تعريف الحوالة لغةً وشرعًا
الحوالة لغة: بفتح الحاء أفصح من كسرها، وهي اسم، من «حوَّل الشيء» : غيره، أو نقله من مكان إلى آخر, و«حوَّل فلان الشيء إلى غيره»: أحال، والحوالة: اسم من أحال القريم: إذا دفعه عنه إلى غريم آخر, أو صك يحول به المال من جهة إلى أخرى().
فـ«الحوالة» مأخوذة من «التحويل», وهو: النقل من مكان إلى مكان، فهو نقل الدَّين من ذمة إلى ذمة، فيقتضي فراغ الأولى عنه, وثبوته في الثانية().
والفرق بينها, وبين الكفالة: أن «الكفالة» ضم ذمة إلى ذمة أخرى لا تبرأ بها الأولى، وهذا يقتضي بقاء الدَّين في الذمة الأولى, وبذلك يتحقق معنى الضم، فـ«الحوالة» مبرئة، و«الكفالة» غير مبرئة().
الحوالة اصطلاحًا (شرعًا):
الحنفية:
عرَّفها صاحب «تنوير الأبصار»() بأنها: "نقل الدَّين من ذمة المحيل إلى ذمة المحتال عليه".
وقال ابن الهمام(): «الحوالة» تناسب الكفالة؛ لأن كلا منهما عقد التزام ما على الأصل للتوثق إلا أن «الحوالة» تتضمن براءة الأصيل براءة مقيدة بخلاف «الكفالة» لا تتضمنه, فكانت كالمركب مع المفرد, وعرَّفها ابن الهمام بقوله «الحوالة»: "نقل المطالبة من ذمة المديون إلى ذمة الملتزم" بخلاف «الكفالة»، فإنها: "ضم في المطالبة لا نقل", وعرفها «صاحب العناية» بأنها: "تحويل الدَّين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحتال عليه على سبيل التوثق به"().
قال البسطامي: "وأصل التركيب دال على الزوال والنقل, ومنه التحويل, وهو: نقل الشيء من محل إلى محل آخر".
وفي المغرب: وإنما سمي هذا العقد حوالة؛ لأن فيه نقل المطالبة أو نقل الدَّين من ذمة إلى ذمة أخرى، بخلاف «الكفالة», فإنها: ضم ذمة إلى ذمة().
المالكية:
عرَّفها الشيخ الدردير()بقوله، هي: "نقل الدَّين من ذمة بمثله إلى أخرى تبرأ بها الأولى" أو: "تحول الدَّين من ذمة تبرأ بها الأولى".
فقوله «بمثله»: جار ومجرور متعلق بـ«نقل»، وكذلك قوله: «إلى أخرى»، أي: نقل الدَّين من ذمة لأخرى بسبب وجود مثله في الأخرى, وقوله: «تبرأ بها الأولى»، أي: تبرأ بها, ـ أي: بالنقل ـ، وأنث الضمير «بها»؛ مراعاة لمعنى النقل؛ لأن معنى «النقل»: «الحوالة», وهي: مؤنثة, ولفظ «النقل»: مذكر.
وعقب على هذا التعريف بالآتي:
كلمة «نقل», والنقل يكون حقيقة في الأجسام.
جملة: «تبرأ بها الأولى» هذا من قبيل الحشو والزيادة؛ لعدم إفادته مدخلاً أو مخرجًا.
وعقب على الثاني بالآتي:
أي بأنها: «تحوَّل» بأنه قد عرَّف الشيء بنفسه.
ولذلك عرَّفها ابن عرفة بأنها: "طرح الدَّين عن ذمة بمثله في أخرى"(), وسميت بذلك؛ لأن الطالب تحوَّل من طلبه لغريمه إلى غريم غريمه().
الشافعية:
عرفوها() بأنها: "عقد يقتضي نقل الدَّين من ذمة إلى ذمة".
وهي من العقود اللازمة, ولو فسخت لا تنفسخ().
الحنابلة:
عرَّفوها() بأنها: "انتقال مال من ذمة إلى ذمة بلفظها أو بمعناها الخاص".
و«الحوالة» عند الحنابلة عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس محولاً على غيره لا خيار فيها، وليست الحوالة بيعًا؛ لأنها لو كانت بيعًا لكانت بيع دين بدين, ولما جاز التفرق بين المتعاقدين قبل القبض؛ لأنها بيع مال الرِّبا بجنسه، ولجازت بلفظ البيع، فلما لم يتوافر فيها كل هذا إذن فليست بيعًا... ولأن لفظها يشعر بالتحول، وليست أيضًا في معنى البيع؛ لعدم العين فيها بل الحوالة تنقل المال المحال به من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه لما سبق من أنها مشتقة من «التحول»، أو «التحويل»، وفيها شبه بالمعاوضة من حيث إنها دين بدين, وشبه بالاستيفاء من حيث براءة المحيل بها، ولترددها بينهما ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة, وبعضهم بالاستيفاء، وتلزم بمجرد العقد().
