صناعة الموسيقى ..
ان الصنائع كلها استخرجها الحكماء بحكمتهم , ثم تعلمها الناس منهم , وبعضهم من بعض , وصارت وراثه من الحكماء للعامه , ومن العلماء للمتعلمين , ومن الاساتذه للتلامذه , فصناعة الموسيقى استخرجها الحكماء بحكمتهم , وتعلمها الناس منهم , واستعملوها كسائر الصنائع في اعمالهم ومتصرفاتهم بحسب اغراضهم المختلفه , فاستعملها اصحاب النواميس الالهيه في الهياكل وبيوت العباده , وعند القراءه في الصلوات , وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء , كما كان يفعل داود النبي _ عليه السلام _ عند قراءة مزاميره , وكما يفعل النصارى في كنائسهم , والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمه ولحن القراءه , فان كل ذلك لرقة القلب ولخضوع النفوس ولخشوعها , والانقياد لاوامر الله تعالى ونواهيه , والتوبه اليه من الذنوب , والرجوع الى الله _ سبحانه وتعالى _ باستعمال سبب النواميس كما رسمت ,
اعلم ان احد الاسباب التي دعت الحكماء لاستعمالها هو ما لاح لهم تحاويل السنين من الغلا او الرخص , او الجذب او الخصب , او القحط او الطاعون والوباء , او تسلط الاشرار والظالمين , وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الايام , فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيله تنجيهم منها ان كانت شرآ , وتوفر حظهم فيها ان كانت خيرآ , فلم يجدوا حيله انجى ولا شيئآ انفع من استعمال سنن النواميس الالهيه التي هي الصوم والصلاة والقرابين والبكاء والسؤال اياه ان يصرف عنهم ذلك , ويكشف ما قد اوجبته المناحس والبلاء ,وكانوا لا يشكون انهم اذا دعوا الله تعالى بالنيه والاخلاق ورقة القلب والبكاء والتضرع والتوبه والانابه , ان يصرف عنهم ما يخافون , ويكشف عنهم ما هم مبتلون به , ويتوب عليهم , ويغفر لهم , ويجيب دعاءهم , ويعطيهم سؤلهم , وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءه الحانآ من الموسيقى تسمى (( المحزن ))وهي التي ترقق القلوب اذا سمعت , وتبكي العيون , وتكسب النفوس الندامه على سالف الذنوب , واخلاص السرائر واصلاح الضمائر , فهذا كان احد اسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى ,
واستخرجوا ايضآ لحنآ اخر يسمى (( المشجع )) واستعمله قادة الجيوش في الحروب , يكسب النفس شجاعه واقدام , واستخرجوا لحنآ اخر يستعمل عند المصائب والاحزان والغموم في المآتم , يعزي النفوس ويخفف الم المصائب , وكذلك لحنآ اخر يستعمل عند الاعمال الشاقه والصنائع المتعبه مثل ما يستعمله الحمالون والبنائون وملاح الزوارق واصحاب المراكب , يخفف عنهم كد الابدان وتعب النفوس ,واستخرجوا لحنآ آخر عند الفرح واللذه والسرور في الاعراس والولائم وهي المعروفه المستعمله في زماننا هذا , وقد تستعمل الموسيقى للحيوانات ايضآ مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في الاسفار وفي ظلم الليل , لينشط الجمال في السير ويخفف عليها اثقالها , ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيبآ لها في شرب الماء , والحانآ اخر عند حلبها لتدر البانها , وتستعمل النساء للاطفال الحانآ تسكن البكاء , وتجلب النوم ,
قد تبين ان صناعة الموسيقى يستعملها كل احد من الامم , ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السمع , وان للنغمات تاثيرات في النفوس الروحانيه , فنقول الموسيقى هي الحان مؤلفه , واللحن نغمات متواتره , والنغمات هي اصوات متزنه , والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الاجسام بعضها ببعض , وللحديث بقيه .. والحمد لله رب العالمين