اعلم بان من دخل الدنيا وعاش فيها زمانآ طويلآ مشغولآ بالاكل والشرب والنكاح , دائبآ في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والاثاث , واتخاذ البنيان وعمارة الارض والعقارات , وطلب الرياسه متمنيآ الخلود فيها , تاركآ لطلب العلم , غافلآ عن معرفة حقائق الاشياء , مهملآ لرياضة النفس , متوانيآ في الاستعداد للرحله الى دار الاخره , حتى اذا فني العمر وقرب الاجل , وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد , ثم خرج من هذه االدار جاهلآ لم يعرف صورتها , ولم يفكر في الايات التي في آفاقها , ولا اعتبر احوال موجوداتها , ولا تأمل الامور المحسوسه التي شاهد فيها , فمثلهم مثل قوم دخلوا الى مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته , واعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها الا بالمشاهده لها , ووضع فيها مائده قوتآ للواردين اليها وزادآ للراحلين عنها , ثم دعا عبادآ له الى حضرته ليمنحهم بالكرامه , وامرهم بالورود الى تلك المدينه في طريقهم , لينظروا اليها ويبصروا ما فيها ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته , ليروض بها نفوسهم , فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء اخيار , فضلاء , فيصلون الى حضرته , ويستحقون كرامته , فوردها قوم ليلآ فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالاكل والشرب واللعب واللهو , ثم خرجوا منها سحرآ لا يدرون من اي باب دخلوا , ولا من ايها خرجوا , ولا رأوا مما فيها شيئآ من آثارحكمته وغرائب صنعته , ولا انتفعوا بشيء منها اكثر من تمتعهم تلك الليله بالاكل والشرب حسب ,
فهكذا حكم ابناء الدنيا الواردين اليها جاهلين , الماكثين فيها متحيرين مكرهين , المنكرين امر الدار الاخره , الراحلين عنها كما قال الله _ جل ثناؤه _ ( ومن كان في هذه اعمى , فهو في الاخره اعمى واضل سبيلآ ) . وقال ذمآ لهم ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) بامر الاخره , والحمد لله رب العالمين