التاريخ القديم للكرد وكردستان
مجموعة من المؤلفين الروس، باشراف "لازاريف"، و"مكوي"
الترجمة عن الروسية: دكتورة رفيقة العبد الله، وصالح بوزان
يعتبر الأكراد أحد الشعوب القليلة، ليس في آسيا الغربية فحسب، بل على الكرة الأرضية كلها، حافظ عموماً على خصائصه العرقية منذ التاريخ القديم، ولغابة يومنا هذا. فحياتهم التاريخية تزيد على ألفين وخمسمائة سنة، منذ أن ظهرت؟ في العلم - الاشارات الأولى عن الوجود الكردي، وأسلاف الأكراد الأقربين.
بالإمكان القول، إن الأكراد ـ كعرق، تشكلوا منذ ألف وخمسمائة سنة، وهذا ما لا نستطيع قوله عن أي شعب من شعوب أوروبا، ناهيك عن الكثير من شعوب آسيا وأفريقيا. مع هذا فالتكوينات الأولى للشعب الكردي وتوحده اللاحق في قومية، قد جرى على تلك الأرض نفسها التي تحدد بكردستان المعاصرة. لهذا من الممكن اعتبار الأكراد- عن حق ـ قومية نشأت في حدود تواجدهم الراهن (كإحدى الأقليات) في منطقة الشرق الأوسط ، وهذه هي السمة الأولى البارزة للتاريخ الكردي .
السمة الثانية للمسار الإثني (العرقي) للشعب الكردي- رغم طوله- هي أن هذا المسار لازال مستمراً، ولم تصل القومية الكردية بعد إلى تكونها الكامل. فقد تميز العنصر الاجتماعي ـ الاقتصادي لمسار العرق الكردي بوتيرة بطيئة، و بالتالي، فهو لازال يحمل حتى اليوم سمات التطور البطيء والخصائص التقليدية.
أما في ما يتعلق بالجانب السياسي لمسار القومية الكردية، فقد كان يجري دائماً في ظروف تاريخية غير ملائمة على الإطلاق. وليس من باب الصدفة أن سماهم عالم اللغة والأكاديمي الروسي المختص بشؤون شعـوب القفـقاس والأكراد ن. ي. مار بـ "منبوذي التاريخ". فلقد تعرضوا للحروب المستمرة والغزوات التدميرية، وقمعت انتفاضاتهم بدموية. ورافقت كل ذلك عنصرية مباشرة ضدهم، وعمليات نفي جماعي، بهدف اجتثاثهم من جذورهم، مما أدى إلى تقسيمات عديدة لموطنهم العرقي ـ كردستان - ووضعت عراقيل منيعة في وجه وحدتهم السياسية وتطورهم القومي لإقامة دولة كردية مستقلة في كردستان الموحدة.
أثّر هذا الوضع سلباً على القاعدة الاجتماعية - الاقتصادية، وعلى مستوى الثقافة العرقية للشعب الكردي. مما أدى إلى تخلفهم الملحوظ عن الشعوب الأخرى في آسيا الغربية، الذين امتلكوا نظاماً للدولة، ناهيك عن غيرها من الشعوب المتطورة في المناطق الأخرى من العالم.
نتيجة لهذا التقاطع الفريد من نوعه في الأوضاع غير الملائمة، ظل الأكراد، رغم تمتعهم بخصائص قومية واضحة المعالم ورغم ما يملكون من حضارة غنية متميزة من حيث نوعيتها، ظلوا العرق الوحيد (تعدادهم حوالي ثلاثين مليوناً) المحروم من حق تقرير المصير حقوقياً وعملياً على الكرة الأرضية، وهم لا يملكون دولتهم الخاصة، مما عرقل هذا كله تطورهم القومي.
من بين أهم الخصائص السابقة للتاريخ الكردي، والتي سبقت الإشارة إليها، تلك القيمة المعرفية المتميزة التي تساعد في بحث ودراسة مسار التاريخ العالمي كله. فبالرغم من التجربة التاريخية الكردية ذات الخصوصية الفريدة، فهي مفيدة للعديد من الشعوب الأخرى، وتساعد على تثبيت الأسس المعرفية لماضيهم أيضاً، واستخلاص العبر من أجل المستقبل.
