كنيسة السيدة العذراء الأثرية
تنفرد هذه الكنيسة ببساطة بنائها ـ بالرغم مما طرأ عليها من تعديلات وترميمات ـ فهى لا تدخل تحت المنهج العلمي للفن المعماري في الآثار القبطية، أو بمعنى آخر إنها انفردت في بنائها المعماري حيث إنه بسيط، غير متكلف ـ من الطوب اللبن ـ والحوائط غير المنتظمة، وعدم وجود أية نقوش زخرفية عتيقة أو رسومات قبطية مرسومة على حوائطها أو الخ وبلا شك هذا يدفع الشاهد المتأمل إلى التعجب ويحّير عالم الآثار، لأن علم العمارة الأثري ـ وخصوصاً العمارة القبطية للكنائس الأثرية ـ له قواعده العلمية لتحديد زمن المباني من طريقة البناء وتقاسيمه الداخلية. أما بساطة مبنى الكنيسة وعدم تعقيده، وعدم تجانسه أدى إلى صعوبة وضع منهج علمي يستنتج منه القيمة الفنية في البناء، كما هو حادث في الكنائس الأثرية عموماً. وقد قام العالم الأثري الشهير فيلادر MONNERT DE VILLARD في أوائل القرن العشرين بعمل دراسة مستفيضة للكنيسة الأثرية بالدير لتحديد تاريخ المبنى وعمل مقارنة بينها وبين كنائس الصعيد الأعلى القديمة وفي نهاية المقارنة استنتج ما يأتي قائلا : إن الكنائس التى عند حافة الصحراء الغربية هى كثيرة الغموض ومظلمة لأن الأبحاث والمقارنات ينقصها الكثير ثم استطرد وقال : فإن البحث عن مثل طراز كنيسة دير المحرق يبوء بالفشل ولنلجأ إذا للتفكير فى نظام آخر فقام الأثري بعمل دراسة مقارنة بين الكنيسة الأثرية والجوامع الأثرية التى داخل مصر، ثم ذهب بالمقارنة إلى خارج مصر فى كنائس وجوامع إيران والعراق ولم يصل إلى فائدة مرجوة، للأختلافات الكثيرة بين المباني، حتى إنه لم يتمكن من تحديد تاريخ إنشاء مبنى الكنيسة علمياً فرجع إلى بعض المخطوطات القديمة واستنتج أن الكنيسة بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي !!
إن هذا الانفراد العجيب في عدم إمكان تطبيق القواعد العلمية بصورة صحيحة على هذه الكنيسة الفقيرة في بنائها لشاهد عظيم على قدمها وأصالتها. وإنه بالرغم ـ مما مرّ عليها من تعديلات ـ يؤكد ويشهد على أنه كان هناك تقليد قوي وروح مؤثرة عبر العصور على الذين عاشوا في هذا المكان، جعلهم يتركون الكنيسة على بساطتها حتى لو رمّموها. ألم يكن في مقدورهم بناء كاتدرائية عظيمة مكانها لتكون مناسبة ومشرّفة لمكانة المكان الذي جاءت إليه العائلة المقدسة وباركته ؟! إن الباحث في معمار الكنائس القديمة في مصر، يجد أن بعض الكنائس بعدما أعيد ترميمها أصبحت تحفة فنية من الفن القبطي البديع، إلا أنه لم يحدث مثل هذا في كنيسة العذراء الأثرية أثناء ترميماتها المختلفة حتى القرن 19 الميلادي ( ماعدا القباب الثلاث ـ أعلى الهيكل ـ التى أنشئت في القرن 16 الميلادي ).
