المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شيفرة دافنشي
(( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعتْ وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ))
إن أهم ما يمكن الاستدلال به في معرض قراءة النص القرآني المبارك هو طريقة أداءالتشبيه الوارد بحرف الكاف في قوله تعالى (( وليس الذكر كالأنثى )) إذ شبه بالكاف وأورد النفي بــ ليس في التشبيه وهو أسلوب بلاغي ربما نقف على سره في ما نعرضه لاحقاً .
من الواضح أن قوله تعالى (( والله أعلم بما وضعتْ وليس الذكر كالأنثى )) هو قول عن الذات الإلهية وليس صادر عن امرأة عمران (ع) بدليل التاء الساكنة وكذلك بقرينة أخرى هي ( إني ) إذ وردت (إني) 4 مرات في النص وهي : (( إني نذرتُ )) , (( إني وضعتها )) , (( إني سميتها )) , (( إني أعيذها )) وقد توسط قوله تعالى ـ الصادر عنه جل شأنه في سياق حكاية القول ـ فكان أن جاء بعد (( إني وضعتها )) الثانية وقبل (( إني سميتها )) الثالثة , وبذلك فهو يمثل جملة معترضة يمكن أن تكون بين شارحتين , لتستمر حكاية القول بعدها على لسان امرأة عمران . الأمر الذي يعطي قوله تعالى ((والله أعلم بما وضعتْ وليس الذكر كالأنثى )) أهمية عميقة كونها صادرة عنه جل شأنه لا عن المخلوق وهو هنا امرأة عمران , إذ لا مجال للاعتراض على دلالة (( ليس الذكر كالأنثى )) ولكن السؤال هو هل تحمل جملة التشبيه المؤداة بالنفي دلالة تفضيلٍ ما ؟ وأي طرفي التشبيه هنا هو المفضل ؟ وللإجابة عليه فلنأخذ أمثلة :
نقول : فلانة كالقمر .. والدلالة أنها جميلة كالقمر .
ونقول : القمر كفلانة .. والدلالة هي أنها جميلة , لكنها هنا أجمل في تشبيهنا من المثال الأول .
والسبب يكمن في مسألة الإسناد , إذ المُشبه في المثال الأول (فلانة) والمُشبه به هو ( القمر ) , وهذا ما يكون معكوساً في المثال الثاني , إذ أصبح المشبه به هو ( فلانة ) , ولو أسقطنا النص القرآني على الأمثلة لأصبح لدينا :
الذكر كالأنثى = فلانة كالقمر , وهذا يصح لو أن أحد طرفي التشبيه في النص القرآني معلوم التفضيل كما في ( القمر ) وهو ما لم يقم به دليل أبداً , ولذلك فإنه لا سبيل لحصول التفضيل .. إذ نصبح أمام : الذكر كالأنثى = فلانة كالقمر وهو يساوي أيضاً القمر كفلانة .. أي كل الفرضيات تتساوى .
هذا في حالة سلبنا للنفي بــ ( ليس ) كما عرضنا أعلاه .. أما لو أعدنا ( ليس ) فسنكون حينها أمام الآتي :
ليس الذكر كالأنثى = ليست فلانة كالقمر = ليس القمر كفلانة , ومع عدم إمكان وجود التفضيل بين دلالتي (الذكر) و (الأنثى) كما أسلفنا فإن دلالة النفي تكون خارج مفهوم التشبيه القائم على التقريب على سبيل بيان الفضل أو الأفضلية وهي كما قولنا تماماً : ليس الباب كالشباك , و ليس الليل كالنهار , و ليس الأب كالأم , و ليس الإله كالرب , وهكذا مما ينطلق فيه التشبيه لغرض آخر سوى غرض بيان الأفضلية , وقد كثر مثل هذا الاستخدام للتشبيه في بيان الأمور المنطقية والنقاش حول الماهويات وتعريف المشكلات وما إلى ذلك مما لا يقصد به بيان الفضل والأفضلية بل يقصد به الوصول لفهم ما هو معروض من طرفي التشبيه كما في مقولة ( تعرف الأشياء من أضدادها ) أو ( نقائضها ) وهذا هو سر النفي بــ (ليس) الذي جاء مقروناً بالتشبيه في النص القرآني الكريم , وقد جاء مثل هذا التشبيه في (التمثيل) بالنفي بشكل أبلغ في قوله تعالى (( ليس كمثله شئ )) للوقوف على إفهام المخاطب عظمة الله جل شأنه وتعالى .