إن تاريخ الشعب الكردي، هو في الوقت نفسه تاريخ المسألة الكردية. ولكن هذا المصطلح (المسألة الكردية) برز عملياً في الزمن المعاصر، زمن تقسيم دول التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على الإمبراطورية العثـمانـية ( أثناء إعداد معاهدة سيفر للسلام عام 1920 والتي لم تنفذ عملياً). وفيما بعد أخذ الحديث يجري حول المسألة الكردية كلما اندلعت موجة تحررية جديدة للقومية الكردية.
وهكذا.. ساد في القسم الأعظم من القرن العشرين تطابق مفهومي " تاريخ الأكراد" و"المسـألة الكـرديـة" والعلاقة العضوية فيما بينهما، لأن الحركة الكردية تضمنت المحتوى الرئيسي للمسار التاريخي الكردي، وكان لها الأولوية عند الشعب الكردي عامة.
لكن المسألة الكردية في واقع الأمر، أقدم من هذا التاريخ. وهي كمقولة تاريخية تستوجب الإجابة المحددة والحـل. وقد برزت بصورة موضوعية في القرون الوسطى، عند ظهور الإمارات الكردية الأولى في ساحة الشرق الأوسط، وأعلنت عن حقها في كيانات ذات سيادة. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت المسألة الكردية عاملاً ثابتاً في الحياة السياسية لدول آسيا الغربية، حيث يقطن الأكراد.
مع مرور الزمن، وتحت تأثير الأحداث العاصفة التي جرت في المنطقة، لعبت المسألة الكردية أدواراً مختلفة، مع التغيير في محتواها والتقدم في ثوابتها المتنوعة.
كان الجوهر الأساسي لنضال الشعب الكردي، هو من أجل الحرية والاستقلال. ولهذا تنطوي دراسة التاريخ الكردي على أهمية سياسية ملحة في الوقت الراهن، خصوصاً بالنسبة للشعب الكردي نفسه، هذا الشعب الذي يقف أمام الضرورات الحياتية الماسة لحل مهامه القومية الأساسية في إقامة كردستان الديمقراطية المستقلة، مع الاستفادة من الدروس الماضية للوصول إلى هذا الهدف المقدس. مع العلم أن هذه الدروس والعبر مفيدة لغير الأكراد أيضاً.
لقد سارت حياة الشعب الكردي في وحدة وعلاقة متبادلة مع شعوب آسيا الغربية الأخرى المجاورة، حيث اختفى العديد منها منذ زمن بعيد عن ساحة الشرق الأوسط ، نتيجة الحروب المتكررة والغزوات أو الانصهار مع الدخلاء الذين اجتاحوا المنطقة لاحقاً. أما الأكراد فقد تكتلوا مع القوميات الحديثة خلال التطور التاريخي. وشكلت الغالبية العظمى من تلك القوميات دولاً مستقلة خلال عملية القضاء على الاستعمار. وعلى أراضي الدول المعاصرة، تركيا وإيران والعراق وسورية؛ تمتد كردستان في أجزاء منفصلة ذات كثافة كردية مطلقة أونسبية.
يرتبط تاريخ كردستان ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الدول السابقة. عدا عن ذلك، فهناك عدد كبير من الأكراد يعيشون خارج نطاق موطنهم العرقي كردستان ( في شمال شرقي إيران، وفي القفقاس وآسيا الوسطى، وبعض دول الشرق العربي، وكذلك في شتات الدول الغربية).
بكلمة أخرى، يؤلف التاريخ الكردي جزءاً متمماً لتاريخ آسيا الغربية (تاريخ الشرقين الأدنى والأوسط) والقفقاس. وفي الوقت نفسه، يعتبر تاريخ هذه البلدان وشعوب مناطقها هو الآخر جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأكراد وكردستان. ولهذا فدراسة هذا الموضوع لها ضرورتها القصوى من أجل الفهم الشامل لعموم المسار التاريخي في هذا الجزء الكبير من القارة الآسيوية.
