تأملات قرآنية في المنهجالعلامة المرجع السيد محمد حسين فضل اللهالقرآن محور الثقافة الإسلاميةللقرآن ـ في ثقافتنا الإسلامية ـ دور الأساس من حيث هو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد أجمع المسلمون على أن التحريف لم يقترب منه، وإذا كان البعض يتحدث عن بعض ألوان الزيادة أو النقصان انطلاقاً من بعض الأحاديث التي لا يثبت سندها أمام النقد ولا يصمد مضمونها أمام المحاكمة، فإنه لم يستطع أن يفرض رأيه على الواقع القرآني. فليس هناك، في شرق العالم وغربه، نسخة أخرى للقرآن غير هذه النسخة المتداولة، مع اختلاف الطوائف الإسلامية، ما يجعل من الحديث عن ذلك حديثاً لا يتصل بالواقع الإسلامي من قريب أو بعيد.
وإذا كانت بعض الكلمات تنسب هذا الاتجاه إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، فإن الأحاديث المتواترة عن الأئمة من أهل البيت تصرح بأن ((كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)) ((وإنّ على كل حق حقيقة وإن على كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه)) الأمر الذي يدل على أن منهجهم في توثيق الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنهم هو العرض على الكتاب، وليس المقصود به إلا الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، فكيف يمكن أن يكون المرجع محرفاً، وهل يمكن أن تؤخذ الحقيقة الأصلية مما لا يملك وثاقتها؟
وإذا كان للقرآن هذا الدور الأصيل في ثقافتنا الإسلامية، فلا بد أن يكون هو المصدر الأساس في مفاهيمنا في العقيدة والشريعة والحياة، لنرجع إليه في كل ما اختلفنا فيه، مما اختلفت فيه الآراء والأهواء، بحيث ننفتح عليه في كل مرحلة من مراحلنا الثقافية التي تفرض علينا الكثير من الجدل حول هذا المفهوم الإسلامي أو ذاك، فيما يحكم الوجدان العام للمسلمين في أي شأن من شؤون الحياة والإنسان، فلا نلتزم هذا المفهوم من خلال فهم العلماء السابقين، بل نعمل على تجديد دراسة النص القرآني من خلال المعطيات الفكرية الجديدة التي تطرح أكثر من علامة استفهام، الأمر الذي يفرض إجابات معاصرة لم يكن للقدماء عهد بها، فربما وجدنا في ظواهره معنىً لم ينتبه إليه السابقون، وربّما كانت اجتهاداتهم في فهم ظواهره منطلقة من ذهنياتهم المليئة بالأعراف العامة التي تحكم منهج التفكير آنذاك، وربما غابت عنهم بعض المقارنات بين آية وآية أو بين ظاهر وظاهر، فنكتشف شيئاً جديداً لم يكتشفوه، فلا قداسة للقديم من خلال قدمه، فكم ترك الأول للآخر.
لذلك لا بد لنا من اعتبار الثقافة القرآنية ثقافة متحركة في المسألة الفكرية، بحيث تطل على حركة التطور المعاصرة في قضاياها وحاجاتها وتعقيداتها، فلا يكون القرآن غريباً عن مواجهتها ومعالجتها ومقاربتها، تماماً كما لو كان القرآن نزل في هذا العصر، لأنه يجري مجرى الشمس والقمر، والليل والنهار، كما جاء في أحاديث أهل البيت(ع)، فلا يتجمد في ظروف الزمان والمكان التي فرضتها أسباب النزول، لأنها في ما صح منها، تمثل المنطلق لحركة الآية في الواقع في مضمونها الذي يتجاوز خصوصياته لينفتح على إعطاء القاعدة والمبدأ والخط على مدى الزمان والمكان والناس، ولا يقتصر على المورد الذي أنزلت فيه الآية، وقد قال الفقهاء أن المورد لا يخصص الوارد.
إن حركة الاجتهاد في فهم القرآن تبقى حيّة منفتحة على كل جديد، لأن النص القرآني لا يمثل ـ في أغلب آياته ـ النص الصريح الذي لا يلتقي مع الاحتمال المخالف، بل يمثل الظهور الذي هو حركة في الظن الذي يقارب الاحتمال، وليس معنى في القطع الذي لا مجال فيه لاحتمال آخر.
