﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر/1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (القدر/2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (القدر/3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (القدر/4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر/5)﴾
يدور حديثي حول سورة القدر: القضاء والقدر ضربان: ضرب قابل للتبديل، وضرب غير قابل للتبديل. في أدعية شهر رمضان نقرأ طالبين من الله أن يقدر لنا قدراً من الضرب الذي لا يتغير ولا يتبدل. من هذا يتضح أن هناك قدرين: -القدر الذي يمكن تبديله- القدر الذي لا يمكن تبديله.
والدعاء من أرفع مطاليب البشر، إذ أن الإنسان يريد بالدعاء أن يغير المقدرات، أي إنه يريد أن تؤثر الأرض في السماء، والطبيعة في ما وراء الطبيعة. نحن لا نعلم أي المقدرات يمكن تغييرها، وأي المقدرات لا يمكن تغييرها، ولكننا ندعو دعاءنا حتى نغير القدر الذي يمكن تغييره، فإذا لم يكن من النوع الذي يمكن تغييره، نكون على كل حال، قد دعونا، والدعاء عبادة، وللدعاء أثران: أ-الدعاء بحد ذاته تقرب الإنسان من الله. ب-إذا لم يتحقق الدعاء فعلا، فإنه مستجاب، لأن أصل الدعاء يعطي أثره، أما تحقق المطلوب أو عدم تحققه فأمر آخر إنها سورة من تلك السور ذوات النغمات الخاصة، وفيها موضوع مثير للتساؤل.
فلنتدبر الآن في هذه الآيات، وفي آيات أخرى، لنرى ما يستفاد من هذه السورة الصغيرة. ونبدأ بشرح بعض الألفاظ، يتضح من آية ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ أن هذه الليلة عظيمة الشأن من عند الله، وأن البشر لا يقدر على أدراك أهميتها، فهي ليلة جليلة وعظيمة، حتى أنها ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ حيث الملائكة والروح تنزل فيها بأمر من ربها، ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾.
النقطة الأولى هي أن القرآن قد نزل في ليلة القدر، غير أن هذه السورة لا تعين أية ليلة هي ليلة القدر هذه، إلا هناك آية أخرى في سورة البقرة تقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة/185)﴾، فهو يصف شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. إذن، ليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان، بدلالة الآية الأولى من سورة القدر، وهذه الآية من سورة البقرة.
هنالك آية أخرى من سورة الدخان، فيها توضيح آخر لليلة التي نزل فيها القرآن. وتلك الآية هي: ﴿حم (الزخرف/1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (الزخرف/2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف/3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف/4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (الزخرف/5)﴾ أي إن ليلة نزول القرآن ليلة مباركة، وإننا نحذر وننذر بالخطر، وهي ليلة تحدث فيها أمور.
وعليه فإن الليلة التي نزل فيها القرآن، بحسب آية سورة البقرة، هي من ليالي شهر رمضان، وبحسب هذه الآية، هي ليلة مباركة تجري فيها أمور، أي إنها ليلة التقدير، ليلة توضع فيها سلسلة من التقديرات. وبأخذ آية ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ بهذا الخصوص، يتضح أن الليلة من ليالي الله التي تجري فيها أمور.
ثمة نقاط لا بد من البحث فيها: يتبادر إلى الذهن هنا سؤال. فإذا كان نزول القرآن في ليلة القدر، وليلة القدر من ليالي شهر رمضان، أفلا يعني هذا إن النبي قد بعث في ليلة القدر؟ فلماذا نحتفل بالمبعث في اليوم السابع والعشرين من رجب، مع أن القرآن يصرح بنزوله في رمضان؟
هنا لابد من أن نشير إلى موضوع، وإن لم يكن جوابا على هذا السؤال، إلا أننا لابد أن نشير إليه، وهو إن للقرآن نزولين: النزول الإجمالي، والنزول التدريجي، أو التفصيلي. فالنزول الإجمالي هو النزول غير الزماني، والنزول التدريجي هو النزول التفصيلي الزماني.