لاشك أن ثمة عناصر وروايات هامة في التاريخ الكردي لها خصوصيتها المرتبطة بهذا الشعب وثقافته التاريخية. غير أن دراسة تاريخ الكرد و كردستان، تقدم فائدة كبيرة من الناحية العملية (خصوصـاً على الصعيد السياسي) وكذلك من الناحية المعرفية، وهذا الجانب بالذات يستحق الحديث عنه بخصوصية أعمق.
يعتبر التاريخ الكردي من المواضيع الأقل دراسة، مقارنة مع تاريخ الشعوب الكبيرة الأخرى في آسـيا الغربية. وهناك نقاط عديدة مجهولة، تتطلب الإعداد العلمي الشامل في الاتجاهات المختلفة، بدءاً من المراحل الأولى لتكوّن الشعب الكردي، وحتى يومنا هذا.
إن سبب هذا التأخر في دراسة التاريخ الكردي واضح، فغياب الدولة عند الأكراد، حرمهم من الظروف التي تتيح لهم التطور الحر والنضوج الثقافي، بما في ذلك المعارف العلمية، ومن ضمنها تاريخهم الوطني .
لقد عملت الأوساط الحاكمة في البلدان التي اقتسمت كردستان لمصلحة القوميات المسيطرة، أوسعت عن وعي لإعاقة تطور علم تدوين التاريخ الكردي، محاولة منها نفي هوية الأكراد كقومية واحدة متجانسة. يتضح هذا في المفارقة الكبيرة التي تبين أن معظم الأعمال الهامة حول التاريخ الكردي وكردستان ظهرت خارج الحدود الطبيعية التي يعيش ضمنها الأكراد.
لقد ظهرت هذه الأعمال خصوصاً في روسيا سابقاً، وفي الاتحاد السوفييتي بعدئذ، وفيما بعد ظهرت في الغـرب ـ علماً أن معظم مؤلفي هذه الأعمال كانوا من الأكراد بالذات ـ.
لقد حان الوقت، للبدء في الدراسات التصنيفية لتاريخ الكرد وكردستان، ومن خلال ذلك، إعداد الأبحاث حول المسائل التي تأخر علم الاستشراق في بحثها وتأسيسها وتعميمها.
تتطلب ذلك بالضرورة، مصلحة حركة التحرر الوطني الكردية، التي لاتزال تحتاج إلى الأسس العلمية العميقة في حقها المشروع من أجل تقرير المصير كقومية ذات منشأ عرقي واحد، وتعيش على ترابها الوطني، وأبدعت ثقافتها الأصيلة المتميزة. كما أن هذا الموضوع يثير اهتمام علم الاستشراق، الذي يعتبر العلوم المختصة في الشؤون الكردية جزءاً لا يتجزأ منها.
بالإمكان الوصول إلى هذا الهدف من خلال تضافر جهود العلماء من قوميات وبلدان مختلفة. ولا شك أن عملاً من هذا النوع، يحتاج إلى الوقت والجهد. غير أن البدء به، له ضروراته في الوقت الراهن. فلا بد من وضع تصور عام لألفين وخمسمائة سنة من التاريخ الكردي، وتصنيفه إلى مراحل، وإبراز أهم تلك المراحل، وتدقيق ترتيبها الزمـني، مع إعطاء التقييم الموضوعي للأحداث الهامة والمصيرية، والوقوف عند شخصياتها البارزة.
من المؤكد أن هذا كله يتطلب استخدام مادة واقعية علمية جديدة غير مطروقة سابقاً. والاعتماد على المصـادر والأدبيات غير المستخدمة.
***
يعتبر هذا الجهد، المحاولة الأولى لتأليف عمل متكامل حول تاريخ الكرد وكردستان، يشمل الفترة الممتدة من تكون الشعب الكردي منذ أواسط الألف الأول بعد الميلاد وحتى يومنا هذا. ولا يوجد بحث من هذا النوع بعد ،لا في أعمال المستشرقين الروس السابقة، ولا خارج روسيا من قبل المختصين بالشؤون الكردية في الغرب، أو حتى من قبل الأكراد أنفسهم.
