علماء أمريكيون يستعيدون الحمام المهاجر بعد انقراضه
غالبا ما كان يقال إن الطير الذي كان يدعى «الحمام المهاجر passenger pigeon، كان الأكثر عددا في أمريكا الشمالية. وكان يحلق بأسراب كبيرة تغطي السماء لساعات. وكان الاعتقاد حينذاك أن انقراض هذا الطير الذي كانت أعداده تعد بالمليارات، هو من احتمال سخيف جدا مثل سخافة احتمال اختفاء الصراصير من على وجه الأرض. إلا أن الصيد الجائر، وتدمير بيئة هذا الطير وموطنه، دفعاه إلى الانقراض. وكانت «مارثا»، وهو الاسم الذي أطلق على آخر حمامة من هذا النوع، قد ماتت في حديقة الحيوان في ولاية سينسناتي عام 1914.
لكن ثمة خططا جارية لإعادة هذا الحمام إلى الطبيعة، عن طريق استخدام أسلوب علمي غريب جداً يدعى «مقاومة أو مجابهة الانقراض» de – extinction وهذا المشروع يرأسه بن نوفاك عالم الأحياء الشاب الذي تدعمه مجموعة من العلماء الكبار، من أمثال جورج تشيرش عالم الفصائل الحيوانية في جامعة هارفارد. وقد بدأ ترويج هذه الفكرة في اجتماع «تيديكس» في واشنطن، بتمويل من قبل «ريفايف آند ستور»، وهي مجموعة كرست خدماتها لإعادة الحيوانات المنقرضة إلى الطبيعة.
ويبدو أن فكرة نوفاك مستمدة في بعض جوانبها من فيلم «الحديقة الجوراسية» Jurassic Park، الذي دارت فكرته حول إعادة الديناصورات إلى الطبيعة عن طريق ملء الحامض النووي (دي إن إيه) بأجزاء مقابلة من حيوانات مماثلة تنتمي إلى الفصيل ذاته، مثل الطيور والزواحف وغيرها. وخطط نوفاك مع زميله بيث شابيرو عالم الأحياء في جامعة سانتا كروز لاستخدام الحمض النووي للحمام المهاجر المأخوذ من عينات في المتاحف، بالإضافة إلى حمض «الحمام ذي الذيل الريشي» band – tailed pigeon المشابه له، الذي يعيش حاليا في الطبيعة.
وتنص الخطة على إدخال الجينوم (الخريطة الجينية) المركب من عينات الطير المهاجر إلى الخلايا الجذعية للحمام الأخير، أي ذي الذيل الريشي، لكي يتحول لاحقا إلى خلية حية تكون الخلايا الأولية لكل من البويضة والحيوان المنوي، ثم يقوم الباحثون بوضعها في حمامة صغيرة نامية من حمام الذيل الريشي. ومع نمو هذه الحمامة ثم تناسلها فإن أفراخها ستأتي حاملة بشكل مشابه، أو قريب جدا، من الحمام المنقرض.
ويختلف هذا الأسلوب عن عملية الاستنساخ، فباستطاعة نوفاك استخدام مزيج من الجينات المستحصلة من حمائم مختلفة لتكون النتيجة فريدة من نوعها، ومختلفة عن الطيور الأصلية. وغالبية الحمائم تتكاثر بسرعة، بحيث يمكن إتمام عملية «مقاومة الانقراض» في أقل من سنة. وإنتاج سرب كامل يكفي لإطلاقه في البرية، من شأنه أن يستغرق عقدا كاملا من الزمن.
ولا يعتقد الخبراء بوجود أي عقبات تقف حائلا أمام هذا المشروع، تماما مثل محاولات إنتاج حيوان الماموث الشبيه بالفيل الذي انقرض تماما، وذلك عن طريق استخدام حمض الأخير النووي كمنصة.
لكن المشروع ما يزال يواجه بعض التحديات، من بينها تلوث الكثير من عينات الحمض النووي للحمام المهاجر، فالمئات من بقايا هذا الحمام الموجود في المتاحف قد تعرضت إلى الحرارة والأوكسجين. ولهذا فقد تتطلب الحاجة استخدام معدات متخصصة لتمييز الأجزاء غير المعطوبة من الحمض النووي، وبالتالي تركيبها وتحويلها إلى جينات عاملة. وهي عملية مضنية قد تستغرق سنوات.
