كتب الرجل العجوز رسالة؛ وجدوها بخط يده ملقاة تحت مقعده المتحرك؛ ومعها حزمة صور قديمة له تحكي ثمانين عاما من عمره، بيد مرتعشة صنعت حروفا تقرأ بصعوبة بالغة كتب رسالته إلى مجهول، ربما أبنائه المقيمين في بلد بعيد، ربما زوجته التي رحلت عنه قبل ثلاثة أشهر، ربما إلى أصدقاء العمر الذي مضى ومضوا معه، ربما إلى جيرانه في الباب المجاور وهما عروسان جديدان، ربما إلى كل الناس، كتب: حياتي انتهت في الوقت الذي لم أجد فيه أحدا يقول لي كلمة تؤنس وحدتي، كلمة طيبة تصبرني على صعوبة الأيام وحيدا على مقعد متحرك، لا يتحرك إلا ليفتح الباب ليجد أمامه الطعام الذي تعده زوجة بواب العمارة، مسلوقا ودون شهية لكنه يمكن أن يوصلني لليوم التالي وأنا على قيد الحياة.

لا يمكن أن تكون هذه هي الحياة التي عشتها والتي يجب أن أستمر فيها، حياة لا يسأل فيها أحد على أحد، لا يسأل جار على رجل عجوز وحيد مريض مقتول من الخوف والألم، كيف أستمر في هذه الحياة التي لا يقول لي فيها إنسان صباح الخير، ما أصعب أن تفقد كل الكلمات التي تدفئ حياتك وتصبح عاريا من كل اهتمام، كنت أظن أن الكلمات في حياتنا مجرد عبارات مجاملة نتبادلها ونقولها لكي نتفاهم، الآن في عمري أيقنت أن الكلمات هي الحياة نفسها، هي الدواء وهي الطعام وهي الأمل وهي الرغبة في الضحك والبكاء، كيف أشفى ولا أحد يقول لي من قلبه سلامتك، كيف أشبع وليس حولي إنسان يقول لي بالهناء والشفاء، كيف أنتظر غدا ليس فيه أحد يهتم أن أكون على قيد الحياة، كيف أضحك وليس على ضحكتي من يقول اللهم اجعله خير، كيف أبكي ولا أجد من يمسح دموعي ويقول لي قول يارب.

أنا وحيد إلا من نفسي، ونفسي وحدها لا تكفي لكي أعيش لها، أشعر بالموت يقترب، إذا لم أكن دخلت إلى الموت ذاته منذ رحلت آخر من كانت تقول لي: عامل إيه النهاردة، زوجتي التي كان حتى شجارها رحمة.

سأموت، وستقرأون هذه الرسالة على روحي، وتقولون: مسكين رجل عجوز تركناه يموت دون أن نجد بعض الوقت لكي نتكلم معه، مجرد إنسان يتكلم معي، ما هذه القسوة، ألم يعد عند شخص ما خمس دقائق يتكلم معي فيها؟


لا تبكِ يا ولدي الغائب على موتي، ابكِ على حياتي التي قضيتها دون أن أجد أحدا يتكلم معي، في يوم لا تحسب له حسابا ستمر بنفس اللحظات، أن تكلم أربع حوائط ولا ترد عليك، وتعض على أصابعك من الندم ولا تتألم إلا وحدك. كنت أتمنى أن أموت وحول فراشي أنتم، نتكلم أقول لكم خلاصة ما رأيته في حياتي، وتقولون لي ربنا يطول في عمرك، ونختلف ولو على مكان جنازتي وعزائي.

لكنني للأسف رحلت.. حرمتوني نعمة الكلمات الأخيرة، وحرمتكم نعمة النظرة الأخيرة إلى وجه أب طيب أحبكم أكثر من نفسه، ولم ينتظر أن يقضي أيامه الأخيرة محروما من الكلام معكم دون هذه الآلة اللعينة التي تأتي بصوتكم من آخر الدنيا، ثم تودعونني حين تنتهي المكالمة.

كنت أتمنى أن أقول لكم كلاما كثيرا كثيرا، لكنني حرمت من هذه الأمنية الأخيرة، وكنت أتمني أن أستمع إلى كلام كثير لكنني حرمت أيضا هذه المتعة الأخيرة.. وداعا.

كم رسالة يتركها آباء أو أمهات أو أشخاص في الحياة؛ كل يوم يبحثون فيها عن كلمة طيبة يسمعونها من شخص عزيز؟ آلاف الرسائل وملايين الأمنيات، فالكلمة الطيبة التي تهدينا في العتمة نورا هي طوق النجاة.

لا تؤجل كلمة طيبة كنت تود أن تقولها لإنسان يستحقها إلى الغد، فقد تنقذه الكلمة اليوم من الموت غدا، وقد يكون في حاجة لها اليوم لكي يعيش إلى الغد، نفدت من أفواهنا الكلمات الطيبة.. جف القلب عن ابتكار حروف طيبة بريئة تصبح رسولا بين القلوب.