هناك كتابات تأخذ طابعاً إخبارياً لتاريخ السلالات الكردية. أو ملخصات مجتزئة لتاريخ الحروب السياسية في كردستان، والتي تتعلق بالانتفاضات الكردية التحررية.
أما مؤلفو هذا الكتاب، فقد وضعوا أمامهم مهاماً أكثر شمولية. إنهم يضعون أمام القراء -وتقييمهم- هذه المحاولة التي تضم مجموعة حقائق أساسية، تخص تاريخ الشعب الكردي على مدى قرون عديدة ، وتشكل هذه الحقائق تصوراً متكاملاً لهذا التاريخ.
يعتمد المؤلفون بالدرجة الأولى على ما توصل إليه العلماء الروس والسوفييت في الدراسات الكردية (كردولوجيا). هؤلاء العلماء الذين كان لهم الأسبقية في هذا المجال، إلى جانب تلك النتائج التي توصلت إليها العلوم الغربية عن الأكراد.
يعترف المؤلفون بصعوبة تحقيق هذه المهمة بحجمها الكامل. وقد أشير سابقاً إلى المعوّقات، خصوصاً تلك المتعلقة بالمستوى البسيط لعلم تدوين تاريخ الكرد وكردستان، إلى جانب غياب التقاليد الثابتة في تفسير الأحداث التاريخية، وندرة المصادر والمراجع وضعفها. لهذا لم نتوصل إلى منهجية موحدة لعرض المراحل المختلفة للتاريخ الكردي. لقد انطلقنا من المواد المتوفرة، ومن المستويات الواقعية لدراسة هذا الحدث أو ذاك.
من أبرز الصعوبات التي واجهتنا، تلك المتعلقة بإلقاء الضوء على المراحل المبكرة للتاريخ الكردي، وهي مراحل أقل بحثاً من قبل المستشرقين. نخص بالذكر ذلك العصر الذي يمتد ألف سنة، والذي نشأ خلاله الشـعب الكردي (يمتد تقريباً من القرن السادس والخامس قبل الميلاد ولغاية القرن السادس بعد الميلاد). هذا العصر الذي ارتسم فيه مسار تكون الشعب الكردي في منطقة وجوده الراهن. ولا يوجد رأي واضح وثابت حول العديد من المسائل المفصلية لهذه المرحلة. ويكمن السبب الرئيس في ذلك، ندرة المصادر الموثقة، خاصة المدونة منها.
إن المصادر المادية والثقافية التي حصل عليها علماء الآثار قليلة، ومن ناحية أخرى تفتح المجال لاحتمالات متعددة وأحياناً متناقضة. أما المصادر غير المباشرة ( كالاثنوغرافيا- علم دراسة ثقافة شعوب العالم ووجودها- وعلم اللغـات وغيرها) فهي الأخرى تفتقر إلى البراهين القوية.
اضافة إلى هذه الأسباب الموضوعية التي تعرقل الحصول على صورة موثقة لنشأة الشعب الكردي وتاريخه المبكر، ثمة أسباب ذاتية أيضاً، هي في الحقيقة أسباب سياسية، تظهر بوضوح وسط الباحثين التابعين للقوميات المسيطرة في البلدان التي تقتسم كردستان، كذلك وسط بعض المؤرخين الكرد أيضاً.
إذا كانت الفئة الأولى، وتحت ضغط النـزعات الشوفينية للقومية المسيطرة، سعت إلى نكران الأكراد كاثنية (عرق) قديمة، بهدف منعهم من التوحد في قومية واحدة. فقد انطلقت الفئة الثانية من الأوضاع الراهنة لدوافعهم الوطنية في البحث عن جذور " كردية خالصة" في التاريخ السحيق الذي لا يضم أية معطيات موثقة. وفي الحالتين السابقتين يجري تشويه الصورة الحقيقية، وتغيب المعرفة العلمية والمنطقية.