حتى الآن لا يبدو في النص أي احتمال تفضيل لأي من طرفي التشبيه (الذكر) , (الأنثى) .. وبالمناسبة فإن النص القرآني فيه من الأسرار ما يجب الوقوف عليها من استخدامه للفظة (ذكر) لا غيرها من مرادفاتها وكذلك لفظة (أنثى) لا غيرها من مرادفاتها , ولو تقصينا هذه المفردة ـ أنثى ـ لوجدنا أنها وردت في القرآن الكريم في مواضع كان النص القرآني يتحدث فيها إما عن مسألة الخلق والجعل الخلقي أو عن تأكيد أن الإثابة أو العقاب لا يكون إلا عن التكليف لا عن الخلق كما في قوله تعالى : (( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً )) 124 النساء .
كما أن هناك متعلق دلالي في قوله تعالى (( محرراً )) فيما لو تم ربطه دلالياً بقوله تعالى (( والله أعلم بما وضعتْ وليس الذكر كالأنثى )) إذ لو قلنا بأن (محرراً) حالٌ كما ذهب إلى ذلك محمد جواد مغنية لأصبحنا أمام أطروحة صالحة للاستدلال والله أعلم بالصواب , ومفادها :
أن امرأة عمران (ع) إنما نذرت ما في بطنها أياً كان جنسه , و ( محرراً ) حال لــ (( ما في بطني )) كما ذهب لذلك (مغنية ) أو أنه يكون حالاً لــ ( النذر ) أي نذراً محرراً , وعلى أي احتمال من احتمالي الحال فإنه يمكن أن تبتنى الدلالة من أن النذر لم يكن مقصوداً بضميمة جنس المولود وإنما هو متحقق خارجه , ولا يمكن إنكار دلالة الإشارة لــ ( الذكر ) في (محرراً ) لو قصد بها حال لــ ( ما في بطني ) لكنها إشارة غير إلزامية بدلالة ( ما ) واستخداماتها اللغوية . وهكذا نكون أمام هذه الأطروحة بأن امرأة عمران (ع) نذرت ما في بطنها أياً كان جنسه , ولذلك قالت (( إني وضعتها أنثى )) وكأنها تنتظر تكليفها من الله تعالى تجاه المطلوب في تنفيذ النذر بالكيفية المناسبة لجنس أنثى , وفي المقابل فإن ذلك لم يكن ليمنعها من القول ذاته لو كان المولود ذكراً باستبدال (أنثى) بــ ( ذكر ) ، وهنا يكون قوله تعالى (( وليس الذكر كالأنثى )) شارحاً ومفسراً لقوله تعالى على لسان امرأة عمران (( إني وضعتها أنثى )) أي أنها قالت طالبةً التكليف فأكد الله تعالى قولها بأن التكليف يختلف بين الأنثى والذكر في الطريقة والأداء لا في أفضلية أحدهما على الآخر .
ولا أدل على هذه الأطروحة من قوله تعالى في الآية اللاحقة لهذه الآية المباركة (( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ... )) إذ نلحظ قوله تعالى في الآية السابقة (( ... فتقبل مني إنك أنت السميع العليم )) وهنا نرى قوله تعالى (( فتقبلها ربها بقبول حسن ... )) وكأن ما جاء بينهما هو حكاية للحدوث وتفسيراً لتفاصيله , وإلا فإن طرفي الحدوث كائنة بين (( فتقبل مني )) و (( فتقبلها ربها )) وهو ما يؤكد قبول النذر , وكأنه يلمح لعدم حضور معنى جنس المولود في أصل مسألة النذر في ذهن امرأة عمران .
كل ما ذكرته هنا هو من قبيل الاستدلال اللغوي والأسلوبي خارج قصدية القول بأن هذا هو معنى النص القرآني الذي عناه القرآن الكريم .. أسأل الله الصواب في القول والعمل .. والله أعلم .