TODAY - 23 March, 2011
صداقة مستمرة رغم خسائر الحرب الفادحة
فقد صادق ساقه اليمنى وخسر محمد اليسرى... فتقاسما حذاء واحدا

محمد يلعب بالكرة بساقه السليمة ويقف في الصورة الاخرى الى جانب رفيقه صادق (نيويورك تايمز)

لطالما يتذكر صادق علي ومحمد احمد انهما الاثنان كانا لايفترقان عن بعضهما. ولقد كبرا في المنطقة نفسها غرب بغداد، وسوية ذهبا للدراسة. وحلما معا ان يكونا من مشاهير كرة القدم. وكانا يلعبان العابا فيديوية في رواق مفتوح، عندما نزل عليهما صاروخ من السماء، غمرهما بالنار والشظايا. فقد صادق ساقه اليمنى، وفقد محمد اليسرى وقُتِلَ صديقهما الثالث. وبعد أربع سنوات، مثلت حياة الصديقين مقياسا لضريبة المعاناة التي تحملها اطفال العراق بسبب الحرب الدائمة. وهناك آلاف لا يمكن حصرها من الاطفال الذين أصيبوا بانفجارات الصواريخ والسيارات المفخخة، وفي المعارك وفي تبادل اطلاق النار في الشوارع، فضلا عن نحو 800 ألف طفل فقدوا احد والديهم، وفقا لتقديرات الامم المتحدة.
إن الاطفال هم الارث الاكثر مدعاة للحزن بعد 8 سنوات من القتال في العراق. ومع الخدمات الاجتماعية التي ما زالت معدومة، فان الاباء والمسؤولين والمنظمات المدنية يقولون ان الحكومة العراقية غير قادرة على توفير الملجأ والعناية الطبية والخدمات الاستشارية لعدد كبير من هؤلاء الاطفال.
لكن هذين الصبيين بقيا رسائل شاخصة تدلل على استمرار الحياة. ففي الوقت الذي راحت الصداقات تتآكل، واهتمامات العوائل تتوجه تدريجيا صوب المشاغل اليومية، لم يترك الصديقان محمد (14 عاما) وصادق (15 عاما) بعضهما، وهما يسيران معا على عكازيهما، بمساعدة الساقين الصفراوين البديلتين، في طريقهما إلى سن بلوغ غامض.
ويقول أحمد سوادي والد محمد "إنهما يتشاركان كل شئ، ومعا هما اقوى".
وكان صادق؛ الصبي ذو الشعر الاشعث والتكشيرة الدائمة المشابهة لمغني بوب، هو من أسرَعَ بالرجوع ثانية إلى الحياة، وكان يحث صديقه محمد ليلبس ساقه الصناعية، على الرغم من التعليقات الساخرة من أقرانهما. اما محمد، ذو الابتسامة الخجولة والذي كان يشبه السلك، فكان الشخص الذي انكمش على نفسه. وكان يتراجع ليصعد على سطح الدار، عندما يلعب بقية الاولاد في الخارج. كان طالبا جيدا يريد ان يكون مهندسا. وحاول ابقاء صديقه صادق، مواظبا على الدراسة بعد ان عادا بعد اشهر التعافي.
وفي لحظات المرح كانا يتشاجران، عندما يلعبان كرة القدم، ويتجادلان حول من سيقوم بدور لاعب كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو؛ مهاجم نادي ريال مدريد الأبرز، ويسخران من كونهما يستطيعان الاشتراك في لبس حذاء واحد. وإذا ما قارب غضب أحدهما حد الانفجار، يبادر الثاني لتهدئة صاحبه، أو ان يعود به إلى ذكريات الانفجار.
يقول محمد "من الافضل ان ننسى".
وتبرعت منظمة غير ربحية في حي الشعلة ببغداد، وهو حي مترب تزدحم به الشعارات الموالية لمقتدى الصدر، وورشات تصليح السيارات، وترعى به قطعان الماشية، بالأطراف الصناعية البديلة والعكازات للصديقين، على الرغم من أن الصديقين صادق ومحمد يقولان إن الاطراف غير ملائمة لهما، وتفرك اللحم الحي.
أما عائلتهما، فتقول إنهما تعلما بسرعة ثمن ان تكون مصابا. وعلى الرغم من كون العمليات الجراحية للاصابة كانت مجانية، ظلت العائلتان تدفعان ثمنا لكراسي المعوقين والمضادات الحيوية ومسكنات الالم ومراجعة العيادات الخاصة.
وفي حالة أخرى، تقول السيدة نور حامد انه يتوجب عليها شراء اكياس الدم صنف AB موجب، من مصرف الدم المحلي لابنها البالغ من العمر سنتين، بعد تعرض جزء صغير من جمجمته للاقتلاع جراء انفجار سيارة مفخخة. وتتابع أن الاطباء اخبروها ان المستشفى لا تقدم دما مجانيا للتعويض.
