المستنقع السوري
موقفنا الشرعي والسياسي
عباس الزيدي / النجف الأشرف 31 / 7 / 2013
حالة الفوضى التي نشهدها في عالمنا اليوم ليست وليدة المصادفة، خاصة أن هذه الفوضى تمت شرعنتها وأصبح الدخول في خضمها بدافع ديني صرف، وانتقلت النزاعات من مشاكل سياسية الى جهاد وفتاوى، وهذا ما نعيشه يومياً في العراق فقد أصبح القتل حالة اعتيادية لا تثير عند المستمع أي استغراب مهما كانت بشاعة هذه الجرائم، وليس هذا الأمر خاص بالعراق فمن باكستان وأفغانستان الى سوريا، وبدرجة أقل في مصر وليبيا وربما تونس في مرحلة لاحقة، ولو عدنا قليلاً بالزمن الى منتصف التسعينات فسنسترجع جرائم القتل الجماعي التي مورست بحق المسلمين في البوسنة والهرسك وبعدها في كوسوفو، وماجرى من نزاع دموي في الجزائر، فضلاً عن الحرب العراقية الإيرانية التي استنزفت قرابة مليون ومأتين وخمسين ألف قتيل من الطرفين، وقام الغرب بمعسكريه السابقين بدعم طرفي النزاع بمختلف أنواع الاسلحة وجعل النزاع يبقى على حال واحدة وعدم انتصار طرف على الآخر فالمهم هو استنزاف الطرفين وبيع أكبر مقدار ممكن من الأسلحة لكي لا يستفيد الطرفان من ثروات البلاد لتطويرها وجعلها تستقل مع الوقت عن الحاجة الى الغرب، كما أن أهم أهداف هذه الحرب الأساسية هي القضاء على الأجيال الجديدة التي ولدت في العالم الجديد والتي يصعب السيطرة عليها وربما ستتمكن يوماً من الوثوب الى السلطة كما حصل في مصر وتونس. ثم تلاها غزو النظام العراقي السابق للكويت التي كانت نتيجتها تدمير الجيش العراقي وتمَّ إكمال المهمة في حرب 2003 وإلغاء الجيش العراقي ووزارة الدفاع من قبل الحاكم الأمريكي في العراق بول برايمر، ومنذ ثلاث سنوات وثورات الربيع العربي تتصدر المشهد والتي شهدت ثورتين نظيفتين في تونس ومصر، وثورة مدفوعة الأجر في ليبيا، ثم حرب مرتزقة لا زالت تجري في سوريا، ومنذ سنوات أشار سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي من النجف الأشرف الى مفهوم (الفوضى الخلاقة) وهو مفهوم غربي ليس بجديد ولكن تم تفعيله بوضوح في السنوات المتأخرة، وحاصل هذا المفهوم أن صناعة الفوضى تتم أولاً عن طريق دعم أحزاب أو منظمات تحمل عناوين دينية ومن كل المذاهب الإسلامية، وأوضح مصاديق هذه الأحزاب هو تنظيم القاعدة بكل مسمياته، والذي ولد من رحم بريطاني ـ سعودي يحمل عنوان (الوهابية) وهي فرقة متطرفة تتبنى مبدأ التكفير لكل أطياف وطوائف المسلمين فضلاً عن غير المسلمين، وكانت الوهابية منذ تأسيسها تقوم بعمليات إلغاء الآخر واستباحة دمه وماله وعرضه، ومنذ تأسيسها قبل حوالي 100 عام قامت بالكثير من المهام ابتداء من هدم أضرحة أئمة الشيعة وغيرهم في الحجاز ومروراَ بالغارات التي قاموا بها ضد الجنوب العراقي ومهاجمة وحرق أكثر من ضريح، ثم تطور هذا التنظيم بعد فترة من الكمون لغايات غربية وظهر أخيراً في النزاع في أفغانستان على حين غفلة من الجميع باستثناء الغرب، وكان النزاع هناك تحت عنوان مواجهة الشيوعية الكافرة في أفغانستان والقضاء أخيراً على حكومة نجيب الله الموالية لموسكو، وأصبح الجوكر الأمريكي في المنطقة، فتحت عنوان الجهاد قامت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بدفع هذا التنظيم الى التوسع