المعتقدات المسيحية
تتمحور المعتقدات والعبادات في المسيحية حول عدد من العناوين ، يأتي في مقدمتها فكرة الإله، وما تؤمن به من قيم تعبر عن جوهر المسيحية في الأخلاق والعادات وما تخلفه هذه المفاهيم والتصورات من انعكاس على صعيد الممارسة.
ملكوت السموات أو ملكوت الله: تشكِّل مرتكزاً أساسياً، وفكرة محورية في الأناجيل، فالدعوة إلى تلك المملكة، أو الإنذار بنهاية العالم، هي هدْمٌ لهذا العالم القائم. ليست هي هذا العالم، ولا هي التاريخ؛ وليست هي عالمٌ آخر سوف يأتي، وحياة ثانية للأموات بعد بعث وقيامة. وتلك المملكة، مقدَّمةٌ على أنها الخير الأسمى، والغاية القصوى، والسعادة الأسمى...
ومملكة الله سرّ غامض، يعبَّر عنها بالأمثال: فهي هنا وليست هنا وهي سماوية، بين الناس ولجميع الناس. لكنها سوف تُنقل من اليهود إلى غيرهم: "سوف يأتي أناس كثيرون...، فيجالسون إبراهيم وإسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السماوات. وأما بنو الملكوت (في تفسير ما: اليهود) فيُلقَون في الظلمة البرانية، وهناك البكاء وصريف الأسنان" (متّى 8:11-12).
هذا الملكوت الذي تبرزه الأناجيل، مع فكرة نهاية العالم، أشبه ما يكون بفكرة ما ورائية...
علم الأخلاق: ليست الأخلاق في الأناجيل علماً، بل هي عبارة عن وصايا وتعاليم ودعوات سامية النداء والصوت والتوجيه.
وبذلك، ونهوضاً من هذا المبدأ الأساسي، فإن الأخلاق لا تعمل لغرس الإنسان في الواقع والتاريخ أو في هذا العالم والمؤسّسات والعلائق، لأن هذا العالم لا يساوي شيئاً، وهو مليء بالشرور والآلام والآثام. والاهتمام الأجدى يكون اهتماماً ليس بالغد والواقع، بل بملكوت السماوات الذي هو وحده القيمة المطلقة، فطاعة الله هي إذن الأهمّ والمحور الوحيد؛ وإرادته هي المبدأ الأخلاقي أو المحرّك والأساس للأخلاق.
طاعته خضوعٌ في القلب، وخضوعُ القلب للإرادة لإلهية بأوامرها ووصاياها. ومعنى إرادة الله هو أن يحيا وفق ما يتطلبه ملكوته، وأن يطهِّر النفس كي يكون صالحاً لذلك الملكوت. وحيث إن طاعة الله هي الخضوع له والدخول في مملكته، فإنه من هنا ينبع المعنى المعطى للسلطة السياسية، وتؤخَذ القيمة التي تحرِّك دور المال والكسب والعالم أو الأشياء الاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك تعتبر السلطة غير مقصودة في المسيحية، ولا مسعى لكسبها انطلاقاً من مقولة "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، كما أنها لا تُرغِّب في تحصيل الأموال لأنه يُبعِد عن ملكوت السموات ويمنع التواكل؛ هو يستعبد الإنسان ويشده إلى العالم الباطل. والإنسان لا يستطيع أن يعمل لسيدين، أو يعبد ربّين (متى، 6:24؛ لوقا، 16:9-13). فلا بد إذن من التخلي، والانقطاع، والتشظف، والتزهد (مرقس،10، 17-22؛ لوقا، 2،33).
