كتب / كاظم فنجان الحمامي..



لا اختلاف بين البصرة والكويت وعبادان من حيث الظروف والملامح الجغرافية, فالطقس السائد فيهما هو نفسه باستثناء بعض التغيرات الطفيفة, وتكاد تتساوى فيهما درجات الحرارة واتجاهات الرياح وسرعاتها ومعدلات الرطوبة النسبية, فالمناخ والتربة والبيئة هي القواسم المشتركة بين البصرة والكويت وعبادان, لكنهما يختلقان اختلاقا عجيبا في النمو العمراني, ولا مجال لمقارنة البصرة مع مدينة الكويت التي وعلى الرغم من تعرضها للتخريب الشامل استعادت رونقها وبهائها في غضون بضعة سنوات, ونجحت من خلال تطبيق قرارات مجلس التخطيط والتنمية في مواكبة التحولات والتغيرات المحلية والإقليمية والدولية, فرسمت ملامح خطتها التنموية الطموحة, الواضحة المعالم, الواقعية الأهداف, وعبرت عن إدراكها ووعيها للمتاح من الإمكانات, فوظفتها توظيفاً صحيحاً, بواقعية ومرونة سمحت بترسيخ النهج التخطيطي كأسلوب فاعل لإدارة التنمية العمرانية, وسمحت بتوجيه الموارد الوطنية نحو الغايات والأهداف المرجوة, فظهرت الكويت بحلتها الجميلة. . ربما يقول قائل منكم ان الكويت لم تتعرض مثلما تعرضت له البصرة من قصف مدفعي وصاروخي, تسبب في نسف بنيتها التحتية والفوقية, وسحقها سحقا, وتسبب في تعطيل حركة التعمير والبناء, فنقول له: نعم هذا صحيح بيد أن ما تعرضت له البصرة من تخريب ودمار لا يختلف كثيرا عما تعرضت له عبادان, التي تجاورها تماماً, وتقع على الضفة المقابلة لها من شط العرب. .
فلو تجولت اليوم في شوارع عبادان لما وجدت فيها حفرة واحدة, ولما وجدت فيها مياها متراكمة, أو قمامة متروكة, في عبادان يستيقظ الناس كل صباح ليجدوا شوارعهم نظيفة, وأرصفتهم خضراء, وأسواقهم أنيقة, وواجهاتهم المائية مزدانة بباقات زهور التوليب. .
لا تجد في عبادان كلباً سائباً, ولا قطة ضالة, ولا قطعان من الأغنام أو الأبقار تجوب الشوارع على غير هدى, ولا حمير ولا بغال هائمة على وجوهها في أزقة المدينة.
ليس في أسواقها ذبابة واحدة, حتى في سوق السمك, شوارعها خالية تماما من أي لافتة انتخابية, أو صورة لمرشح, أو صورة لرجل دين, ولست مغاليا إذا قلت أنني أتحدى من يعثر على صورة واحدة لأي مرشح أو زعيم أو قائد أو رجل دين, فالناس هناك يرفضون رفضا قاطعا هذه المظاهر الشائعة في شوارعنا, وليس فيها سيطرة تفتيشية, أو مطبا واحدا من مطبات تخفيف السرعة, فالنظام المروري هناك يخضع برمته لرادارات المراقبة الالكترونية الصارمة. .
لم تنقطع الكهرباء دقيقة واحدة عن أحيائها السكنية منذ عام 1990, والغاز الطبيعي يصلهم إلى بيوتهم بأنابيب محكمة, ولكل مواطن دفتره الصحي, وضمانه الاجتماعي. .
ربما ترون انه من الخطأ أن نقارن البصرة بعبادان, وانه يتعين علينا أن نقارن أنفسنا بأنفسنا, على ماذا كنا ؟, وكيف أصبحنا ؟, سواء كان نجاحا أو فشلا, على اعتبار أن المقارنة بالغير تفقدنا الثقة بأنفسنا, وتولد لدينا الإحباط, وربما ترون انه من المعيب أن نقارن مدننا بالمدن الإيرانية أو الكويتية أو السعودية. .
قد يكون رأيكم صائبا إلى حد ما, ولكن ليس دائما, والدليل على ذلك إنكم لو نظرتم الآن إلى الضفة الغربية لشط العرب, وهي الضفة العراقية الخالصة, لوجدتموها عبارة عن لوحة سريالية بائسة, تجردت تماما من ملامحها الأساسية, وتخلت عن روعة معالمها القديمة, ستشاهدون لوحة لا علاقة لها بشط العرب, لا من بعيد ولا من قريب, ولا علاقة لها بكل الشواطئ البحرية والنهرية في كل القارات. .