للقيام بأعمال قتالية في الشرق المسلم، ووصل الأمر اليوم الى الشرق الأدنى حيث وجدت إسرائيل نفسها وسط أنظمة عميلة بدأت تشيخ مع قوة عسكرية لا يستهان بها، وحرصاً من الغرب على عدم وصول هذه القوة العسكرية الى أيدي أنظمة غير عميلة يقودها الشباب الواعي المستنير، ولتمرير مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أشرف هنري كيسنجر عليه نظرياً، وهو تمزيق البلاد العربية والإسلامية ووضع حدود جديدة، وهنا تأتي مقولتهم (إن هذه الحدود الحالية للبلاد العربية والاسلامية نحن وضعناها فيمكن تغييرها) فمن قبل كانت بلاد الشام واحدة والصلة بين الشام ومصر مترابطة وكان يمكن للعراقي أن يسافر الى أي البلدان من دون حواجز، حتى جاءت الحرب الثانية (وبمناسبة هذه الحرب فإن تسميتها بالعالمية تأتي وفق سياق أن الغرب إذا قاتل فقد قاتل العالم بأسره وفي الواقع أنها ليست حرباً عالمية فالبلاد الإسلامية لم تشارك فيها والصين وشرق آسيا لم يكن طرفا فيها وأمريكا الشمالية والجنوبية لم تشارك حتى دخلت أمريكا طرفا، فهم يقولون نحن العالم والباقي تابعون تلقائياً لنا)، اما الشرق الجديد فهو تقسيم العراق (وبه كانت البداية) الى ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية، والبصرة لن تدخل ضمن هذه الدويلة الشيعية بل ستكون عاصمة دويلة أخرى تشمل الكويت والأهواز والمنطقة الشرقية من الحجاز (الإحساء والقطيف)، وأحب أن ألفت نظر القارئ الى أن يشاهد الآن قناة BBC البريطانية الناطقة باللغة العربية فسيرى أن البصرة مستمرة الظهور خلف المذيع بتواصل طوال اليوم، ونعلم أن آخر برميل نفط في العالم سيخرج من هذه المنطقة، فمن المهم أن يكون هذا البحر من النفط تحت أيدي أمينة عميلة للغرب، أما مصر فتقسم الى شطرين قبطي ومسلم، أما سيناء فستكون المستوطنة الدائمة لدويلة تجمع الشتات الفلسطيني، ونقطة ارتكاز للقاعدة لتلقي بها أمريكا بوجه كل متمرد على مشروعها. أما سوريا فيمكن تقسيهما الى ثلاث دويلات كردية وسنية وعلوية (كما هو الحال اليوم بوضوح)، وعندما ثار الشعب العراقي بوجه نظام صدام في آذار عام 1991 وسقطت كل محافظات الجنوب والشمال بيد الثوار بعد حرب غزو الكويت، أطلقت أمريكا يد النظام وبعد أن كانت قد حظرت عليه الطيران سمحت له به ليقمع الانتفاضة، ويا حبذا لو راجعنا الكتاب التوثيقي المهم (الحرب على العراق 1990 ـ 2003، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية) وسنرى الوثائق الصريحة التي دعمت فيها أمريكا النظام العراقي للقضاء على انتفاضة غير مرخصة من قبلها. ولكن ما يمكن أن يفعله صدام المجرم لم يكن ليفعله زين العابدين بن علي أو محمد حسني مبارك فقد أصبح الزمن غير الزمن ولم يكن بإمكان امريكا أن تطلق أيديهما على شعبي مصر وتونس لأمرين الأول أن الشعوب لم تعد كما كانت والثاني أن الجيش لم يكن ليستجيب لمثل هذا الطلب، وخاصة الجيش المصري وهو يختلف جذرياً عن الجيش العراقي الذي كان طائفياً بامتياز، فكل الرتب العليا والحرس الجمهوري والحرس الخاص كانت أزمته بيد أبناء طائفة النظام، وهي صفة ليست موجودة في الجيش المصري، إضافة الى وجود التواصل بين الجيش المصري والشعب وهو ما لم يكن متوفراً في الجيش العراقي بوضوح.