المحبة في الأناجيل: تعتبر المحبة ركيزة أساسية ومبدأً أخلاقياً في المسيحية، لذلك تأمر التعاليم الإنجيلية بالمحبة، أحبِب الله وقريبَك، كما تحب نفسك، وهي عطاءٌ ذاتي، أو هي عطاء الذات ذاتها، وانبجاسٌ من الأعمال، وشمّالةٌ للعدو والخاطىء والشرير بمقدار ما هي تقصد أيضاً الله والقريب. وقد أكثر المفكرون المؤمنون بها، من توصيفها والإلحاح على طبيعتها العفوية والمباشرية. كما أنّ المحبة تعتبر أكبر وصية، وشريعة الملكوت السماوي الأولى، والمحقّقة له في هذا العالم. وبدونها الإنسان يكون مداناً؛ بل هي تُحقِّق في الإنسان مملكة السماوات، وهي نواةٌ في الأناجيل، ومحور أخلاقي أو المحرك الأكبر للعلائق وتاج الوجود والمآل: أحبّوا بعضكم بعضاً (يوحنا، 13:34؛ 15:12)؛ أحبِب قريبك حبّك لنفسك (متّى، 19:20)؛ أحبّوا أعداءكم (متّى، 5:44؛ لوقا، 6:27).
الأخلاق والعادات، الوصايا التي ترسمها الأناجيل للعمل والمعايير، هي القواعد التي كانت تحكم المجتمع التاريخي الذي جرت فيه أعمال المسيح وأقواله. فالمفاهيم حول الخير والشر، الصالح والطالح، الغثّ والسمين، النافع والواجب، التي كانت سائدة بقيت مقبولة واستمرت. اجتافت المسيحية ذلك التراث اليهودي الكنعاني، وامتصّت قواعد السلوك الممارسة؛ تغذّت بها وقامت عليها، لكن مع تجاوزٍ لها اسمه المحبة.
لا تحل الأخلاق السامية (السماوية) هذه، محل القواعد السلوكية والشعائر الدينية الجاهزة. إنّ دعوتها لتحقيق إرادة الله ليست دعوة للامتثال إلى الشكليات، بل لتوجيه كل شعور، وأدنى حركة أو إحساس أو فكرة، وبذلك فإن الوصية الاجتماعية الدينية التي تقضي بعدم الزنى، على سبيل المثال، تغوص عند الإنجيلي إلى الأعماق لتحاكم وتدين أقل شعور أو ترفضه وتساويه مع الجريمة النكراء: "من نظر إلى امرأة فاشتهاها زنى بها في قلبه، فإذا دعتك عينك اليمنى إلى الخطيئة، فاقلعْها وألقِها عنك" (متى، 5، 27-29).
وهذه النظرة القاسية تتماشى مع نظرة أقسى تدين التمسّك بالحرف، والجمود عند النص، والفهم الشكلي للشرائع، لقد كان السيد المسيح مثالاً يحتذى في الأخلاق، وترجمة عملية لها، فكان عدواً للكهنة والكتبة، وتكلم مع الخطأة، والزانية، والسامريين، وأكل وشرب مع العشارين والخاطئين، وعلم أن الصلاة أو الصدقة أو الصوم تكون خفية وبإخلاص ومحبة، لا أن يسرق الأرملة في الظلام ثم يتصدق جهاراً ويصلي علناً.
لقد أراد الرحمة لا الذبيحة (متى، 7:12)، والمحبة لا الشريعة أو الحرف، فالنـزعة الصوفية أبرز ما يحدد تلك الوصايا، والانفتاح على الأعماق مع الإطلال المستمر على المتعالي معاً وفي الآن عينه، هما التياران اللذان يحركان الوعي الأخلاقي هنا.
الإنسان، الزمان، والإله الشخصي (الأقنومي) المتجسِّد: في هذه المجالات تظهر التعاليم الإنجيلية، بحسب نظرة بولس الرسول. فالإنسان مرفوع هنا إلى منـزلة أولى، إذ الله نفسه تجسّد وتأنّس وتشخّص في أُقنومٍ حي حُباً بالإنسان ومن أجل خلاصه (سرّ الفداء، سر التجسد). فالمفاهيم الفلسفية القديمة والحديثة للألوهية مختلفةٌ عن المفهوم المسيحي، ويقال الحكم عينه أيضاً بصدد الفهم المسيحي للإنسان وللزمان.