وسواء عرَّفها الفقهاء بأنها: نقل أو طرح أو عقد يقتضي النقل, فإن جميع التعريفات السابقة تلتقي عند معنًى واحد, وهو: أنه بالحوالة ينتقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه, ويبرأ المحيل من دين المحال إلا من شذَّ عن ذلك من الفقهاء
مشروعيتها..........
دلَّ على مشروعيتها الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أمَّا الكتاب, فقوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))(), و«الحوالة» من قبيل البرِّ، وقوله تعالى: ((وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(), وهي أيضًا من قبيل الخير، ونحو ذلك من النصوص الدَّالة على المعروف.
أمَّا السنة، فما الصحاح() من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء, فليتبع», وفي لفظ أحمد: «من أحيل بحقه على مليء, فليحتل» الحديث().
قال القاضي عياض, وغيره: «المطل»: منع قضاء ما استحق أداؤه.
فمطل الغني ظلم وحرام، ومطل غير الغني ليس بظلم ولا حرام؛ لمفهوم الحديث؛ ولأنه معذور، ولو كان غنيًّا, ولكنه ليس متمكنا من الأداء؛ لغيبة المال أو لغير ذلك جاز له التأخير إلى الإمكان, وهذا مخصوص من مطل الغني أو يقال: المراد بـ«الغني»: المتمكن من الأداء, فلا يدخل غير المتمكن فيه.
وقال بعضهم: في الحديث دلالة لمذهب مالك, والشافعي, والجمهور: أن المعسر لا يحلُّ حبسه, ولا ملازمته, ولا مطالبته حتى يوسر.
* هل يفسق المسلم بسبب المماطلة؟
اشترط الشَّافعية لفسقه بسبب المماطلة: أن تتكرر منه المماطلة, وجاء في الحديث الآخر الذي لم يخرجه مسلم: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»() الحديث.
والـ«لي» هو: المطل، «الواجد»: الموسر.
قال العلماء: يحلُّ عرضه، بأن يقول: ظلمني، ومطلني.
وعقوبته: الحبس والتعزير() .
أمَّا الإجماع:
فقد أجمعت الأمة على مشروعيتها في الجملة.
أمَّا القياس:
فبالقياس على الكفالة – الضمان بجامع المعروف في كل()،وقد قال ابن القيم(): "الحوالة توافق القياس", ونقل عن ابن تيمية: أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدَّين عن الدَّين الذي في ذمة المحيل، ولهذا ذكر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الحوالة في معرض الوفاء, فقال في الحديث الصحيح: «مطل الغني ظلم, وإذا أتبع أحدكم على مليء, فليتبع», فأمر المدين بالوفاء, ونهاه عن المطل, وبيَّن أنه ظالم إذا مطل، وأمر القريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء.
حكم الحوالة
اختلف الفقهاء في حكم الحوالة على رأيين:
الرأي الأول:
وهو جمهور الفقهاء، ومضمونه: أن الحوالة مستحبة، ومندوب إليها جوزت؛ لحاجة الناس على خلاف القياس، وقال بذلك الحنفية, والمالكية, والشَّافعية, والحنابلة في رواية.
وإن كان الأصل الذي بني عليه هذا الحكم عند هؤلاء مختلف, وذلك على النحو التَّالي:
الحنفية: يقول الكمال بن الهمام(): "أكثر أهل العلم على أنها مستحبة؛ لأن هذا مأخوذ من حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-: «مطل الغني ظلم, وإذا أتبع أحدكم على مليء, فليتبع».()
ووجه الاستدلال: يكمن في قوله -صلى الله عليه وسلم- : «فليتبع» أمر بالاتباع, والإتباع بسبب ليس بمشروع, ولا يكون مأمورًا به من الشارع, فدلّ على جوازها استحبابها.
ويضيف ابن الهمام: "والحق الظاهر أنه أمر إباحة, فهو دليل على جواز نقل الدَّين شرعًا أو المطالبة, فإن بعض الأملياء عند من اللد والخصومة، والتعسير ما تكثر به الخصومة والمضارة، فمن علم من حاله هذا لا يطلب الشارع اتباعه بل عدم الأمر أولى لما في الاتباع من تكثير الخصومات والظلم، وأمَّا من علم من الملاءة, وحسن القضاء, فلا شك في أن إتباعه مستحب؛ لما فيه من التخفيف على المديون, والتيسير عليه, ومن لا يعلم حاله, فمباح إتباعه", وهذا تفصيل جيد ومقبول.