وصل المطاف بنا الى سوريا فمما لا شك فيه أن النظام السوري نظام دكتاتوري قمعي، وقد ساهم هذا النظام بذبح عشرات الآلاف من العراقيين بعد سقوط النظام عام 2003، فقد كان النظام السوري يشرف على تدريب الآلاف من قطعان تنظيم القاعدة وبتمويل خليجي بامتياز، وكما نعلم ففي السياسة لا يوجد صديق دائم أو عدو دائم ولكن توجد مصالح دائمة، فانقلبت أموال الخليج لدعم القاعدة والاخوان للقيام بثورة ضد نظام الأسد، وقد بدأت أحداث سوريا بتظاهرات صغيرة (ربما كانت مدفوعة الأجر) فقمعها النظام ومن ثم اتسع الأمر وحشدت عشرات الآلاف من الجهاديين عبر تركيا والأردن ليحصل ما نراه اليوم من اقتتال دموي لن ينقضي حتى يتم تدمير الجيش السوري والبنى التحتية برمتها، كما أن الأسلحة التي تورد للطرفين سيكون المستفيد منها كلما طال أمد القتال كل من أمريكا وأوربا وروسيا، ناهيك عن فائدة مهمة وهي تخلص عدد من البلدان من المتطرفين، فكل الدول تدفع الراغبين في القتال الى المستنقع وتقوم بتسهيل مهمة الذهاب بتذكرة ذهاب دون عودة ومن يفكر بالرجوع فإما يكون مصيره السجن أو القتل كما حصل في الأردن وتركيا للذين ندموا على تورطهم، واليوم نرى المئات من الشباب العراقيين يسألون عن الجواز الشرعي للذهاب الى سوريا تحت مسوغ (الدفاع عن ضريح السيدة زينب بنت علي "عليهما السلام")، ولكي يتضح موقفنا ونصيحتنا لكل الشباب المندفع، فإن مقابل عنوان الدفاع عن الضريح يوجد عنوان مقدس آخر وهو الدم وحرمة المؤمن، روى الشيخ المجلسي في بحار الأنوار ج 15 : روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نظر إلى الكعبة فقال : مرحبا بالبيت ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله. والله للمؤمن أعظم حرمة منك، لأن الله تعالى حرم منك واحدة، ومن المؤمن ثلاثة : ماله، ودمه، وأن يظن به ظن السوء. وعن الصادق (عليه السلام) : المؤمن أعظم حرمة من الكعبة. ونحوه عن الباقر (عليه السلام). وقال الصادق (عليه السلام) : والله إن المؤمن لأعظم حقا من الكعبة.
وروى ابن ماجه في سننه 2 : 1297، عن عبد الله بن عمرو، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : ما أطيبك وأطيب ريحك. ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك. ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيراً. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 292 والطبراني 11 : 31 عن ابن عباس بلفظ مقارب.