من خلال هذه النماذج من الدراسات المتعلقة بالشؤون الكردية، يستبعد الكشف التسلسلي الزمني لتاريخ الكـرد وكردستان، بدءاً من المنبع الأول، حيث كان يتكون الشعب الكردي. بالإمكان تحويل أولئك المهتمين بهذه القضية إلى تلك الأبحاث الرصينة والمعترفة بها من قبل الاختصاصيين، ليكتشفوا بأنفسهم الآراء الخلافية الجادة حول مواضيع تلك المرحلة(1). فهنا يمكن الاكتفاء ببعض التقارير الموثقة علمياً.
لقد تشكل الشعب الكردي في أحد أقدم مراكز الحضارة العالمية؛ في الحوض العلوي الأوسط لمجرى الأنهار الكبيرة في آسيا الغربية نهري دجلة والفرات وروافدهما الشرقية، وفي المناطق المحاطة بالسلاسل الجبلية.
تبدأ الحدود الشمالية للأراضي التي تكون عليها الشعب الكردي من البحيرات الكبيرة، كبحيرة وان وبحيرة أورميا. وكان للعامل الجغرافي الطبيعي أثر كبير على مسار الأثنية (العرق) الكردية، خصوصاً في المراحل المبكرة لتكون هذا الشعب.
فالتكوين الجبلي للمنطقة عرقل من ناحية احتكاك مختلف المجموعات التي شكلت تركيبة الشعب الكـردي، ومن ناحية أخرى، كان مخبأ طبيعياً، مثل القلاع، في أوقات الحروب المتكررة والغزوات. وبفضل هذا الواقع الطبيعي استطاع الأكراد مقاومة تهديدات الإبادة، وعملية الإذابة في الشعوب الأخرى.
إن الخارطة الطبيعية لكردستان، حتمت إلى درجة كبيرة النشاط الاقتصادي التقليدي للأكراد، مثل رعي المواشي، خصوصاً الأغنام في المراعي الجبلية الخصبة.
ثمة علاقة مباشرة بين خصائص طبيعة كردستان المتميزة، وتجذر المجتمع القبلي الكردي، وبقاء رواسبه حتى يومنا هذا (كانت العزلة النسبية للمجموعات الكردية عن بعضها البعض، يشكل ظروفاً غير ملائمة للقيام بنشاط زراعي، إلى جانب صعوبة مد الطرق، وإقامة وسائل الاتصال.. وغير ذلك). وفي هذه الحالة، حافظت القبيلة على نفسها كفئة اجتماعية لفترة طويلة.
إن تكون الشعب الكردي على الأرض التي يقوم عليها حالياً، حقيقة معترفة بها عموماً، ومـبرهنـة علمياً. ويقع موطنه الأصلي في القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين، في وسط كردستان الراهنة. فالحديث هنا عن السكان الأصليين حجة دامغة، ولو أنه غير أساسي، لصالح وجود الاثنية (العرق) الكردية وتشابه الأكراد (وانتمائهم لعرق واحد) كقومية منفصلة ومستقلة في عائلة الشعوب المعاصرة من العالم (هذه الحقيقة التي لا يعتريها الشك، سواء نفاها أو يشكك بها شوفينيوّ البلدان التي يقطنها الأكراد). وفي سائر الأحوال، وبدون أدنى شك، فإن للأكراد حق العيش الحر والمستقل على أرض وطنهم الذي هو مهدهم الأصلي.
طبعاً ما قيل، لا يعني أن الأرض العرقية لكردستان قد تحددت منذ البداية، ورسمت معالمها وفق إحداثيات الخرائط الحديثة. فالكلام يجري حول المنشأ الأصلي للمسار العرقي فقط. فكردستان الواقعة في وسط آسيا الغربية، حيث يشكل الأكراد النسبة العظمى من سكانها أو غالبيتها، تبدلت حدودها العرقية بشكل دائم ( وهذا مشروط بحد ذاته) بتأثير الأحداث التاريخية العاصفة، التي رافقتها تنقلات أثنوديمغرافية للسكان (التنقلات العرقية). لهذا فليس من الصعب جداً تحديد أبعاد كردستان القديمة فحسب، بل من الصعب تحديد حدود كردستان العصور الوسطى.