إذا لهو تقليد ثابت قديم ، راسخ في أعماق آباء هذا الدير . وهو عدم تغير الكنيسة بناء على أمر إلهي مؤداه أن تبقى الكنيسة على ما هى عليه شاهدة عبر العصور على اتضاع الابن الوحيد الذي أخذ شكل العبد ليخلص شعبه ( على حسب ما أوضحته السيدة العذراء للبابا ثيؤفيلس 23 ).فالكنيسة كما يشهد التقليد والتاريخ هى البيت المهجور الذي عاشت فيه العائلة المقدسة وبقى على مساحته كما هو حتى القرن 19 . وعندما تحول البيت في العصر المسيحي المبكر إلى كنيسة تم عمل التقاسيم والحواجز المناسبة لطقس الكنيسة، فتم عمل حضن الآب في شرقية الهيكل ـ الذي يرمز لاشتياق الله إلى كنيسته وهر تنتظر مجيئه ـ كما أنشئت حجرتان على جانبي الهيكل. يتضح فيهما البساطة البعيدة عن أي علم أو فن معماري إلا أنهما متطبعتان بالطقس الكنسي الأصيل العريق في القدم. فقد استخدمت الحجرة اليسرى لملابس الكهنة، وهي لذلك بدون باب يفتح على صحن الكنيسة. والحجرة اليمنى فهى لخدمة الشمامسة وبها حفرة في الأرض أسفل الحائط الشرقي مباشرة لتفريغ الشورية بعد انتهاء الصلاة. وحينما أراد عامل البناء القبطي تحويل البيت إلى كنيسة ـ في ذلك الزمان ـ وبناء الأعمدة الأربعة التى تحيط بالمذبح رمزا للإنجيليين الأربعة طبقا للنظام الكنسي ـ فلضيق المساحة، ولأسلوبه الريفي غير المتكلف شكّلها على الحائط الأيمن والأيسر للهيكل وعمل لها تيجاناً على شكل ( بصلة ).
وأهم ما في الهيكل المذبح الحجري، فالمذابح الحجرية عموماً معروفة لدى علماء الآثار بأنها استخدمت منذ عصر مبكر جداً. والتقليد أيضا يؤكد على قدم هذا المذبح حيث أنه هو الحجر الذي جلس عليه السيد المسيح له المجد وهو طفل، وباركه بيمينه الإلهية ليدوم مدى الأزمان والأجيال ولهذا المذبح قصة عجيبة ذكرها المنتيح نيافة الأنبا غريغوريوس نقلاً عن بعض الشيوخ من رهبان الدير ( في الستينات من القرن العشرين ) ان أحد رؤساء الدير في القرن العشرين رأى أن المذبح صغير ولا يتسع للذبيحة المقدسة وأوانيها، فرغب في إزالة المذبح ليقيم مذبحاً آخر أكبر حجماً، فالراهب الذي تناول الفأس إطاعة لأمر الرئيس ، شلت يده عندما ضرب أول ضربة. فصرخ وإمتنع عن مواصلة العمل ولم تعد يده إلى الحركة إلا بعد إسترحام وصلوات ودهنها بالزيت المقدس. فكانت هذه المعجزة عبرة وعظة
ولهذا اهتم نيافة الحبر الجليل الأنبا ساويرس أسقف ورئيس ديرنا العامر بالحفاظ على الوضع الأصيل والأثري لهذا المذبح. حيث لا يوضع على المذبح إلا الأواني المقدسة الخاصة لخدمة القداس الإلهي. أما الشمعدانات فتُوضَع فوق الأرضية حول المذبح.والمذبح على شكل مكعب غير متساوي الأضلاع على سطحه رخامة لها حافة على شكل نصف دائرة ومنقوش عليها كتابة باللغة اليونانية نصها: نيح يارب الطوباوي كلتوس ، تاريخها 15 كيهك سنة 463 ش الموافق 11 ديسمبر سنة 746 م ( حسب التقويم السائد في ذلك الزمان ).وتُعتَبر هذه الرخامة النصف دائرية من الأشكال النادرة التي تنفرد بها المذابح القبطية الأثرية في مصر. وفكرة النصف دائرة هى تقليد قبطي قديم ظهر في الأيقونات التي تمثل العشاء الرباني وفيها المائدة على شكل النصف دائرة.ويلاحظ أيضا أن أبواب الهيكل الداخلية والخارجية وحتى أبواب الكنيسة نفسها كلها منخفضة الإرتفاع مما يجعل المؤمن المار خلالها. يُحنِى هامته خشوعا واحتراماً لبيت الرب ويعتبر الهيكل بحجرتيه والمذبح أقدم ما يوجد حاليا في الكنيسة الأثرية، ومع تعدد الترميمات أصبحت حوائطه سميكة