ثم قال: "لكن لا يمكن إضافة هذا التفصيل إلى النص؛ لأنه جمع بين معنيين مجازيين للفظ الأمر في إطلاق واحد، فإن جعل للأقرب أضمر معه القيد، وإلا فهو دليل الجواز للإجماع على جوازها دفعًا للحاجة".
المالكية:
قال القاضي عياض: "هي: مندوبة، وقيل: مباحة(), والذي قال بأنها «مندوبة»: هم أكثر شيوخ المالكية، وقال البعض هي: مباحة, ووجه الأول: أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس محمولاً على غيره, ولهذا ندب الشارع إليه.
ووجه الثاني: أنها مستثناة من بيع الدَّين بالدَّين، فهي في الحقيقة بيع دين بدين؛ لأن المحيل باع الدَّين الذي له على المحال عليه من غريمه بدينه الذي كان عليه, فلما كانت هكذا, فهي بيع دين بدين استثنى من النهي, والأمر بعد الخطر إباحة، وجاز تأخير القبض رخصة من الشارع".
الشافعية:
بناء على أنها بيع دين بدين في الأصح جوّزت على خلاف القياس للحاجة، والحاجة مُنَزَّلة مَنْزِلة الضرورة، إذن هي مباحة, واستثنيت من منع بيع الدَّين بالدَّين كـ«القرض».
وعلى مقابل الأصح: من أنها استيفاء حق، وضعت للإرفاق, وكأن المحتال استوفى ما كان له على المحيل, وأقرضه المحال عليه، ولهذا يشترط رضا المحال عليه بناء على أنها استيفاء؛ لأن إقراض الغير لابد فيه من رضاه به، والأصح عدم اشتراط رضاه, وإذا كان الأمر كذلك, فـ«حكمها»: أنها مندوبة؛ لأن عقود الإرفاق مندوب إليها, وكذلك القرض().
الحنابلة:
يقول ابن قدامة, وغيره(): "أجمع أهل العلم على جوازها في الجملة", وهذا بناء على الصحيح من مذهب الحنابلة من أنها: عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمولٍ على غيره، فتكون مندوبًا إليها.
أقول: من خلال استعراضنا لآراء جمهور الفقهاء عُلِمَ منها أدلتهم على عدم الوجوب أضف إلى ذلك: أن الحوالة معروف, ومكارمة من الطالب كـ«الكفالة» و«القرض» و«العرايا»(), فبذلك تعين صرف الأمر في الحديث: «فليتبع» عن الوجوب إلى الندب().
الرأي الثاني: وبه قال الإمام أحمد بن حنبل بشروط الإحالة على مليء, وابن حزم الظاهري, ومن وافقهما, وهو: أن الحوالة واجبة().
وحجة هؤلاء في هذا: اتباع ظاهر النص في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتبع أحدكم على مليء, فليتبع» الحديث.
وستأتي مسألة: هل يجبر المحال على قبول الحوالة أم لا؟.
قال الشوكاني(): "والحديثان يدلان على أنه يجب على من أحيل بحقه على مليء أن يحتال, وإلى هذا ذهب أهل الظاهر, وأكثر الحنابلة, وأبو ثور, وابن جرير, وقال بهذا المعنى الصنعاني"(). وقال: "لا أدري ما الحامل على صرفه عن ظاهره".
وقد أجيب على ذلك بالآتي:
القول بالوجوب مخالف للقواعد؛ لأنه قد يحيله على من يؤذيه، أو لا يقدر عليه، أو يحيلك الذي أحلت عليه على غريمه كذلك إلى غير نهاية.()
وقال ابن شداد في «دلائل الأحكام»(): الفائدة الثانية (من الحديث) أن قوله -صلى الله عليه وسلم- : «فليتبع» ليس على وجه الوجوب بل على وجه الإباحة إن شاء احتال, وإن شاء لا يقبل.
وقال الكمال بن الهمام(): والحق الظاهر أنه أمر إباحة, وهذا دليل جواز نقل الدَّين شرعًا، أو المطالبة، فإن بعض الأملياء لديهم من اللدد في الخصومة, والتعسير ما تكثر به الخصومة مما تخرج معه الحوالة عن غايتها وهدفها, فمن علم من هذا حاله لا يطلب الشارع اتباعه بل عدمه لما في اتباعه من تكثير الخصومات والظلم.
منقول