنْ يُخلِفُ رسولَ اللهِ وسلم في قِيادةِ المسلمينَ.. مُتجاهِلينَ بِذلِكَ كلامَ رسولِ اللهِ وسلم وكلَّ ما حدَثَ في بيعةِ الغديرِ التي لَمْ يَمضِ عَليها وقتٌ طويلٌ.. وبِهذا يكونونَ قَد بَرهَنُوا على تَخلُّفِهِم عَنْ تِلكَ البيعةِ المبارَكةِ في غديرِ
خُمٍّ.. وحَسبُنا كلامُ رسولِ اللهِ وسلم مُخاطِباً عليّاً : ـ يا عليُّ لا يَحبُّكَ إلاّ مؤمنٌ.. ولا يَبغُضُكَ إلاّ منافقٌ أو ابنُ زِنا..
وهُناكَ تَحتَ تِلكَ السَّقِيفَةِ المشؤُومَةِ بادَرَ عمرُ بنُ الخطّابِ إلى بيعةِ أبي بكرٍ بالخِلافَةِ.. وَطَلَبَ مِنَ الحاضرِينَ أنْ يُبايِعُوهُ.. وَقَدْ وَصَلَ النَّبأ إلى مَسامعِ الاِمامِ عليٍّ مِن خِلالِ الضَّجيجِ الّذي أحدَثَهُ خُروجُ القَومِ مِنَ السقِيفَةِ مُتَوَجّهِينَ إلى المْسجِدِ النَّبوَيّ.. وَهُمْ يَزِفُّونَ أبا بكرٍ كَزفافِ العروسِ في نفسِ الوَقتِ الّذي كانَ
فِيهِ الاِمامُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ مشغولاً مَع بقيةِ أهلِ بيتِ النُبوةِ عليهم السلام بتَجهِيزِ الرسولِ الاَكرمِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وتغسيلِهِ وتَكفِينِهِ والصلاةِ عليهِ ودَفنِه.. ولِعَدَمِ قناعةِ الاِمامِ عليٍّ بِما يَجري فَقَدْ ظَلَّ مُؤمناً بحقِّهِ في الخِلافَةِ مُدافِعاً عن الاِسلامِ
والمسلِمِينَ ، مُتصدِياً لِحلِّ المُعضَلاتِ ، مُتحمِلاً الآلامِ، صابِراً حتى خرجَ أشْقاها ليُخَضِّبَ كريمتهُ المقُدَّسَةَ ، وليَثكِلَ الاُمّةَ الاِسلاميةَ كلَّها بِهِ وكانَ ذلِكَ في لَيلَةِ التاسعَ عَشَرَ مِنْ شِهْرِ رمضانَ سنةَ 41 من الهجرةِ.