في الوقت نفسه، ليس من السهل تحديد زمن تشكل الأثنية الكردية بدقة كبيرة. فلا بد من تقسيم هذا المسار إلى مرحلتين أساسيتين: تبدأ المرحلة الأولى منذ ظهور القبائل التي توحدت تاريخياً، ويفترض أنها تشكل الأسلاف القدماء للأكراد المعاصرين.
ظلت هذه الحقبة، ولأسباب معروفة، من أكثر حقب التاريخ الكردي تعتيماً، ولم تتناولها الدراسات العرقية عن قرب، باستثناء معطيات قليلة جداً قدمها علماء الآثار، وأصبحت من المصادر التي تناولها العلم.
ومع هذا، فإن تلك المعطيات نفسها تثير جدلاً لا مفر منه، خصوصاً إذا علمنا غياب صياغة وجهة نظر موحدة بهذا الصدد. ولعل ما هو متفق عليه بين الاختصاصيين، ذلك التاريخ السحيق لانطلاقة مسار الاثنية الكردية، التي تبدأ من الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً، عندما ظهرت الخطوات الأولى للحضارة في منطقة ما بين النهرين، بما في ذلك الجزء الشمالي الجبلي. حين تراجع نظام المشاعة البدائية، لتحل محله البوادر الأولى للدولة الطبقية، وترسخ هذا المسار في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
لقد ظهرت على أبواب التاريخ الآسيوي، خصوصاً نهاية الألف الرابع ولغاية الألف الثالث قبل الميلاد، شعوب يمكن اعتبارها الأسلاف الاثنية القديمة للأكراد مثل: الحوريين، السوباريين، الكوتيين، اللولوئيين (لولويين)، الكاسيين، الكاردوخيين، وغيرهم من القبائل الأخرى. علماً أن نسب هذه الشعوب الاثنية منفصل كل الانفصال عن الأكراد المعاصرين.
إن العلم الحديث لا يضع أمامه مهمة البحث عن الأصول الكردية المباشرة بين هذه الشعوب. ويمكن لقوميات معاصرة أخرى في آسيا الغربية أن تدعي الانتماء إليهم أيضاً. زد على ذلك، فإن الموطن الأول لنشأة العرق الكردي (شمالي بلاد ما بين النهرين) هو تلك المراكز نفسها التي ظهرت فيها أقدم الحضارات العالمية. فمنذ ثمانية آلاف سنة، ظهرت حضارة تسمى بثقافة حلف (نسبة إلى تل حلف في منطقة رأس العين في سورية ـ المترجم)، والتي استمرت ستمائة سنة، واتسعت حدودها إلى تلك الأراضي التي قام عليها النشاط الاقتصادي والخصائص الثقافية للشعوب التي قطنتها منذ القدم. ثم حلت محلها حضارة العبيد؛ الثقافة الفراتية الأولى ( في القسم السهلي من بلاد الرافدين وحتى التلال السطحية). وقد دامت ما يقارب الألف عام، وأثرت تأثيراً جزئياً على الشعوب الجبلية أيضاً. وحل لاحقاً عصر حضارة الحوريين (منذ 4300عام قبل الميلاد تقريباً، و لغاية الألف الثاني قبل الميلاد).
سكن الحورييون على حدود سلسلة جبال زغروس ـ طوروس ، وفي وديان بلاد ما بين النهرين وهضبة إيران المجاورة. وينتمي الحورييون ـ من حيث اللغة ـ إلى عائلة اللغات القفقاسية للمجموعة الشمالية- الشرقية. وقد وصلت آثار حضارتهم إلى عصرنا الراهن. وهي ظاهرة في الثقافة المادية وفي المعتقدات الدينية والأساطير، وحتى على صعيد نشوء علم الوراثة.
بالإمكان التقاط عناصر الحضارة الحورية من أسماء الأماكن والقبائل الكردستانية المعاصرة (إن ثلثي أسماء القبائل الكردية هي تسميات حورية تقريباً). مع العلم أن بداية نشأة العرق الكردي لازال بعيداً عن الحقبة الحورية، ولم تتوفر المقدمات اللغوية لإثبات ذلك على أقل تقدير.