أما صحن الكنيسة تغيّر في القرن 19 الميلادي عما كان عليه، ولم يتبق من القديم ـ الذي قبل القرن 19 ـ إلا الحائط القبلي الممتد فى الخورسين الأول والثاني فقط. أما بقية الحوائط ـ ( بقية الجزء القبلي في الخورس الثالث والحائط الغربي والحائط البحري) ـ تم إنشاؤها فى القرن 19 الميلادي.ومن الصعب الجزم بأنه كانت هناك قباب قديمة أعلى صحن الكنسية من عدمه.ويشهد التاريخ ـ طبقا للمعلومات التي تم جمعها حتى الان ـ على أن الكنيسة لم تخّرب، ولكن بالطبع يجب أن ترمم من حين لأخر، لأن مبانيها من الطوب الأخضر ( اللبن ). والترميمات التي تم التوصل إليها هى: + فى القرن 16 الميلادي تم الترميم مع بناء القباب الثلاث أعلى الهيكل. + فى القرن 19 الميلادي تم توسيع صحن الكنيسة قليلاً، وبناء القباب السبع أعلى صحن الكنيسة محمولة على حنيات ركنية SQUINCHES وأصبح لصحن الكنيسة ثلاثة خوارس، وهذا هو نفس التقسيم العريق للكنائس في القرون الأولى : وهو خورس السامعين ( أى الموعوظين قبل العماد ) وخورس الباكين ( أو التائبين ) وخورس المؤمنين ( المشتركين فى سر الإفخارستيا ) كما أنشئت الصالة الخارجية يتوسطها عمودان ومغطاة بسقف خشبي وأنشئت على سطحها الكنيسة الحبشية وفي الثلاثينيات من القرن 20 الميلادي تم وضع طبقة من المصيص فى كل مبنى الكنيسة ( داخلها وخارجها ) ووضع البلاط فى أرضيتها وألغيت كنيسة الأحباش حيث تأثر المبنى من الأحمال الزائدة عليه.
حامل الأيقونات ( الأيقونستاسز ) [ الذي يطلق عليه اسم حجاب الهيكل ]
يوجد حالياً في الكنيسة حاملان: الأول وهو أمام الهيكل مباشرة، يحجز بينه وبين صحن الكنيسة، ويرجع إلى القرن 16 / 17 الميلادي وعموماً وعلى حسب قول المؤرخ الكنسي الأنبا يوساب أسقف فوه في تاريخ البطاركة ـ أن البابا غبريال بن تريك 70 ( 1131 ـ 1145 م ) هو أول من أوجد فكرة المقاطع الخشبية على الهياكل لأنه لم يكن ثمة مقطع إلا على كنيسة أبى سرجة لا غير أما الثاني فبجوار الأول وهو حامل الأيقونات المنقول من كنيسة الأحباش ويرجع إلى القرن 19 الميلادي .
والايقونستاسز الأول مكون من قطع صغيرة من الخشب هندسية الشكل ومجمعة بدقة ـ بطريقة التعشيق ـ فى شكل وحدات متكررة على هيئة صليب محفور ومطعم بالعاج وفي زوايا الصليب الأربع يوجد شكل مطعم بالعاج يشبه السمكة وهى فى أول أطوار نموها ـ الخارج للحياة الجديدة ـ ترمز للبشائر الأربع التي للحياة الجديدة المرتكزة على صليب السيد المسيح مركز الحياة ونبعها الأصيل فى حياة المؤمن .
القناديل وبيض النعام
إذا كانت الكنيسة رمزا للسماء ، فالقناديل والشموع رمز للنجوم، لأنه إن كانت السماء المادية محلاّة بالأنوار ـ النجوم ـ فكم بالأولى يجب أن تحلّى السماء الروحية بها والأنوار في الكنيسة هى تسليم رسولي ـ حيث كانت العلية تضاء بمصابيح كثيرة ( راجع أع 20 : 8 ) ـ وليست رمزا مثل الذبائح التي أبطلت بذبيحة السيد المسيح الكفارية فالقناديل الموقدة من زيت الزيتون النقي تعبر عن نور السيد المسيح الذي يشرق خلال قديسيه.
وتوقد القناديل أمام الأيقونات فى الكنيسة أثناء الصلاة والقداس الإلهي ، أما قنديل الشرق فهو يضاء دائما حتى لا تدخل نار غريبة للكنيسة ورمزا لما قاله الرب لموسى عن أن السرج تكون موقدة على الدوام فى قبة الشهادة ( راجع خر 27 : 20 ـ 21 ) وهو يشير أيضا للنجم الذي ظهر للمجوس فى المشرق وكذلك القنديل الذي أمام باب الهيكل ( ولكنه ألغى حالياً بسبب عبث البعض به ) يجب أن يضاء أيضا باستمرار وكانت الكنيسة تزين بالقناديل المعلق بينها بيض النعام الذي يرمز إلى القيامة ( راجع ايوب 39 : 14، 15 ).