الإيمان: هو موهبة (عطاء) مجانية من جهة؛ ثم هو من جهة أخرى واجب. إنه ضروري لدخول ملكوت الله؛ لكنه أيضاً عملٌ من أعمال الله. هو الشرط الأساسي للخلاص، بل هو نفسه الخلاص، به وحده يرى الإنسان الله، ويُظهر للإنسان ملكوت الله. فبذلك الإيمان تتحقق المعجزات، أو به نُبطِل المستحيلات: "لوكان لكُم إيمانٌ بمثال حبةٍ من خردل لقلتُم لهذا الجبل انتقِل من هنا إلى هناك فينتقل، ولما أعجزكم شيء" (متى 17: 20؛21:21-22)... وبكلماتٍ أخرى، إن المؤمن يعمل الأعمال التي يعملها المسيح، بل يعمل أعظم منها (يوحنا، 14: 12)، فالإيمان يخلّص، ويفعل المعجزات، لأنه ذوبانٌ في مشيئة الله أو هو علاقة مع الله مطلقة، ونابعٌ من صميم الإنسان، أليس هو نتيجة الوعي والإرادة، إنه عطاء كما سلف، وليس امتلاكاً.
الألم والأمل، والاستشهاد: تُجسِّد حياة المسيح تجربة الألم عند الإنسان. فعذاباته تعبِّر عن المأساة البشرية المريرة، وواقع الإنسان المغصوص، والشجاعة في ملاقاة الأحزان تُذكِّر بأخلاق البطل الصبور بأملٍ. كذلك فإن التألم حتى الاستشهاد، أو قبول الاستشهاد بإرادة وفكر، دفاعاً عن فكرة وحقيقة وبلا فقدان الأمل، يبقى نداءً للاقتداء والتمثّل قدّمه السيد المسيح.
كلمة شَمّالة: قلنا إن المسيح لم يُبطل، وقد ذكره موسى والأنبياء وشهدت له الكتب، ثم إنه علّم في المجامع، وفي الهيكل. ورأينا مراراً ورود أنه مِلكُ اليهود، وملك إسرائيل، وأنّ الهيكل بيت أبيه... ليس هناك إذن مجال للمبالغة بحيث نذهب إلى القول بثورةٍ عميقة أحدثتها التعاليم التي سبق بسطها، فالتراث اليهودي ومعه الكنعاني أو السامي أو بتعبيرٍ لعلّه أدقّ وأعم، الأعرابي (يجمع كل الأمم التي أنتجتها بلادنا العربية الراهنة)، وفرّ لتعاليم الإنجيل حقلاً خصباً، ونظّر في الفكر والسلوك والتعبير عميقاً متراكماً.
وذكرنا أن المحبة (كاريتاس)، من حيث هي حبّ للآخر أو حبّ للنوع البشري، تحتل في المعنى المسيحي مكانة الفضيلة الدينية الأولى، وتتساوى مع محبة الله؛ ورأينا أن محبة الآخر هي المرادف لمحبة الله. وإذن فهي بذلك مجرد عاطفة، أو هي عاطفة بحتة، واندفاق طبيعي من القلب؛ وقد ترتبط بنظرة عامة محدّدة أو بعقيدة الأخوّة بين الناس والأبوّة الإلهية.
هذه القضايا الاتفاقية كانت تشكل محوراً ارتكازياً للجميع، ولكن هناك العديد من القضايا الحساسة التي حصل الخلاف حولها والتي أدت بشكل أو بآخر إلى حصول انقسامات حادة، ونشوء فرق عديدة، كان لكل منها مرتكزاته الفكرية ومنطلقاته العقائدية، وممارسته الطقسية.