وكلمة "نزول" بحسب اللغة العربية، ترد في موضعين اثنين: الأول من باب إفعال (إنزال) ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، والآخر من باب تفعيل (تنزيل)، كما في الآية ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (السجدة/2)﴾. علماء اللغة العربية يقولون إن هناك فرقاً بين هاتين الصيغتين من حيث المعنى. فأنزلناه ترد حيث يقصد النزول الكلي دفعة واحدة، وتنزيل ترد حيث يكون التنزيل تدريجياً فالقرآن، إذن، إنزال وتنزيل.
ففي هذه الآيات﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر/1)﴾ و﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ و﴿حم (الزخرف/1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (الزخرف/2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف/3)﴾ يأتي الفعل من إفعال، وهي كلها تشير إلى نزول إجمالي دفعة واحدة، غير مشروط بزمان، نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قبل تنزيله عليه بهيئة روح، لا بهيئة آيات وكلمات وألفاظ وسور. وبعد أن استقرت تلك الروح في الرسول الكريم، وهي روح القرآن، نزل القرآن مرة أخرى بهيئة ألفاظ وكلمات وسور هذه المرة.
إن لدينا بهذا الشأن روايات كثيرة، فقد ورد عن الأئمة الأطهار مرارا أن القرآن قد نزل على الرسول الكريم بهيئتين: بهيئة إجمالية واسعة ودفعة واحدة، وبهيئة تفصيلية تدريجية زمانية. فذلك النزول الإجمالي الذي نزل على الرسول دفعة واحدة، هو النزول الذي حدث في شهر رمضان. في ذلك الوقت لم يكن الرسول قد بعث بعد. بعثة الرسول تبدأ منذ أن نزل جبرئيل يحمل إلى الرسول القرآن والروح والحقيقة، في صورة ألفاظ وكلمات. ذلك هو زمان بعثة الرسول. وهو ما حصل في شهر رجب، ودام 23 سنة.
هنالك لفظتان لكتاب الله: القرآن والفرقان، كما جاء في سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (الفرقان/1)﴾، الفرقان من مادة"فرق" أي الفصل والتفريق. والمقصود هو أننا أنزلنا القرآن مفرقا، مجزأ، لكي تقرأه على الناس تدريجيا، يرى بعضهم أن لفظة "قرآن" تطلق على كتاب الله مجموعا، وتطلق عليه لفظة "فرقان" إذا قصدت أجزاؤه وتفاصيله، كما نزلت آياته وسوره.
إن ما ذكرناه يتعلق بنزول القرآن، إن كان في شهر رمضان أم في شهر رجب، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ أولاً، لماذا أطلق على هذه الليلة إسم ليلة القدر؟ أهو لأنها ليلة التقدير، الليلة التي تعين فيها مقدرات الناس؟ تلك الليلة الوحيدة في السنة حيث يكتب لكل امرئ ما قدر له، أم إن معنى القدر هو التقدير والتثمين؟ أي الليلة الثمينة ذات القدر، على كل حال، حتى لو أخذنا المعنى الثاني، فإنها عالية القدر باعتبار المعنى الأول، إذ يقول بعد ذلك إنها خير من ألف شهر.
ثم هناك مسألة تطرح نفسها بخصوص الزمان والمكان، هل إن أجزاء الزمان وأجزاء المكان لها قيمتها بحد ذاتها، وبصرف النظر عن ارتباطها بحدث معين؟ الواقع إن أجزاء الزمان، من حيث كونها أجزاء زمان، لا يختلف الجزء منها عن الجزء الآخر بشيء. أي إن درجة وجود الجزء واحدة لكل الأجزاء، فلا فرق بين جزء من الزمان وجزء آخر، ولا يكون جزء أفضل من جزء، كأن يكون جزء فضيلا وآخر غير فضيل.
أما الأجزاء المكانية، أي الحيز المكاني من الأرض، فقد يكون هناك فرق بين أرض وأرض، إذ أن أجزاء المكان ليست ببساطة أجزاء الزمان، فهناك فروق بينها، ولكنها فروق مادية لا معنوية، فما معنى هذا؟ يعني إنه إذا كانت الأرض سبخة، لم تعط حاصلا، وإذا لم تكن سبخة، أعطت حاصلا وافرا.