هل أصبحنا كسالى عن تبادل كلمات طيبة، أم بخلاء في الكلمة الطيبة؟! مشاعرنا تهفو لكلمة طيبة تعيد لها قدرتها على الإحساس الطيب، تعيد لنا الابتسامة الشفافة التي تكشف ما في القلب من حب وسعادة، تعيد الثقة المفقودة والأمل التائه والحلم الضائع. كلمة، في البدء كانت كلمة، ومنها تصبح الحياة نورا أو نارا زهرة أو رصاصة، وجه طفل أو أصابع مجرم.

كانت الكلمة أول مخلوقات الله وأنبلها، وأعزها، وأقواها، كانت الكلمة: السماء والأرض والملائكة وآدم وحواء، جعلها الله صلاة ودعاء وعيدا وعبادة وخيوط حرير تجمع بين البشر.

الكلمة الطيبة حبيبة الله، يحبها على لسان عبده وهو يفتح عينيه للصباح ويستفتح باسم الله، يحبها شهادة حق، وعبارة حب، وعابرة حزن، وعنوان حلم، وعيني طفل في ساعاته الأولى.

الكلمة الطيبة يقين، الكلمة الطيبة ضمير، الكلمة الطيبة دعوة خير، الكلمة الطيبة حضارة بشر، الكلمة الطيبة نبوءة تقدم.

في هذه اللحظة هناك إنسان بائس كان في حاجة إلى كلمة طيبة لكي لا يصبح بائسا، هناك إنسان شارد كان في حاجة إلى كلمة طيبة لكي يبقى متيقظا، هناك إنسان يفكر في الانتحارـ ولو مجرد فكرة عابرةـ يمكن أن نجعله يفكر في الحياة وفي المستقبل وفي السعادة لو أننا فقط قلنا له كلمة طيبة يستحقها.

كل إنسان مهما كانت مساحته على الأرض ينتظر كلمة طيبة، كلمة ساحرة تجعله يشعر بقيمة أنه على قيد الحياة، كلمة صادقة صافية تفسر شيئا حقيقيا داخله فيؤمن أكثر بأهمية أن يكون في هذه الحياة.

عاصفة ما مرت من هنا منذ سنوات، قطعت قدرتنا على إنجاب الكلمات الطيبة وتركت في الألسنة حروفا قاسية؛ عابثة عبثية ساخطة على كل شيء حتى أنفسنا، لم يعد في الأسواق حروف نبيلة تكتب كلمات طيبة نتبادلها إذا جاء النهار، وننهي بها اليوم إذا جاء الليل، الكلمات الطيبة أصبحت كما الأساطير، نسمع عنها قبل النوم دون أن تعيش معنا أحلامنا السعيدة. تصور نفسك في تلك اللحظة التي تنتظر فيها بألم كلمة طيبة من إنسان قريب منك أو بعيد تنتظرها لأنك في إحتياج لها، كما احتياج تائه في صحراء إلى نقطة ماء، كم مساحة الألم والضعف واليأس واللامبالاة حين لا تأتي الكلمة التي تشبه جناحي ملاك يضمك فتطمئن، وتشبه تعلق أصابع طفل بيدك ليقف في خطواته الأولى، وتشبه شروق الشمس بعد تراكم سحب الشتاء أيام طويلة باردة، هذه الكلمة الطيبة طوق النجاة في محيط هائج هادر غاضب قبل أن تغرق بلحظة.

كلمة طيبة تأتي في الوقت المناسب تفعل ما يشبه السحر، تشفي مريضا وتبهج مكتئبا وتسعد يائسا وتنقذ فاشلا، كلمة تجعلنا نعيد ترتيب الأوراق، ونستعيد معها الثقة المهدرة، ونستعيذ بها من الشيطان الرجيم أن نضل عن طريقنا أو مهمتنا في الحياة.

غابت الكلمة الطيبة عمدا وسهوا وكسلا وخوفا ورغبة في إفساد المجتمع، قتلناها وكانت الدواء الذي يوقظ الناس في أصعب الظروف، قتلناها وقتلنا كل محاولة لإحياء لغة الكلمة الطيبة التي تأتي بشكل عفوي من إنسان إلى إنسان لتقول له: شكرا على ما فعلت، احتراما لما تفعل، تقديرا لموهبتك لتميزك لجهدك لعملك لأفكارك.. قتلنا الكلمة الطيبة حتى نتساوى، يتساوى العامل مع العاطل، والمفكر مع الجاهل، والشريف مع اللص، والمبدع مع الفهلوي، والقدير مع القليل، والناجح مع الفاشل، والذي يعرف الله مع الذي يسأل أين الله.. قل كلمة طيبة لله.


ممــا راق لي ..