فلا بد أن نترك القرار وتقدير الموقف الصحيح الى المرجع المخلص العارف بزمانه الذي لا تهجم عليه اللوابس كما في الحديث الشريف وهو الذي يقدر ما يجب فعله كما أن سيد العرب العظيم عبد المطلب بن هاشم حينما دهم جيش الحبشة مكة لغرض معلن وهو هدم البيت الحرام، فقال مقولته الخالدة (للبيت رب يحميه)، وهل نسيت الشيعة ما قام به المتوكل العباسي من هدم قبر الامام الحسين وحرثه وإفاضة الماء عليه ليخفي أثره، وهذا الحدث كان في عصر الإمام الهادي (عليه السلام) ولم يفتِ الإمام الهادي بالجهاد، ونعلم أن قبر الإمام الحسين أفضل من ضريح السيدة زينب بلا شك. وهل نسينا تهديم آل سعود والوهابية لقبور أئمة البقيع وهم أهم وأجل شأناً من السيدة زينب فهل أفتى علماؤنا بالجهاد حينها؟.
إن مايحصل في سوريا تتمة للمشروع الأمريكي وهو حرب بالوكالة نيابة عن أطراف سياسية وليست دينية، وليس علينا أن نكون وقوداً لها، كما أني أوجه سؤالي لمن يدفعون بالشباب الى هذه المحرقة، إذا كان القتال في سوريا جهاداً فلماذا لا تتكرمون علينا بقيادة الجمع مع أبنائكم بدلاً من سوق أبناء الجنوب إليه؟، أم أن شعاركم القديم (سنقاتل الأمريكان حتى آخر قطرة دم عراقي).
إن ما يحصل في سوريا فتنة تستهدف إشعال المنطقة وخلق فوضى تكون نتيجتها تفريغ البلاد من الشباب المتحمس وإبقاء السياسيين المنفعين والمتفقين مع الولايات المتحدة باتفاقات لقاء بقائهم في السلطة، ومن هنا لا أنزه أي سياسي موجود في السلطة مهما كانت دعواه، فإن المعركة الحاسمة (وهي ليست معركة بالسلاح) قادمة وستكون قريباً منكم فلا تتسرعوا، وكونوا ذخراً لبلادكم وعليكم أن تفوتوا الفرصة على المستعمرين والمنتفعين، وإن هذه الفتنة تستهدف خلق عداء دائم بين أبناء الدين الواحد أو البلد الواحد، سواء كانوا من السنة أو الشيعة أو المسلم والمسيحي، واتركوا الذين تورطوا بهذه المحرقة يكتوون بنارها ومن زعم أنهم سيقدمون الى العراق بعد ذلك فهو كاذب لأن أذنابهم موجودون من البداية ويمارسون أفعالهم الاجرامية التكفيرية، أما لو جربوا القدوم بحشود إلينا فسيجدون شباباً قلوبهم كزبر الحديد، ولا ننسى أن تنظيم القاعدة الذي تجمع في العراق تعرض لأكبر خسارة في المواجهات التي دارت سواء في بغداد أو بابل وغيرها، وعلينا أن ندعم الجيش العراقي ليقوم بمهمته على أكمل وجه، فمن الضروري أن نعي أننا لا نملك جيشاً بالمعنى الفعلي فلا طائرات ولا دبابات أو أسلحة تستطيع أن تدفع أي اعتداء خارجي، وهو أمر تمت دراسته وتأكيده من قبل أمريكا وأذنابها، وهنا أذكركم بتصريح لأنتوني ليك مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بيل كلينتون سنة 1993 حيث قال وبوضح (إن الأصوليين سيصلون الى السلطة إن عاجلاً أو آجلاً في العراق فيجب أن يصلوا الى بلد محطم اقتصادياً وعلينا أن ندعهم يعملون في البنى التحتية لمدة عشرين عاماً). وها نحن تجاوزنا عشرة أعوام ولا زالت البنى التحتية تحت الصفر، فلا مصانع ولا طاقة كهربائية ولا زراعة، فهل يعقل في بلد يصدر قرابة ثلاثة ملايين برميل نفط يومياً لا يستطيع لمدة عشر سنوات أن يصلح حال الكهرباء؟، وأخيراً أذكركم بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ((كُن في الفتنة كاْبن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب)). والله من وراء قصد.