ان من الحكماء من قد ذكر العشق وذمه , وذكر مساوىء اهله وقبح اسبابه , وزعم انه رذيله , ومنهم من قال ان العشق فضيله نفسانيه , ومدحه , وذكر محاسن اهله , وزين اسبابه , ومنهم من لم يقف على اسراره وعلله واسبابه بحقائقها ودقة معانيها , فزعم انه مرض نفساني , ومنهم من قال انه جنون الهي , ومنهم من زعم انه همة نفس فارغه , ومنهم من زعم انه فعل البطالين الفارغي الهمم الذين لا شغل لهم .
ولعمري ان العشق يترك النفس فارغه من جميع الهم الا هم المعشوق , وكثرة الذكر له والفكره في امره , وهيجان الفؤاد , والوله به وباسبابه , ولكن ليس ذلك من فعل البطالين الفراغ كما زعم من لا خبرة له بالامور الخفيه والاسرار اللطيفه , ولا يعرف من الامور الا ما تجلى للحواس وظهر للمشاعر , واما الذي يدرك منها بصفاء الذهن وجودة التمييز , وكثرة الفكر , وشدة البحث , ودقة النظر , فهم عنها بمعزل وذلك ان الذين زعموا ان العشق هو مرض نفساني , او قالوا انه جنون الهي , فانما قالوا ذلك من اجل انهم راوا ما يعرض للعشاق من سهر الليل , ونحول الجسم , وغؤور العيون , وتواتر النبض والانفاس الصعداء , مثل ما يعرض للمرضى , فظنوا انه مرض نفساني ,
واما الذين زعموا انه جنون الهي , فانما قالوه من اجل انهم لم يجدوا لهم دواء يعالجونهم به , ولا شربه يسقونها اياهم فيبرؤون مما هم فيه من المحنه والبلوى الا الدعاء لله بالصلاة والصدقه والقرابين في الهياكل ورقى الكهنه وما شاكل ذلك كما حكى العاشق بقوله, وهو عروه بن حزام قتيل الحب :
بذلت لعراف اليمامه حكمه .............. وعراف نجد , ان هما شفياني
فما تركا من سلوه يعرفانها ..............ولا رقيه الا بها رقياني
فقالا : شفاك الله ! والله ما لنا ............بما ضمنت منك الضلوع , يدان
واشعار كثيره للعشاق في هذا المعنى .
ومن الحكماء من زعم ان العشق هو افراط المحبه وشدة الميل الى نوع من الموجودات دون سائر الانواع ,والى شخص دون سائر الاشخاص , او الى شيء دون سائر الاشياء , بكثرة الذكر له , وشدة الاهتمام به , اكثر مما ينبغي , فان كان العشق هو ذا فليس اذا احد من الناس يخلو منه , اذ كان لا يوجد احد الا وهو يحب ويميل الى شيء دون سائر الاشياء , اكثر مما ينبغي , وكثير من الحكماء والاطباء يسمون هذه الحاله ماليخوليا , وقد اكثر الاطباء القيل والقال في هذه العله , واعياهم علاجها , نريد ان نتكلم في العشق المعروف عند الناس , وذلك انهم لا يسمون العشق الا ما كان من هذه الحال , نحو شخص من ابناء الجنس , ذكرا كان او انثى .
ومن الحكماء من قال ان العشق هو هوى غالب في لنفس نحو طبع مشاكل في الجسد , او نحو صوره مماثله في الجنس , ومنهم من قال ان العشق هو شدة الشوق الى الاتحاد , ولهذا فاي حال يكون عليها العاشق يتمنى حالآ اخرى اقرب منها , ولهذا قال الشاعر :
اعانقها , والنفس بعد مشوقه .......اليها وهل بعد العناق تدانتي ؟
والثم فاها كي تزول صبابتي .......فيزداد ما القى من الهمياني
كان فؤادي ليس يشفي غليله .......سوى ان يرى الروحين يمتزجاني