أما من حيث فائدة البشر، فأرض تكون وافرة البركة، وأخرى تكون سبخة عديمة العطاء، فهذا مكان فيه بركة، وآخر لا بركة فيه. فالأرض المعطاء تعدل عند الزارع مئة ضعف من أرض لا خير فيها. فإذا وهبت مزارعاً أرضا ملحا، فما نفعها له؟ ولكنك اذا وهبته هكتاراً واحدا من أرض خصبة، فقد يعتاش منها سنته. وهذا أمر مادي ويرتبط بحياة الإنسان. فماذا عن الجانب المعنوي؟ فهل في الأرض بحد ذاتها اختلاف من حيث المعنويات؟ أي بقطع النظر عن ارتباطها بأي حدث او واقعة، وقبل أن يوجد أي إنسان في العالم، فهل يكون لقطعة أرض فضل على أخرى؟ فمثلا، هل إن أرض مكة أو الكعبة، قبل أن يخلق بشر على وجه الأرض، وقبل أن يظهر إبراهيم وإسماعيل كانت تمتاز بشيء على أية قطعة أرض أخرى.
الجواب هو أن ليس لأجزاء الزمان، ولا لأجزاء المكان، بذواتها، أي اختلاف معنوي فيما بينها، فليس ثمة أرض مباركة، ولا أخرى خبيثة (معنوياً). أجزاء الأرض كلها متساوية. غير أنها قد يتغير حالها، لأمر طارئ، فتصبح مباركة، كقطعة أرض متروكة، ثم تبنى مسجدا، فتصبح معبداً، وتكون لها سلسلة من الآداب والفروض الخاصة ويكون المكان مباركاً. لماذا؟ لأننا جعلناه مسجداً. كذلك البلدان. لا ريب إن الله يعلم منذ الأزل إن الأرض الفلانية ستكون مباركة لسبب ما.
إن معرفة الله بأن الأرض الفلانية ستكون مباركة شيء، وأن الأرض بذاتها مختلفة شيء آخر. فالكعبة، منذ إبراهيم، بل لعلها منذ آدم، كانت المنطقة التي اختيرت لتكون مسجدا يعبد فيه الله الأحد. فهي بالإضافة إلى كونها مسجداً، تسمى بيت الله أيضاً. فالاحترام الذي تحظى به الكعبة يفوق احترام أي مسجد آخر. إن مسجداً ما ينظر إليه باحترام أكبر لأن ولياً من أولياء الله قد أقام الصلاة فيه. فمساجد العراق مثلا كلها مقدسة، إلا أن مسجداً واحدا يفوقها قداسة لأن الإمام علي عليه السلام قد صلى فيه، أو خطب فيه، أو ألقى فيه موعظة. وكذلك المسجد الذي صلى فيه الإمام زين العابدين ركعتين، حيث يكون من المستحب أن نقيم نحن أيضا يه ركعتي صلاة! وهذا يوصل إلينا شرف العبادة وقيمتها.
فالكعبة إذن نالت شرفاً لم ينله مسجد آخر ولا معبد، كمكان. والزمان كذلك أيضا، فالزمان يكتسب فضيلة بالإنسان. فعندما يعين زمان للعبادة يأخذ الناس يتعبدون فيه، أي إن الإنسان يتعبد في الوقت الذي يتعبد فيه الآخرون. فكل هذه الدعوات والصلوات ترتفع إلى السماء دفعة واحدة، فيكون هذا فضيلة أخرى.
نعود الآن إلى (ليلة القدر) فبحسب قول القرآن، ليلة القدر هذه التي هي خير من ألف شهر، هي ليلة واحدة في الحياة كلها، وهي تلك الليلة التي نزل فيها القرآن على الرسول. يقول كثير من أهل التسنن إن الأمر ليس كذلك، وإن ليلة القدر أكثر من ليلة واحدة، تعود كل سنة طيلة حياة الرسول، وعندما رحل الرسول رحلت ليلة القدر أيضا (هذا كلام لا أساس له).