لكن المشكلة الأهم، كما يقول بعض العلماء، هي أنه حتى ولو جرى إعادة إنتاج مثل هذه الحمامة، فهي لن تكون قادرة على التعايش مع بيئة اليوم، إذ ينوي نوفاك العمل على تناسل الأجيال الأولى من هذه الطيور في الأسر، في حدائق الحيوان، لكنه يأمل لاحقا في إطلاقها في البرية. وقد ينتج عن ذلك عدد من العقبات، وهي أن غابات اليوم لا تستطيع دعم هذه الحمائم وتكاثرها، نظرا إلى عادات بنائها للأعشاش، مما يجعلها عرضة للموت ثانية. ويقول سكوت سي ييش من مجموعة الحفاظ على البط «دكس أنليمتد»، إن الغذاء الرئيسي الذي تعول عليه، وهو نوع من الجوز، أو البندق الذي ينمو على شجر الزان محدود للغاية. ثم إن هذا الطير لا يستطيع العيش على أراض تغيرت عما كان يعهده في الماضي وتأقلم عليه. لكن مارك تويري الباحث في شؤون الغابات الأميركية يقول إن الأمراض قد قلصت مساحات هذه الأشجار، لكن بيئة الغابات ككل يمكنها دعم تعداد واسع من هذه الطيور، إذا تمكن الإنسان من استعادتها.
غير أن خبراء آخرين يخالفون هذا الرأي نتيجة عادات بناء الأعشاش التي يسلكها هذا الطير، وبالتالي فإن إطلاق بضعة طيور من هذا النوع قد تكون فكرة في غير محلها، بل يتوجب إطلاق عدد هائل منها لكي تبقى وتعيش، لأنها تخضع إلى ما يسمى «استراتيجية النهم الافتراسي» التي تنفذها الأحياء الأخرى ضدها. وهي أشبه بحيوان زيز الحقولcicada . فكل زيز من هذا الفصيل هو سهل الالتقاط من قبل الحيوانات المفترسة نظرا لطيرانه البطيء والمتكاسل. لكن ثمة الملايين من الزيز في مكان واحد وفي وقت واحد، مما يعني وجود وقت كاف لها للتناسل والتكاثر، واضعة بيوضها قبل هجوم الحيوانات المفترسة عليها لالتهامها جميعها.
ولكن إذا ظهر بضعة ألوف منها في أي وقت، فإن غالبيتها ستكون عرضة للافتراس قبل أن تسنح لها الفرصة للتكاثر. وهذا هو حال هذه الحمائم. فهي قد نجحت في الماضي على هذه الشاكلة. لكن إن كان عددها قليلا، خاصة أنها تبني أعشاشها بشكل سريع ومهلهل، التي غالبا ما تكون قريبة من الأرض، وتكون عرضة للطقس السيئ، مما يتوجب على الأنثى منها أحيانا وضع بيضها على الأرض. وعندما يصبح الصغار منها جاهزين لمغادرة العش بعد 14 يوما فقط من النمو والتطور، تظل قابعة على الأرض أياما، عرضة للحيوانات المفترسة. ولكن إن كانت أعدادها كبيرة، خاصة أن الأنثى منها تضع بيضتين، واحدة منها تسقط على الأقل على الأرض، فهي تستطيع تحمل هجوم الثعالب والدببة والعقبان والأفاعي وغيرها عليها، التي تسترسل في التهامها بأعداد كبيرة، ومع ذلك تظل أعداد كافية منها باقية وتستمر في العيش. وهذا أمر مثالي عندما يكون هناك سرب مكون من خمسة ملايين حمامة، ولكن وجود بضعة آلاف منها نتيجة عملية «مجابهة الانقراض»، كما يقول كيرك مانتي العالم الأحيائي، فإن العملية برمتها معرضة للانهيار.
مع ذلك فقد تنجح هذه الاستراتيجية، مع وجود أشخاص مكرسين لهذه الغاية، من أمثال نوفاك، كما حصل مع النسر الأميركي في كاليفورنيا الذي كان قريبا من الانقراض، بحيث جرى تنسيله في حدائق الحيوان، وإطلاقه بعد ذلك شيئا فشيئا إلى البرية، مع بداية التسعينات من القرن الماضي. وهنالك حاليا 200 منه هناك. ويبقى السؤال: هل الالتزام باستعادة «الحمام المهاجر» كاف لذلك النجاح؟ إن وجود بضع عينات منه في قفص للطيور يعتبر إنجازا تاريخيا، لكن إعادته للبرية قد تمثل تحديا كبيرا.
المصدر: الشرق الأوسط