المسيَّب مدينة فراتية جميلة ، وهي مركز قضاء يتبع محافظة بابل إدارياً ، وقد اختلف المؤرخون في معرفة أصل تسميتها ، وتعددت آراؤهم ، ولعل أقدم من تعرض لهذا الأمر - حسب اطلاعنا - هو الرحالة عمانوئيل فتح الله عمانوئيل حين مرّ بها ، ونشر تفاصيل سياحته سنة 1911م ، فقال : ((وسميت هذه البلدة باسم المسيَّب بن نجبة الفزاري وكان من أصحاب علي بن أبي طالب وخيارهم)) ، وأضاف نقلاً عن تأريخ الطبري ((وكان قد قتل يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى سنة 65 هـ في وقعة عين الوردة )) ، ثم استدرك قائلاً : ((ولكن لا نظن أنه
دفن في هذا الموطن ، وإنما بني له مزار فسمي باسم المزار)) ، وأغلب الظن أنه سمع هذا الرأي من أهل المدينة أنفسهم عند نزوله فيها ؛ إذ أنهم نسجوا - وهم الموالون لأهل البيت عليهم السلام - في مخيلتهم الشعبية أن اسم مدينتهم يعود إلى أحد أشهر قادة التوابين وهو التابعي الجليل المسيَّب بن نجبة الفزاري ، ونسبوا له قبراً قيل إنه يقع قريباً من ضفة النهر اليسرى في بداية دخول نهر الفرات للمدينة ، وقد جرفته مياه النهر مع غيره من الأبنية قبل ما يزيد على قرن من الزمان .
ولقد شاع هذا الرأي واشتهر كثيراً بسبب تبني المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني له ، وانتشار مؤلفاته المقروءة بين الناس مثل (رحلة في العراق أو خاطرات الحسني) الذي طبع ثلاث مرات في عقد العشرينات ، و(موجز تأريخ البلدان العراقية) الذي طبع مرتان في عقد الثلاثينيات ، والأهم في كتبه وأكثرها شهرة (العراق قديماً وحديثاً) المطبوع للمرة الأولى سنة 1948م ، وأعيد طبعه مرات عديدة لاحقة ، ثم لمتابعة مؤلفين آخرين لقوله ونقلهم حرفياً عنه ، ومن جملة هؤلاء : عبد الستار البعاج ، ومحمد طاهر توفيق ، وجمال بابان ، وغيرهم ، فضلاً عن تكرار نشره في الصحف والمجلات المحلية.
وجوبه هذا الرأي باعتراضات كثيرة ، وكان الدكتور مصطفى جواد من أشد المعترضين عليه ، ورجّح ((أنها سميت باسم المسيَّب أخي دبيس بن صدقة المزيدي صاحب الحلة)) ، وتبادل الردود مع السيد الحسني حول أصل التسمية كما مثبت في الطبعات اللاحقة من كتاب الأخير ، وهناك من ناصر الدكتور مصطفى جواد في رأيه ، وربط بينه وبين نخوة يتنادى بها أهالي المدينة وهي (أولاد جيس) ، ورآها محورة من لفظة (قيس) ، وتشبه ما يتنادى به أبناء عمومتهم أهل الحلة بأولاد (دبيس) ، وكلاهما (قيس ودبيس) هما أولاد الأمير صدقة المزيدي مؤسس مدينة الحلة سنة 495هـ على حدّ قولهم .
بينما تعجب الأديب والباحث عبد الحميد الدجيلي من قول السيد الحسني أيضاً ، وأنكر عليه تعليله لتسمية بلد ووقت بنائه لمجرد ورود اسم رجل في التأريخ والحوادث ، ورأى أن البلدة حديثة التكوين لا تتعدى العصر العباسي الأخير في قدمها ، وقد كونتها المواصلات التي كانت ولا تزال تقع بين بغداد وكربلاء لذهاب الزائرين ورجوعهم ، وقد كانت هذه البلدة حتى زمن قريب - كما قال - يبيت فيها المسافرون ، ويستجمعون قواهم للبكور إلى كربلاء ، وأضاف الدجيلي ((أما سبب تسميتها فاعتقد أنه من جريان الماء وانسيابه ، وهذا التعبير كثير الاستعمال في العراق قديماً وحديثاً)) .
وللتوضيح نقول إن المسيَّب بن نجبة الفزاري وهو تابعي جليل من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، خرج ثائراً في الكوفة مع جموع التوابين على الحكم الأموي وكان القائد الثاني لهم بعد الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي في معركة عين الوردة سنة 65هـ ، وقد استشهد فيها مع غيره من القادة والجنود رضوان الله تعالى عليهم جميعاً في تلك المعركة ، وتقع منطقة عين الوردة قرب مدينة البصيرة السورية في الجزيرة عند ملتقى نهر الخابور بعمود نهر الفرات .
وقد خالف الباحث المعروف فؤاد جميل الآراء السابقة حينما سئل عن أصل تسمية (المسيَّب) ، وقال ((نسترجح ولا نقطع أن المسيَّب سميت باسم المسيَّب الأمير العقيلي)) ، وأضاف ))ودولة بني عقيل تأسست في منطقة الموصل ، وامتدت إلى بغداد وجنوبها حيث بليدة المسيب الحالية)) .