لقد سيطرت شعوب تلك الحقبة، بما فيها الكوتييون الأشداء، على الأراضي الحالية لكردستان الوسطى والجنوبية في الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد، ويمكن اعتبارهم الأساس العرقي للأكراد من وجهة نظر علم الانتربولوجيا (علم السلالات البشرية)، ولدرجة ما من وجهة نظر العلاقة الثقافية.
في الألف الثاني قبل الميلاد، جرت تبدلات عرقية جوهرية على خارطة المنطقة الكردية. حيث جرى توسع كبير للقبائل ذات الأصول الهندية في المنطقة (كالميتانيين وغيرهم)، وأثر هذا على النمط الاقتصادي الاجتماعي، وعلى ثقافة السكان الحضر في السهول والجبال. وفي الوقت نفسه استوطن الأرمن شمالي المنطقة، أما في الجنوب، فسكنت تلك القبائل التي تنتمي إلى اللغة الإيرانية (كالميديين، والفرس، والسكيث، والسارماتـين وغيرهم).
منذ أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، بدأت اعتداءات الآريين على المنطقة، ولغاية القرن التاسع قبل الميلاد كان قد تمت أرينة سكان المنطقة كلهم (تحويل السكان إلى آريين). وهذه هي الحلقة التاريخية التي انطلق منها العرق الخاص بالشعب الكردي.
أما في ما يتعلق بالأكراد حصراً، يمكن الحديث عن أجدادهم مباشرة، منذ أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد. ويبدو أنهم قبائل تنتمي إلى مجموعة اللغات الإيرانية، وتعتمد في نشاطها الاقتصادي على الرعي، وتدخل في التكوينات الأساسية للهجرات التي غمرت المنطقة في تلك المرحلة. هذه الهجرات التي شكلت اللوحة الاثنوغرافية (علم دراسة ولادة وتركيب الأعراق) للدولة الميدية والفارسية القديمتين مع طغيان العنصر الميدي.
في هذه الفترة بالذات، ظهرت بدايات المرحلة الثانية والأهم في مسيرة الأثنية الكردية وتكونها في شعـب خاص، والانتقال إلى مستوى القومية في القرون اللاحقة. وتصبح منطقة زغروس الجنوبية بجبالها وسهولها مركزاً جغرافياً لهذا المسار والتكوين.
في هذه المنطقة بالذات ولدت، على ما يبدو، التسميات الاثنية مثل "كورد" أو"كورت" وبعض التسميات القريبة منها، مثل"كورتي". ونوه لهذا المصطلح العديد من المؤلفين الإغريق: بوليـبي، سترابون، بليني الأكبر، تاتسي.. وغيرهم.
يروي القائد والمؤرخ اليوناني كسينوفون عن "الكردوخ" في كتابه آناباسيس ـ ما بين القرن الخامس والرابع قبل الميلاد ـ. لكن العلم الحديث ينظر بعين الارتياب إلى تشابه هذا المصطلح مع تسمية الأكراد. هناك وجهة نظر ترى أن مصطلح "كرد" استخدم في البداية تجاه جميع القبائل الرحل، ولهذا فظهوره في الأدبيات القديمة (في القرن الثالث قبل الميلاد) لا يمكن أن يكون حجة مقنعة لصالح تكون الاثنية الكردية في ذلك العهد.
لقد كان العامل الأساسي والجوهري في تشكل الاثنية الكردية هو عامل اللغة، حيث امتلكت هذه الاثنية لغتها الخاصة، التي تأسست على أرضية اللغات الإيرانية القديمة، لتصبح العامل الأساس في تمايز العرق الكردي عن غيره، وبناء القاعدة المادية التي انطلقت منها الثقافة الخاصة بهذا الشعب.
لقد استغرقت مرحلة تكون الاثنية الكردية فترة زمنية طويلة، لا تقل عن ألف سنة. وانتهت هذه المرحلة في القرون من الثاني إلى السادس الميلادي. عندما سيطر على المنطقة الكردية الإقطاع الآرشاكيدي البارفياني* والساساني.