وفي ضوء ذلك، قد يجد الإنسان الفرصة في فهم الظاهر بما لم يصل إليه الآخرون، وقد يلتقي الباحث المفكر ببعض الجوانب في هذا النص مما لم ينتبه إليه الباحث الآخر الذي قد يكون نظر في القضية من جانب آخر.
ولذلك، فإننا ندعو إلى تفاسير جديدة من خلال فهم جديد ومعاصر، ولست أقصد بذلك أن تكون الجدّة عقدة ضعف نعيشها في حاجتنا إلى الإجابة عن أسئلة العصر لنتكلف الجديد من خلال التأويل الذي لا يحتمله النص، أو محاولة إدخال كل النظريات العلمية الطبيعية والاجتماعية والنفسية في المدلول القرآني بالدرجة التي لا يحتملها المعنى في الآية، كما لاحظناه في بعض التجارب التفسيرية التي حاولت أن تجد في كل كلمة (الذرة)، مثلاً، حديثاً عن علم الذرة أو نحو ذلك.
فإن فشل هذا المنهج قد يدخل القرآن في متاهات فكرية لا تخدم الحقيقة الإسلامية، لأن النظرية قابلة للخطأ وللصواب، فهي لا تمثل الحقيقية العلمية الحاسمة، فكم من النظريات التي كانت تمثل البديهة العلمية لدى جيلٍ من الناس أصبحت تمثل الخرافة لدى جيل آخر، فلا يمكن إخضاع القرآن لها، مع الملاحظة المهمة في هذا الاتجاه، وهي أن التفسير عبارة عن استنطاق النص من خلال مدلوله اللغوي أو العرفي من دون أي تكلف تأويلي إلا بحسب القرائن المحيطة بالنص في نطاق قواعد المجاز والاستعارة والكناية التي هي الخط البلاغي لحمل اللفظ على ظاهره من خلال الظاهر الثانوي الجديد بفعل القرائن الواضحة. وإننا إذ نؤكد هذه الفكرة، فإننا لا نمانع في وجود الكثير من الإيحاءات العلمية في عالم الطبيعة والإنسان، والمفاهيم الاجتماعية والنفسية، ولكن لا بد من محاولة الوصول إلى طبيعتها وتفاصيلها من خلال منهج دقيق يلتقي بالفكرة في المدلول اللفظي على أساس القواعد الثابتة في اللغة العربية في فهم المضمون، مع إبقاء الاحتمال لفهم جديد.
توثيق السنّة ضرورة إسلامية:
وإننا في تركيزنا على هذا المنهج في فهم النص القرآني، لا نريد إغفال السنّة التي هي المصدر الثاني المعصوم في وعي الحقيقة الإسلامية، لأنها صادرة عن النبي الذي {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}[النجم/3ـ4]ولأن الله خاطب عباده في كتابه بقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[الحشر/7].
ولكن المشكلة في السنّة هي مشكلة توثيقها من حيث إثبات صدور الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم صدوره، لا سيما إذا عرفنا أن السنّة لم تدوّن في عهد النبي وعهد الصحابة، بل كانت مخزنة في صدور الرواة الذين قد يكونون ـ مع امتداد الزمن ـ عرضةً للخطأ والنسيان، بالإضافة إلى التعقيدات الواقعية في المجتمع الإسلامي التي دفعت بالوضع والدسّ في الأحاديث إلى الواجهة، كما نجده في الإسرائيليات وفي الأحاديث المتضمنة للكثير من المفاهيم التي كانت حاجة لبعض الأوضاع السياسية المتحددة في الواقع الإسلامي في تقويم هذا الشخص أو ذاك بشكل إيجابي أو سلبي، ليكون ذلك حجة في ساحة الصراع، الأمر الذي جعل مسألة الاستيثاق مسألة صعبة، ولهذا بذل العلماء جهداً كبيراً في عملية التوثيق للسنة من خلال التدقيق في أحوال الروايات، ومضمون الرواية بحيث تحوّل ذلك إلى علوم جديدة مثل علم الرجال)) و((علم الدراية)) و ((علم الحديث)).