انتصار علي الجبوري؛ رئيسة اللجنة البرلمانية المعنية بشؤون العوائل والأطفال في مجلس النواب العراقي، تبين أن "ليس الدم فقط هو ما يجب شراؤه، بل حتى الحقن. وكان من المفروض ان تتولى الحكومة المسؤولية، لكنها ظلت غير جادة في التعامل مع هؤلاء الناس". وتؤكد نور حامد، التي تشتري الدم، أن الفتحة الكائنة في جمجمة ابنها لم "تعالج".
طفل ثان أعيد بناء ركبته بشكل جزئي، بقطعة من أحد أضلاعه، بعد أن اصابته رصاصة، وأخبر الاطباء ذوي الطفل أن ليس لديهم الادوات ولا المال، لبناء مفصل جديد.
وما زالت الذراع اليمنى لموسى كاظم (13 عاما)، مرفوعة بحمالة، وتعاني التنمل والضمور، بعد أن أصيب موسى في تبادل لاطلاق النار بين ميليشيات متحاربة قبل سنتين. ولا تتمكن عائلته من توفير نفقات علاجه في الخارج، حتى أن الصبي بدأ يتعلم الاكل والكتابة بيده اليسرى.
وبعد سنوات من العنف والتمرد المسلح، فان هناك نحو 3 الاف طفل انتهى بهم المطاف بعد مقتل ذويهم، الى ملاجئ الايتام البائسة التي تديرها مجموعات اعانة أو الحكومة، فيما انتقل آخرون للعيش مع عوائلهم الاكبر والابعد. لكن هناك الاف الاطفال ممن لم يتم تعدادهم، يجوبون شوارع بغداد والمدن الاخرى، وينامون في البنايات المقصوفة، ويقتاتون على الازبال، ويبيعون حلوى السمسم والمناديل الورقية للسيارات المارة.
ويقول مدافعون عن حقوق الانسان ونواب في البرلمان العراقي، إن حكومة بلادهم شكلت لجان تعويض للاطفال والكبار المصابين، لكن ملء الاستمارات وحضور لجلسات الاستماع، قد يستغرق من 3 الى 4 سنوات، تنتهي باستلام نحو 2000 دولار أميركي لا غير.
وشهدت أعداد الاطفال المعوقين تدنيا ملحوظا، بعد انخفاض نسبة العنف 90 في المئة، قياسا بفترة العنف الاكثر دموية. ووفقا للامم المتحدة، فان 475 طفلا اصيبوا منذ ربيع 2009، اي منذ البدء بالاحتفاظ بتسجيل الاعداد، فيما حجبت وزارة الصحة العراقية ارقامها.
وتكافح عائلتا صادق ومحمد من اجل شراء اطراف صناعية جديدة، بعد ان كبر الولدان، ولم تعد القديمة مناسبة. وفي بلاد تصل نسبة البطالة فيها الى 20 في المئة، وفي حي يكبر الاولاد فيه لينقلوا الطابوق، او يعملوا سائقين لسيارات الاجرة او عمال بناء، فان العائلتين ينتابهما القلق حول مصير ابنيهما.
يقول والد محمد "أعرف ما يحدث للشباب الذين يعانون المشاكل نفسها. انهم فقراء جدا حد العوز، وافكر بابني محمد عندما اراهم. لا يمكنني ان اقدم الكثير له، فليس لدي اي مال. وكل ما يمكنني عمله هو ان اطمأن إلى أنه يذهب للمدرسة".
وفي الوقت الحاضر، يسلك محمد هذا الطريق، لكن صديقه صادق يتخلف عن الذهاب للمدرسة. وبعد عدم دوامه شهورا عدة في المدرسة، فشل صادق في سنتين دراسيتين متتاليتين، وانتقل جراء ذلك الى مدرسة مسائية، حيث اعمار الطلاب تتراوح بين من هم في سن المراهقة وسن الثلاثين.
وفي احد الأماسي الاخيرة، وجد الطلاب باب المرسة مغلقا، ووقف الطلاب والمعلمون خارجا، ولم يكن هناك تدريس مدة اسبوع. وأراد صادق ان يعرف إن كان قد نجح في الامتحانات الاخيرة، وتساءل "ما هي درجاتي؟"، فأجابه المدير عبد الكناني "لدي الف طالب لأتعامل معهم، ولم أكمل درجاتكم".
ومع الغاء الدراسة مرة اخرى، فان الاولاد عادوا للعب كرة القدم، على مبعدة مئة ياردة من مكان سقوط الصاروخ. وتقافز صادق خلف الكرة، فيما كان محمد يدور على ساقه السليمة، مسجلا نقطة بعد اخرى، في هدف حددته كتل خرسانية.
قال صادق "هذا هو افضل اوقات اليوم".