خياط بغدادي في محله
العباسية نيوز:خياطو البدلات الرجالية في بغداد وكل أنحاء العراق يشكون من قلة الزبائن ويؤكدون أن حرفتهم باتت مهددة بالاختفاء تماماً بعد أن أصبحت البدلات الجاهزة المستوردة متوفرة في جميع محلات بيع الملابس الرجالية وبمختلف المقاييس وبما يرضي مختلف الأعمار من الشباب إلى الشيوخ.
مدينة بغداد عرفت أمهر خياطي البدلات الرجالية وأكثرهم مهارة على مستوى العراق وكانت سمعتهم باعتبارهم صانعي الأناقة من خلال لمساتهم الفنية الخاصة التي تضفي على البدلة رونقاً خاصاً يخطف الأبصار ويلفت الأنظار على صعيد العائلة والمجتمع.
ولأن الخياطة مهنته تستدعي من محترفيها التمتع بروح فنية اصيلة والانخراط في عالم الجمال وكذلك الإحساس بأن أنجاز البدلة هو يحد ذاته أنجاز فني يتطلب الكثير من الصبر والتروي.
واعتماداً على توفير تلك الاعتبارات والمقاييس لدى الخياطين فأننا نجد أن الكثير من أشهر المطربين والملحنين العراقيين كانوا في الأصل من خياطي البدلات الرجالية حتى بعد أن أصبحوا أسماء لامعة في دنيا الغناء والطرب وأشهرهم محمد نوشي وعبد الجبار الدراجي وسعيد العجلاوي وقاسم عبيد؟
وكان لا بد من معرفة الأسباب الرئيسية وراء اختفاء هذه المهنة التي أصبحت صورة أخرى من صور الماضي الجميل بكل معانيه وتراثه وخبراته الفنية في مختلف المجالات.
أول من ألتقيناه كان شيخ الخياطين أحمد خماس في محله الكائن في شارع الرشيد إلى جانب المكان القديم لأستوديو (بابل) الشهير.
أحمد خماس في نهاية الثمانينيات من العمر وجدناه منكباً على أعداد بدلة في مراحلها الأخيرة ... يدان متعبتان تحاولان تثبيت الإبرة بدقة بمساعدة نظارة سميكة يحاول من خلالها التركيز على المكان المطلوب .. وجدنا محلة خالياً من أي مساعد وبادرناه بالسؤال:
هل تعمل وحيداً ؟
أجابنا والألم يتعصر كلماته: وهل تتصور أن هناك من العمل ما يستدعي وجود آخرين إلى جاني؟ نعم أنا وحدي أتسلى وأتحسر على زبائن الأمس من شخصيات سياسية واجتماعية مرموقة..
الخياط فيصل حسن وجدناه جالساً خارج محله يتأمل الشارع والمارة بنظرات ملؤها الحزن مستذكراً أياماً حلوة عندما كان الزبائن يتزاحمون على المحل وكانت المواعيد تتطلب أشهراً حتى يفرغ من الطلبات الكثيرة إلى درجة أنه كان يضطر أحياناً للاعتذار لعدم قدرته على التجاوب مع طلباتهم.
وماذا عن الحاضر؟
أجابنا بأسى حاله حال زميله أحمد خماس: أي حاضر، مهنة الخياطة تحتضر وهل تتصور أن هناك من يرتدي بدلة تكلفه (250) ألف دينار في تباع البدلة المستوردة من مناشئ مختلفة أشهرها وأكثرها رواجاً التركية بأقل من نصف هذه التكلفة؟
وعن الحل وكيفية إنقاذ هذه المهنة من الزوال تماماً وبالتالي قطع أرزاق مئات العوائل التي تعتاش على الإيرادات المتأتية منها.. قال: الحل يكمن في وضع ضرائب على البدلات المستوردة بحيث تختفي الفروقات بين البدلة الجاهزة والأخرى المفصلة عند خياطي البدلات الرجالية..
أما عن زبائنه القليلين فأوضح: أنهم مازالوا متمسكين بارتداء البدلات وفق مقاييسهم وأذواقهم ولكن في مناسبات خاصة مثل الأعياد وحلول فصل الشتاء وماعدا ذلك فلا يوجد زبائن وبالمعنى الذي كان شائعاً في عقود الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
وفي معرض إجابته عن سؤال حول أشهر زبائنه قال:
أنهم معظم رؤساء الحكومات والوزراء في العهد الملكي مثل فاضل الجمالي وعبد الوهاب مرجان وأحمد المختار بابان وعبد الغني الدلي وعبد الحميد كاظم .. وفي العهد الجمهوري هنالك الرئيس عبد السلام عارف وشقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى وناجي طالب وعبد الرحمن البزاز وجميعهم رؤساء وزارات سابقين.
وعن زبائنه اليوم أجابنا ضاحكاً:
أنهم مجموعة من الشيوخ الذين ما زالوا مصرين على أرتداء بدلات وفق أذواقهم وطبقاً لمقاسات لا تتوفر في البدلات الجاهزة لأنهم يعتبرونها غريبة الشكل ولا تتلاءم مع أعمارهم وهم في سن متقدمة.
وعن كلفة خياطة البدلة أوضح بأنها بين 100 إلى 150 ألف دينار وحسب سمعة ومكانة الخياط وإمكانية زبائنه القليلين.
وتوجهنا إلى شارع السعدون وعرفنا أن الشارع الذي كان يزدحم بأسماء معروفة تمتهن خياطة البدلات الرجالية بات خالياً إلا من أسمين أو ثلاثة بعد أن أقفل الآخرون محلاتهم بسبب الكساد إلى درجة أن مداخلهم القليلة لا تكفي لتغطية تكاليف الإيجار والمتطلبات الضرورية الأخرى.
كاردينيا