ولكن هذه الجهود لم تصل إلى نتيجة حاسمةٍ لا تقبل الجدل، فما زال النقاش دائراً بين العلماء في وثاقة هذا الراوي أو ذاك، أو في انسجام هذا المضمون الحديثي مع العقل أو القرآن وعدم انسجامه، حتى أن البعض من علماء الحديث لا يجد وثاقة حاسمة في الأحاديث الواردة في الصحاح المتعددة التي اشتهر الحكم بصحتها، حتى اعتبرها البعض ((ثاني كتاب الله))، بحيث لم يناقش أحد في صحة أي حديث يرويه البخاري أو مسلم أو غيرهما، انطلاقاً من الثقة بتصحيح مؤلف هذا الصحيح أو ذاك، وقد بدأ الجدل الحادّ يفرض نفسه على هذه المداخلة الجديدة التي قد تكون مفيدة للفكر الإسلامي، لأن الالتزام الحاسم بصحة كل الأحاديث الواردة في الصحاح من دون مناقشة قد يفرض علينا بعض المفاهيم التي قد تختلف مع القرآن أو مع الحقيقة العلمية الحاسمة مما لا يمكن نسبته إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويؤكد هؤلاء بأن وثاقة المؤلف وتدقيقه لا يصل بالقضية إلى مستوى البديهية، بل يصل إلى الوثاقة الشخصية، بمعنى أن المؤلف انطلق من حجة معذرة له أمام الله، ولكن يمكن لغيره أن يكون له رأي آخر في هذا الراوي أو هذا الحديث، وقد يجد بعض المتحمسين أن هذا الرأي يسيء إلى الإسلام لأنه يصادر الكثير من الأحاديث المأثورة المتضمنة للمفاهيم الإسلامية في شؤون العقيدة والشريعة والحياة، ويؤدي إلى التشكيك في السنّة، فلا يبقى منها إلا الشيء القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولكننا نتصور أن القضية ليست بهذا المستوى من السلبية، لأن المسألة المطروحة ترتكز على إبقاء الاجتهاد مفتوحاً في توثيق الأحاديث في الصحاح وغيرها، لا في إلغاء الأحاديث كلها، وربما يؤدي ذلك إلى نفس النتيجة التي يلتزمها الصحاحيون أو إلى ما يقرب منها.
إن القضية التي تفرض نفسها علينا، هي تأصيل المفاهيم الإسلامية من خلال توثيق مصادرها، حتى لا يكون تقديس الرجال على حساب قداسة المضمون الفكري الإسلامي، الذي قد لا يكون قريباً إلى الصواب إذا صادف أن الراوي للحديث لم يكن في مستوى المسؤولية، وقد رأينا _ في تاريخ الحديث ـ أن بعض الناس الذين يحملون أفكار الغلوّ والزندقة، كانوا يلجأون إلى استعارة كتب الرواة الموثوقين، فيدسون فيها الأحاديث الملائمة لأفكارهم، ويتقنون تقليد الخط بحيث لا يلتفت إليها حتى الراوي نفسه الذي يسلّم كتابه إلى الرواة عنه ليكتبوها باعتبار أنها رواية الثقة، فقد جاء في بعض أحاديث الإمام الصادق(ع) عن شخص يدعى أبا الخطاب محمد بن مقلاص، أنه كان يدس الأحاديث في كتب أصحاب الإمام محمد الباقر، فيدخل فيها أحاديث الكفر والغلوّ والزندقة، وهذا ما جعل الرواة يعرضون الأحاديث الموجودة لديهم على الأئمة المتأخرين كالإمام علي بن موسى الرضا، كما كانوا يرفضون كتاب الحديث وروايته من الكتاب، بل يطلبون من الراوي أن يحدثهم به شفاهاً، لاحتمال الدس في كتابه.
إن السنّة هي مصدر أساس في الإسلام، ولكن توثيقها لا بد أن يخضع لمحاكمة دقيقة، لا سيما إذا كانت تتضمن تفسيراً لكتاب الله بما يخرجه عن ظاهره أو يفيض في تفاصيله فيبتعد بالمضمون عن مساره الفكري الحقيقي، الأمر الذي يبدل صورة القرآن في الوجدان، ويحوله إلى كتاب يتلاعب به أصحاب العقائد والأهواء من خلال الأحاديث التي تكتسي قداسة من ورائها، فيفرضون على الإسلام مفاهيم منحرفة، وعقائد ضالة، وآراء خاطئة قد تطال العمق للفكر الإسلامي، لأنهم كانوا إذا لم ينجحوا في تأويلهم الاجتهادي للقرآن، يجدون سبيل النجاح الأفضل في تحويل أفكارهم وعقائدهم إلى أحاديث شريفة يضعونها تبعاً لأهوائهم أو أهواء النافذين في هذه المرحلة أو تلك.