إذن فليلة القدر مستمرة. هل كانت ليلة قدر للنبي؟ يقول النبي، نعم كانت، وكل الأنبياء كانت لهم ليالي قدر. ترى هل كانت ليلة قدر قبل أن يوجد إنسان أو نبي على وجه الأرض؟ هذا أمر مشكوك فيه. ليلة القدر تعني ليلة الإنسان الكامل، ليلة الولي الكامل. ولكن ما الذي نفهمه من القرآن نفسه؟ بعد أن قال القرآن ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ ثم بعد ذلك يقول ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ ولم يقل ليلة القدر كانت خيراً من ألف شهر. والأهم من هذا هو إن ﴿أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ جاء فيها الفعل بصيغة الماضي، ولكنه بعد ذلك يستعمل المضارع ليدل على الدوام والاستمرار، فيقول ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ أي إن الملائكة والروح ينزلون بأمر ربهم إلى الأرض، فهي ليلة لم ينقطع فيها الارتباط بين السماء والأرض، إنها ليلة الارتباط بين السماء والأرض، حيث لا ينزل ملك واحد أو اثنان، بل الملائكة والروح (ينزلون)، بصيغة المضارع وليس (نزلوا) بصيغة الماضي.
إن الذين لا يقولون باستمرارية ليلة القدر قليلون، يقول الأئمة عليهم السلام إسألوا هؤلاء، عندما تنزل الملائكة والروح ليلة القدر، إلى أين تنزل؟ هل تنزل إلى الأرض، أم أنها تنزل على القلب؟ إن الملائكة تنزل على الإنسان، على قلبه، فينبغي أن يكون قلب الإنسان قلباً جديراً بنزول الملائكة عليه. إن النزول لا معنى لهغير هذا. فالقضية هي أن ليلة القدر ليلة الإنسان الكامل. ولكن لماذا تكون ليلة القدر في رمضان؟ في الإسلام، لا معنى لأن تكون ليلة القدر في غير رمضان.
إن للأنبياء وللأولياء، كالأئمة الأطهار والذين هم أعلى مرتبة من كثير من الأنبياء، مسائل تخص عالمهم القريب من الله، لا نستطيع نخن فهمها. فهذا موسى بعد أن يصبح نبيا، ويريد أن تنزل عليه الأرواح، يذهب إلى ميقات ربه أربعين يوماً. في الليالي الثلاثين الأول لا يستطيع إنهاء دورته السلوكية ﴿..وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ.. (الأعراف/142)﴾، لقد كانت المدة المقررة ثلاثين ليلة، ولقد بذل موسى خلال تلك الليالي الثلاثين جهداً جيداً لكي يبلغ مرحلة الجدارة النهائية، ولكنه لم يستطع. فأضيف إلى المدة عشر ليالٍ أخر. كانت الليالي الثلاتون قد بدأت في غرة شهر ذي القعدة إلى نهايته، ولما لم يستطع، أضيفت عشر ليال ابتداء من ذي الحجة حتى العاشر منه، حينئذ فتح قلب موسى، وحصل له ما كان ينبغي له. وقد حصل هذا كله بعد أن بعث بالنبوة.
إن لكل إنسان ولكل وليّ دورة واحدة في السنة، بل إن لكل إنسان ومؤمن وظيفته في أن يقيم الصلاة خمس مرات في اليوم، ولكن له شهر واحد للعبادة، والشهر المخصص للعبادة، للتطهير، للتوجه إلى الله، للسمو، هو شهر رمضان.
فشهر رمضان قد عين لهذا، ولهذا فهو أفضل أشهر السنة. لعل اليوم العاشر من ذي الحجة يعتبر في نظر موسى من أفضل الأيام، ولكن في نظر نبي الإسلام شهر رمضان هو الأفضل. وفي هذا الشهر يستفيد الإمام أضعاف ما نستفيد، إذا أنه يبدأ مسيرته من أول الشهر حتى يصل إلى ليلة هي ليلة القدر، وعندئذ نفتح له الأبواب، و﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾.