في العهد الساساني انفصلت اللغة الكردية نهائياً عن اللغات الإيرانية الأخرى. وعندما احتل العرب كردستان أواسط القرن السابع، وجدوا شعباً يملك لغته ومظاهر ثقافته ونظاماً اجتماعياً خاصاً به. وكانت الاثنية الكردية قد اتخذت شكلها النهائي عندئذ. وهكذا نستطيع القول أن التاريخ الخاص بالأكراد، تدقيقاً التاريخ المدني والسياسي، قد بدأ منذ ذلك الحين (يتضمن هذا بالتأكيد، تاريخ تطور العلاقات الاجتماعية و الثقافية.. الخ).
يبدو أن الحديث عن تاريخ الاثنية الكردية، بالمعنى الضيق لهذه المقولة، يبدأ منذ ما قبل فترة طويلة من العهد الساساني المتأخر، واستمر وفق قوانينه الخاصة إلى أيامنا الراهنة.
خلاصة القول، يجوز الإقرار بأن الأثنية الكردية التي تمتد جذورها العريقة ـ في مسار تكونها وتكاملها- إلى عدة آلاف من السنين، مع الإشارة إلى غلبة العنصر الهندو- الأوروبي لهذا العرق (الإيراني عامة والميدي خاصة)، إلى جانب العنصر السامي (الآشوري والآرامي، وفيما بعد العربي).
بكلمة أخرى، فالاثنية الكردية، كما هي حالة جميع الاثنيات والقوميات على الكرة الأرضية، هي نتاج تركيب عناصر أثنية مختلفة، والتي تشكلت خلال مسار التطور التاريخي، بدءاً من أزمنة غير معروفة ( ليس أقل من 7 و 8 آلاف سنة مضت).
***
سبق القول، أن الدراسات الاستشراقية العالمية لم تبحث المراحل المبكرة للتاريخ الكردي كما يجب. وتمتد هذه المراحل تسعة قرون تقريباً، كانت حافلة بالغزوات والفتن والاضطرابات (منذ الثلث الثاني للقرن السابـع ولغاية بداية السنوات العشر الأولى للقرن السادس عشر).
في الواقع، كانت هذه الحقبة "زمن الفتن" بالنسبة للشعب الكردي الذي كان يناضل حينها من أجل البقـاء والصمود ضد الإبادات الجماعية المتواصلة، وضد عملية القضاء على هويته، وصهره من قبل العرب والمغول والأتراك الغزاة. وفي واقع الأمر، لم يكتب شيء عن تاريخ تشكل وظهور الإمارات الكردية عندئذ (كان الأكراد يشكلون الأغلبية الحاكمة لهذه الإمارات، إضافة إلى بعض الأقليات في مناطق قليلة)، وتوجد في هذه المرحلة جوانب كثيرة غامضة.
ينطبق القول السابق على القرون الثلاثة اللاحقة من التاريخ الكردي (منذ بداية القرن السادس عشر ولغاية القرن التاسع عشر)، عندما قسمت كردستان بين الإمبراطورية العثمانية وإيران الصفوية. وكانت كردستان حينئذ خليطاً من الإمارات شبه المستقلة والتابعة للسلطة المركزية في استنبول وأصفهان، وتربطها بهما علاقات التبعية الإقطاعية.
كانت الحروب التركية- الإيرانية متواصلة في ذلك العصر وبالدرجة الأولى على أراضي كردستان, وكانت مشاركة المحاربين من القبائل الكردية لا مفر منها، وأدى ذلك إلى خلق الفتن وعدم الاستقرار في المناطق الكردية. مما شكل حجر عثرة أمام وحدة القومية الكردية، وتطورها الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي والثقافي.
* آرشاكيدي: سلالة من حوالي250 قبل الميلاد إلى 224 بعد الميلاد. بارافي: قبائل كانت لغتها هندو-أوروبية ، شكلت دولة حوالي 250 قبل الميلاد و لغاية 250 بعد الميلاد.
** هذا المدخل هو مقدمة الكتاب الذي ترجم عن الروسية إلى العربية