وأعقبهم الشيخ علي القسام برأي جديد ذكره في كتابه (السفر المطيب) المطبوع سنة 1974م ، أعتقد فيه أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى نهر السيب المندرس ، وهو رأي قريب من قول الدجيلي الآنف الذكر من دون أن يطلع عليه ، وقد أيده عدد من الباحثين فيما بعد ، واعتمد رسمياً في كتب الأدلة الحديثة ، وممن أيد هذا الرأي الباحث أحمد زكي الأنباري ، وأشار إلى مدينة السيب التأريخية التي اضمحلت واختفت بعد ظهور مدينة الحلة ، وإلى قيام مدينة المسيب الحالية إلى الغرب منها ، أما أبرز الانتقادات التي وجهت لهذا الرأي فهو أن اسم (المسيَّب) أثقل من اسم (السيب) وأكثر حروفاً منه بينما الناس تميل عادة للتخفيف واختصار عدد الحروف عند اشتقاقهم للأسماء .
هذه هي مجموعة الآراء للمؤرخين الثقاة حول أصل تسمية مدينة المسيَّب ، وكلها جديرة بالاحترام ، وتستحق المزيد من البحث العلمي والدراسة المتأنية ، وعلينا أن نؤكد هنا أن المدينة هي حديثة التكوين ظهرت في القرن الرابع عشر الميلادي ، ولم يرد لها ذكر في كتب الجغرافيين العرب القدامى أمثال ابن واضح اليعقوبي في (البلدان) ، وياقوت الحموي في (معجم البلدان) ، وعبد المؤمن البغدادي في (مراصد الاطلاع) ، وأبي عبيد البكري الأندلسي في (معجم ما استعجم) ، وغيرهم ، كذلك خلت كتب الرحالة الأوائل كابن بطوطة وابن جبير وغيرهما من الإشارة لها لعدم وجودها في أيامهم .
وقد وهم من ظن أن ياقوت الحموي ذكرها في معجمه ، وأوقع من تبعه ونقل عنه في هذا الوهم الكبير ، إذ أدرج ياقوت (المَسِـِيب) ، وهو اسم وادٍ في الجزيرة ، وضبط حركات حروفه ، فقال ((المَسِِـيب : (بالفتح ثم الكسر ، وياء ساكنة ، وباء موحدة) يجوز أن يكون من السيب وهو العطاء أو من السيب وهو مجرى الماء ، وهو اسم واد ٍ) أ.هـ ، فما هي علاقة مدينة (المُسيَّب) على وزن (مُفعّل) كـ (مُعَظّم) بوادي يدعى (المَسِِـيب) على وزن (فعيل) الواقع في الجزيرة ؟! وكان الكاتب حميد المطبعي أول من وقع بهذا الخطأ الفادح حينما نشره في الصحافة المحلية أواخر الثمانينيات ، ثم أوقع الآخرين فيه ممن اعتمدوا قوله على عجلة من دون تدقيق وتمحيص .
ومن الآراء الغريبة وربما الطريفة في نسبة تسمية المسيَّب ، ما يتناقله بعض العامة من الغرباء ويكثرون من ترديده وينشرونه في مواقع الانترنيت من دون مراجعة أو تثبت ، إذ ينسبون التسمية إلى التابعي سعيد بن المسيِّب (بعضهم يخلط بينه وبين المسيَّب بن نجبة الفزاري) ، بل ومنهم من يزعم بلا دليل أو رجوع إلى مصدر دفنه فيها ، أو يلفق قصة عجيبة تقول أن أحد الخلفاء العباسيين مرّ بهذا المكان فأعجب بجمال منظره ، واستذكر سعيداً وأحبّ أن يكرمه ، فأطلق اسمه عليه !! والحقيقة أنه لا توجد أدنى علاقة بين (المسيَّب) المدينة وبين (سعيد بن المسيِّب) التابعي والفقيه ورواية الحديث الشهير سوى مصادفة تشابه حروف الاسمين كما هي الحال مع سلسلة طويلة من الأعلام الذين تزخر بهم كتب التراث العربي ، كالشاعر الجاهلي المسيب بن علس ، والمسيَّب بن بشر الرياحي من أصحاب المهلب بن أبي صفرة ، والمسيَّب بن رافع الفقيه ، والمسيَّب بن واضح المحدث ، وللفائدة نضيف هنا أن (المسيِّب) والد سعيد يلفظ بالياء المشددة المكسورة ، ويروى عن سعيد دعاؤه "سيَّب الله من سيَّب أبي" يقصد من قرأ ياءه مفتوحة وجعله أسماً مفعولاً وليس فاعلاً ، بينما تلفظ (المسيَّب) المدينة بالياء المشددة المفتوحة ، كما أن المصادر كافة تجمع أيضاً على أن التابعي سعيد بن المسيِّب ولد وعاش ومات في المدينة المنورة سنة 94هـ ، ودفن فيها .
أخيراً لابد من القول إن استمرار اختلاف الآراء في أصل تسمية مدينة المسيَّب ، وعدم حسمه بدليل قاطع أثار الانتباه ، واستوقف الباحثين ، بل شجع بعضهم للخوض في غماره ، فكتب الدكتور قيس كاظم الجنابي (المسيب في كتابات المحدثين) ، ونشر الباحث أحمد مجيد (المسيَّب والقول في تسميتها) وهو يميل إلى رأي أن المدينة سميت باسم رجل يدعى (المسيَّب) عاش في هذا المكان ودفن فيه ، ويعتقد أن (المسيَّب بن صدقة المزيدي) هو الأقرب تأريخياً لظهور مدينة المسيَّب ما لم يتوفر الدليل الحاسم على وجود رجل آخر بهذا الاسم دعيت باسمه المدينة .
المصدر : موقع مركز النور