أما آية ليلة من ليالي رمضان هي ليلة القدر، فإن الروايات لم تبين ذلك، وفي ذلك بعض التعمد. هل ليلة القدر هي الليلة التاسعة عشر؟ أم الليلة الحادية والعشرون؟ أم الليلة الثالثة والعشرون؟ أم أن بعض المسائل تتهيأ في الليلة التاسعة عشرة، ثم تبرم في الليلة الحادية والعشرين، ثم تصل مثلا، مرحلة التوقيع عليها في الليلة الثالثة والعشرين؟ وهناك احتمال آخر في عدم تعيين ليلة القدر، وذلك إن ليلة القدر في كل سنة تخص الإمام وتتعلق بحالته في تلك السنة فقد ينهي الإمام دورته السنوية في الليلة التاسعة عشرة فتنزل فيها الملائكة عليه. وقد ينهي دورته في الليلة الحادية والعشرين، أو في الليلة الثالثة والعشرين. أي إن الدورة لا تقل عن 19 يوما، وهي تنتهي في واحدة من هذه الليالي، وعندئذ هل يكون للإنسان الكامل يد في مقدرات العالم أو الناس؟
قليلون أولئك الذين يصدقون أن تكون روح هذا الجرم الصغير لوحاً للتقديرات الآلهية، إنما نحن لا نصدق، لأننا لا نعرف الإنسان، فلا نعرف إن لوح روح الإنسان الكامل هو لوح التقدير الإلهي، وإنه ههنا يتحقق النزول والتقدير، وبناء على ذلك فإن ليلة القدر هي ليلة الإنسان الكامل، وأن القرآن قد نزل في تلك الليلة، وإن النبي كانت له ليلة قدر في كل سنة، وكذلك الإمام وأن الأرض لا تخلو أبدا من الإنسان الكامل، وإن السنة لا تخلو من ليلة القدر، وإن ليلة القدر لا تخرج عن شهر رمضان.
عرفنا إن ليلة القدر من ليالي رمضان، تلك الليلة التي تتصل فيها الأرض بالسماء، الملك بالملكوت، وبحسب تعبير القرآن تفتح أبواب السماء على الأرض، حتى تكاد تتحد الطبيعة وما وراء الطبيعة في كيان الإمام عن طريق وجوده، وهو وجود مادي ملكي، ووجود ما ورائي. وهذا ما يذكره القرآن بصورة إجمالية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر/1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (القدر/2)﴾ والخطاب طبعاً للرسول هنا، وفي أماكن أخرى يخاطب الناس، إذ يقول أن البشر لا يدركون ما هي ليلة القدر. ترى ماذا في هذه الليلة يجعلها خيراً من ألف شهر؟ هل هي ثواب العبادة فيها؟ لم لا؟ لأننا عندما نقيم الصلاة نقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة/5)﴾.
فهنا تكون العبادة جماعية، وتكون أرفع مرتقى، وذلك لأن روح الإنسان تكون عند ذاك على استعداد أكبر، ولها حضور أقوى، حيث يكون جمع من الأطهار مشغولين بالعبادة في اللحظة نفسها. ولقد ثبت أن للمادة أمواجاً تصل إلى الطرف الآخر من الدنيا، فكيف بالأمواج الروحية التي لا يمكن إدراكها؟ فإذا كانت ليلة القدر ليلة يكون فيها الإمام في حالة العبادة وفي تهيج روحي يجعل أبواب السماء تفتح على الأرض، وإذا كان أفراد من أمثالنا يرغبون في مثل هذه العبادة، فإن فيض السعادة الذي نحسه في هذه الليلة يعدل ألف ليلة. أي إن الجو الذي يولد يكون جو العبادة. جو التسامي، جواً يناسب إحياء الليل، إن فضيلة هذه الليلة لتربوا على ألف من الأشهر العادية.
في الختام، نخلص من هذه الأقوال إلى أن القرآن يقول: إن القرآن قد نزل في ليلة القدر﴿وما أدراك ما ليلة القدر﴾ وإن ليلة القدر أفضل من ألف شهر، أي إن الليالي لا تبلغ هذه الليلة. لماذا؟ ماذا حدث؟ لأن الملائكة والروح (الروح في القرآن حقيقة أرفع من الملائكة) ينزلون بأمر من ربهم.
ولكلمة "الأمر" في القرآن استعمالات: فالأمر قد يكون إرادة حصول شيئ، وعندئذ يكون أمر الله هو وجود الشيئ عينه. فإذا كان الأمر هنا هكذا، يكون النزول إيجاداً إلهيا. وأما إذا كان الأمر أمراً، فإنه يرتبط بكل شأن من شؤون العالم، ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر/5)﴾ أي إن الليلة من أولها إل آخرها سلام وسلامة، والسلام هي التحية، وهي التي تلقيها الملائكة في الإياب وفي الذهاب، والسلامة هي لمن يريد في هذه الليلة أن يسلم من كل الآفات، ومن الوساوس، ومن كيد الشيطان.
منقول