بين الكتاب والسنّةوهذا هو الذي نلتقي به في الكثير من أحاديث التأويل والتفسير الباطني الذي يفسر الكلمة يغير معناها من دون دليل من العقل أو النقل، بحيث يحوّلون القرآن إلى كتاب رمزي لا يراد منه ظاهره، لأن ألفاظه تتحول إلى مصطلحات خاصة ذات رموز معينة لا يعلم تاويلها إلا الله والراسخون في العلم، كما يفسرون هذه الفقرة من الآية.
وقد أساء هذا الاتجاه إلى العقيدة الإسلامية والمفاهيم القرآنية، ما أدّى إلى تجميد القرآن في أشخاص معينين ودوائر محدودة، مع عدم السماح بأية مناقشة فكرية أو حديثية أو قرآنية، لأن قداسة الأفكار الشائعة من خلال الأحاديث تمنع العلماء من مناقشتها، فإذا تجرأوا عل مناقشتها وإثارة علامات الاستفهام حولها، فإن الاتهامات بالانحراف عن المذهب والخروج عن الدين، والاستغراق في التفكير المادي، هي الرد الذي يوجه لهؤلاء العلماء في أسلوب غوغائي لا يلتقي بالحق من قريب أو بعيد.
وقد درج بعض المفسرين على إخضاع الآية في مضمونها للأحاديث الواردة في موضوعها من دون تأكيد على صحة الأحاديث من حيث السند أو من حيث المتن، الأمر الذي أدى إلى اختلال الظهور البارز في الآية بشكل واضح.
إننا لا نمانع في قبول القاعدة المنهجية، وهي أن الكتاب قد يخصص بالسنة المتواترة القطعية أو بالسنّة الظنية الثابتة بخبر الثقة، وقد يحمل على خلاف ظاهره كذلك، ولكن مع إثارة القرينة التي تؤكد إرادة المعنى غير الظاهر، لأن فقدانها يبتعد بالطريقة التعبيرية عن الانسجام مع القواعد البلاغية الثابتة لدى أهل اللغة، فإنهم يرون أن إرادة خلاف الظاهر لا بد أن يخضع في دلالة اللفظ إلى قرينة عقلية أو لفظية مقارنة له أو قريبة إلى جوّه تصرف اللفظ عن ظاهره، فلا موقع للحالة الخالية من الدليل المضادّ لإرادة الظاهر.
ولعل الانطلاق من هذا المنهج في المسألة التفسيرية يؤدي إلى التخلص من الكثير من الأحاديث المفسرة للآية من دون دليل على التفسير ، من اللفظ أو من السياق أو من الجو المحيط به.
وهناك نقطة مهمة لا بد من إثارتها في المنهج، وهي أن الآية قد تفسر الحديث وتحصره في دائرتها المحدودة، بدلاً من أن يجذبها إلى دائرته الواسعة التي تتجاوز مدلولها الظاهر، وذلك إذا ورد حديث يدل على الاستدلال بالآية على موضوع واسع في الوقت الذي تضيق الآية في مضمونها عنه، فإننا نرى أن الآية تضيق دائرته بدلاً من توسيع الحديث لمدلول الآية.
مثال ذلك، جاء في الأحاديث المأثورة، في تفسير قوله تعالى:{واجتنبوا قول الزور}[الحج:30].
قال: الغناء، وفي قوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور}[الفرقان:72] قال: الغناء وفي قوله تعالى:{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً}[لقمان:6] قال الغناء. فإننا نلاحظ في مدلول ((قول الزور)) و((لهو الحديث)) أنه ظاهر في الغناء المشتمل على كلام باطل، أو حديث يؤدي إلى اللهو الذي يضل عن سبيل الله، وبذلك تكون الآية دليلاً على حرمة الغناء في هذه الدائرة المحدودة، فلا تشمل الغناء المشتمل على كلام الحق كالمناجاة أو المدائح النبوية، أو القضايا السياسية والاجتماعية والوجدانية المعبّرة عن مضمون مفيد للإنسان ومنسجم مع الخط الإسلامي الأصيل، كما يوحي الاستدلال بالآية، من خلال هذا المفهوم، على حرمة الغناء، أنه ليس محرماً بذاته، بل بلحاظ انطباق هذه العناوين القرآنية عليه.