من فيكم يصدق إن بساتين النخيل أُنتزعت من جذورها, وأُزيلت من مواقعها, وكأنها قشطت من فوق سطح الأرض, واختفت القرى العريقة, ولم يعد لها وجود على طول المسافة الممتدة من جزيرة البلجانية (البليانية) حتى رأس البيشة. .
عندما نتنقل اليوم في شط العرب لا نكاد نرى بيتا ولا معملا ولا حقلا ولا ملعبا ولا معلما حضاريا باستثناء بعض الأكواخ الفقيرة المبعثرة في (سيحان), و(السيبة), وكذا الحال بالنسبة للفاو, التي فقدت هويتها البحرية, وفقدت نكهتها الملاحية, وخسرت مزارع (الحناء) و(السدر), وتراجعت زوارقها لتنزوي في منعطفات الجداول العارية, في حين استعادت البساتين الإيرانية حيويتها شرق شط العرب, وازدهرت الحدائق في (بواردة), و(القصبة), و(كبدة) أو (ﮀـويبدة), وعادت المدن المدمرة إلى الظهور بحلة قشيبة, وبواجهات مائية مزدانة بالأرصفة الحديثة, وتكاثرت التشكيلات المعمارية المعاصرة بين (البريم) و(فرح آباد), وتوسعت مدينة عبادان شرقا وغربا بمبانيها الشاهقة, ومصافيها التي استطالت أبراجها وتعملقت مداخنها, وتمددت مجمعاتها الإنتاجية عموديا وأفقيا, حتى وصلت إلى (دور خوّين), وتزينت مدينة (المحمرة) بأبهى زينتها, حتى صار من المألوف مشاهدة جسرها المعلق وأنت تقف في مرسى (الخورة), وأصبحت صورة (الشلامجة) من المناظر المألوفة في كورنيش العشّار بعد أن فقدت جزيرة (العجيراوية) نخيلها كله, وكأنها أصيبت بالصلع المبكر, وطغى الصلع على جزر (الطويلة), و(الشمشومية), و(أم الرصاص), التي قتلها الرصاص, وتعرت جزر (الرميلي), و(الكطعة), و(البلجانية), فخلعت أكاليل السعف السومري, وتراكمت فوق رأسها المخلفات الحربية الثقيلة, وتساقطت أشجار (سيحان), حتى تصحرت تماما, وتراجعت خطوطها نحو الطريق العام, وخيم الظلام الدامس على (الواصلية) و(الدويب) و(كوت بندر) في الليل المخيف الغارق في العتمة, حتى طغت بصمات الخراب على ما تبقى من السواحل العراقية المطلة على المياه الداخلية والمسطحات الإقليمية. .
في الليل ترى شرق شط العرب مضاءً بالمصابيح الملونة, وترى الملاعب المغلقة بالسقوف الزجاجية متوهجة بالأنوار البهيجة. .
اما جزيرة (حجي صلبوخ) الإيرانية, والتي يطلق عليها الآن جزيرة (مينو) فقد تحولت إلى منطقة تجارية حرة, وتحول النهر الفاصل بينها وبين (الفيصلية) إلى منتجع سياحي تحف به المدرجات الترفيهية, وشيدت إيران منظومة عملاقة لري مزارع الضفة الشرقية بمياه ترعة (بهمن شير), فانتعشت الزراعة, وتوسعت غابات النخيل بالطول والعرض, لكنها رمت مياه البزل المالحة في شط العرب في انتهاك صارخ للأعراف السائدة بين البلدان المتشاطئة. .
استغلت إيران كل شبر من شرق شط العرب, ولم تترك فيه فجوة واحدة إلا وأقامت عليها مشروعا سياحيا أو تجاريا أو زراعيا أو ملاحيا أو خدميا, اما نحن فتركنا عشرات الكيلومترات من ضفاف هذا النهر الخالد (139 كيلومتر طولا), وتنازلنا عنها لقطعان الجاموس البري والخنازير الوحشية, ولم نكترث لاختفاء مدن شط العرب وقراه الأصيلة, فاختفت ناحية (البِحار) وسكانها, وطُمست آثار قرى (أم الرصاص), وانطوت سجلات قرى (الصالحية), و(الخرنوبية), و(البوارين), و(كوت السيد), و(الدعيجي), و(الفداغية), و(المخراق), و(المعامر), و(الدورة) ولم يعد لها أي أثر, لا على الخرائط, ولا على أرض الواقع. .
ربما لا يعلم القائمون على النواحي العمرانية في البصرة ان جامعة القاهرة فيها كلية خاصة بالتخطيط الإقليمي والعمراني, ولا يعلمون أن منظمة المدن العربية أقامت مؤتمرها السنوي للتخطيط وإدارة النمو العمراني في الشهر الخامس من هذا العام, والذي لم تشترك فيه البصرة, ولا أي محافظة عراقية.







المصدر وكالة بغدادية نيوز