ولكن بعض الفقهاء حاولوا أن يركزوا على الصوت اللهوي أو اللحن الباطل بعيداً عن المضمون، بحيث جعلوا سعة مفهوم الغناء حاكمةً على مدلول الآية، ولذلك حكموا بحرمة الغناء مطلقاً، حتى في الكلام الذي يقرّب الإنسان من الله ويجعل من اللحن وسيلة من وسائل تعميقه في النفس.
ولكننا لا نجد هذا الفهم منسجماً مع ظاهر الآية إذا كانوا يركزون على اللهو والباطل صفتان للحن، لأنه هو الذي يمثل الفرق بين كون الكلام غنائياً أو غير غنائي، فإن الردّ على ذلك أن التأكيد القرآني هو في المضمون الباطل الذي يزيده اللحن، بل تتحرك من خلال المضمون الذي يدخل إلى الوجدان فيشغله عن الله ويضله عن سبيله، وذلك من خلال دور اللحن في استقبال الإنسان للفكرة بطريقة أسرع وأكثر تأثيراً.
وهناك مثل آخر، وهو ما ورد في قوله تعالى:{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه}[المائدة:90]، وقوله تعالى:{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر لله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}[المائدة:91].
وورد في الأحاديث أن ((الشطرنج ميسر)) وأن النرد((ميسر))، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع)، الذي سأله شخص ما الميسر قال: الشطرنج، قال: قلت أنهم يقولون أنها النرد وقال النرد أيضاً.
فقد ذهب الفقهاء إلى حرمة النرد والشطرنج مطلقاً، حتى لو لم يكن اللعب مشتملاً على العوض الذي يوجب صدق القمار عليه من خلال الأحاديث الواردة في النهي عنهما مطلقاً، وقد رأوا أن تطبيق الميسر عليهما يدل على توسعه مفهوم الميسر لما يشمل اللعب بدون عوض، أو أن المراد به آلات الميسر حتى لو لم يلعب بها بالطريقة القمارية.
ولكننا نرى أن للميسر ظهوراً في اللغة في لعب القمار الذي يختزن في مضمونه مفهوم العوض، وهذه هي القرينة على أن إطلاق كلمة الميسر على الشطرنج والنرد يطلق من هذه الملاحظة، على أساس أن تطبيق العنوان على شيءٍ يدل على أن المراد بالشيء ما يتناسب مع العنوان وليس العكس، ولذلك ذهب بعض الفقهاء، ومنهم الإمام الخميني، إلى حلية اللعب بالشطرنج والنرد إذا خرجا عن عنوان آلة القمار.
وهناك ملاحظة أخرى في المنهج، أشرنا إليها في بداية الحديث، وهي اعتبار القرآن ـ في مفهومه الفكري ـ حاكماً على الأحاديث في مدلولها، فلا بد من أن يكون موافقاً للمفهوم القرآني على مستوى القيمة، أو الفكرة، أو الخط، فإذا استطعنا أن نؤصّل أي مفهوم قرآني في مورد من الموارد، فلا بد من أن نطرح الأحاديث الدالة على ما ينافي هذا المفهوم، لا سيّما إذا كان أبياً، بطبيعته عن التخصيص والتقييد، وذلك كما في قوله تعالى:{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطّيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}[الإسراء:70] فإنها تدل على مفهوم ((تكريم الإنسان)) بشكل مطلق في مضمونه الإنساني، فإذا ورد هناك حديث يدل على خصوصية سلبية في بعض الشعوب بحيث يوحي بعدم الكرامة، فإن الآية ترفضه، وذلك كالأحاديث الواردة عن الأكراد ((أنهم قوم من الجن كشف عنهم الغطاء))، فإن تكريم الله لبني آدم لا يتناسب مع هذا المضمون السلبي.
وهكذا نجد الفكرة القرآنية حول بشرية الأنبياء وقدراتهم الذاتية التي لا تبتعد عن طاقة البشر، فلا يملكون القيام بأي شيء في حركة الكون من حولهم مما لا يملكه البشر، ولا يعلمون الغيب، إلا بما قدرهم الله عليه في حالات طارئة، كما في حالات التحدي التي تفرض المعجزة الخارقة للعادة، كانقلاب العصا ثعباناً، أو إحياء الميت وإبراء الكمه والأبرص، أو تحويل النار إلى شيء بارد لا يحرق صاحبها، أو الإخبار بالغيب في بعض الحالات مما تفرضه حركة الرسالة في مواقع التحدي، من دون أن يكون ذلك شيئاً متجذراً في الذات المقدسة للنبي أو للولّي، بحيث تكون له القوة على تغيير الكون وإدارته وتحويله من حال، إلى حال لأن ذلك ليس دوره الرسالي، كما أن القرآن الذي يتحدث عن طاقة الأنبياء المحدودة ودوره الخاص في ما عبر عنه الله في حديثه عن جواب الرسول للمشركين الذين أرادوا منه أن يفجر الينبوع من الأرض، وأن يكون له بيت من الذهب، أو يرقى إلى السماء بطريقة عادية أو نحو ذلك، فقال لهم: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً}[الإسراء:93]، فإذا ورد عندنا حديث يدل على (الولاية التكوينية) بالمعنى الذي ذكرناه، فإن الكتاب يدل على خلاف ذلك، فإن المسألة ليست مسألة استحالة، ذلك، لأن الله الذي أقدر الأنبياء على المعجزة الخارقة للعادة قادرٌ على أن يمنحهم القدرة على ذلك، ولكن المسألة أن القرآن يدل على خلاف ذلك.
إن الغيب حقيقة من حقائق الإيمان، ولكن القضية هي أن الله لم يجعل الغيب قاعدة للحياة وللكون وللإنسان، ولكنه أقامها على السنن الكونية والاجتماعية التي تخضع لها حركة الوجود والإنسان، وإذا كان الغيب قد يخرق العادة في دائرة السنن، فإنه يمثل حالة محدودة في دائرة الحاجة الضرورية التي تفرضها حركة الرسالات في تحديات الواقع. إنني لا أريد أن أبحث هذه المفردات بطريقة تحليلية تفصيلية، ولكني أريد الإشارة إلى النماذج الفكرية التي فرضت نفسها على كثير من أساليب التفكير لدى بعض المفكرين من العلماء، انطلاقاً من الاستغراق في استنطاق الحديث مع الطريقة العقلية التجريدية التي تتحدث عن الاستحالة والإمكان بعيداً عن دراسة الأمور على صعيد تبرير الفكرة على أساس الدور أو حاجة الواقع، وعن المقارنة بين مضمون الحديث ومضمون القرآن، حتى أن البعض منهم يحاول تأويل القرآن لمصلحة الحديث من دون ضمانة لصحة الحديث في نفسه.
إننا نحاول أن نحذّر من هذا الاتجاه الذي يثير الاهتمام بالحديث بالدرجة التي قد ترتفع به فوق القرآن بطريقة لا شعورية، على أساس الذهنية التي تختزن في داخلها أن القرآن قابل للتأويل أكثر من الحديث، لتتحرك بها بطريقة عفوية مع عدم إقراراها بذلك في الكلام المعلن.
إن القرآن هو النور الذي يضيء غيره، وهو الذي أنزله الله ليخرجنا من الظلمات إلى النور، وهو الهدى الذي يهدينا إلى الحقيقة الإلهية الحاسمة. وفي ضوء ذلك، لا بد لنا من الانفتاح عليه بكل فكرنا والمحافظة على نصوصه وظواهره بطريقة علمية دقيقة، فلا يجوز لنا أن نفرض عقائدنا واتجاهاتنا وأوهامنا عليه، بل لا بد من أن نرجع إليه من أجل تصحيح مفاهيمنا من عناصر التخلف، ومن ركام الأضاليل والأوهام التي فرضت نفسها على الذهنية الإسلامية العامة، فهو المرجع الذي نرجع إليه، وهو النور الذي نستضيء به، وهو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد تكفل الله بحفظه في قوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر:9].
وأخيراً، إن القرآن هو الكتاب الواحد الذي يلتقي عليه المسلمون، فلماذا لا يكون المرجع الذي يرجع إليه المسلمون في عقائدهم وشريعتهم ومناهجهم ومفاهيمهم في الحياة ليؤكدوا الوحدة الإسلامية من خلاله في العودة إليه والرجوع إلى آياته استجابة لنداء الله تعالى:{ أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}[الأنبياء:92].