نشأة نظرية انحلال الرابطة العقدية وتطورها
في القانون الإنكليزي
ان نظرية انحلال الرابطة العقدية بسبب طروء مداخلة - وحسب الراجح في الفقه الإنكليزي- تنطلق من فكرة جوهرية ألا وهي: إن المتعاقدين يعتمدان عند إنشاء العقد على مجموعة من العوامل والظروف السائدة في البلد كالقيمة الفعلية للعملة المتداولة قانونا وطرق المواصلات اللازمة لتنفيذ العقد , كما هو الحال في مشترطات إيجار السفن , والوضع التشريعي في البلد من حيث أجازته للمشروعية مضمون الالتزام العقدي أو أن ترجع هذه الظروف إلى الغرض الذي يبتغيه كل منهما . والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال ما هو اثر تغير تلك العوامل على مصير الرابطة العقدية ذاتها؟
للإجابة على هذا السؤال, لابد من الإشارة إلى أن القانون الإنكليزي لم يصل إلى ما وصل إليه من حلول لأثر تغير هذه العوامل المتقدمة إلا بعد جهد قضائي وفقهي طويل فصاغ حلولا تضاهي إن لم تفق نظيرها التي جاءت بها الأنظمة اللاتينية وبالأخص القانون الفرنسي.
ففي أول مراحل تطوره كان القضاء الإنكليزي يرى أن الالتزامات الناشئة عن العقود ذات طبيعة مطلقة(s Absolute Obligation) لا يجوز لأي طرف في العقد التحلل منها مهما طرأت من ظروف غيرت من الأسس الاقتصادية التي بنى عليها المتعاقدان عقدهما فادت مثلا إلى انتفاء الغرض الاقتصادي للعقد أو جعلته مستحيلا أو مرهقا وبالتالي لا يجوز لأي منهما التحلل منه وقد ترسخت هذه القاعدة في قضية ( Paradine v. Jane 1646 ) التي تتلخص وقائعها بان مستأجرا قد رفعت عليه الدعوى لدفع أقساط الأجرة المترتبة عليه , فدفع بأنه قد اخلي من العين المستأجرة نتيجة سيطرة قوة غازية أجنبية فحرمته من العوائد التي تدرها الأرض المستأجرة والتي يعتمد عليها للحصول على الأموال اللازمة لتسديد أقساط الأجرة , فقررت المحكمة" بان القانون عندما ينشا التزما معينا في ذمة شخص ويفشل هذا الشخص في تنفيذ التزامه بسبب خارج عن أرادته فانه يتحلل من التزامه, أما إذا انشأ الشخص التزاما بذمته بموجب عقد فيجب عليه تنفيذه –عينا أو بمقابل- مهما كانت الظرف التي تمنعه من تنفيذه سواء كانت راجعة إلى سبب أجنبي أو ضرورة لا يمكن تجنبها لأنه يجب عليه إن يحتاط لذلك" .
غير أن القانون الإنكليزي بدأ يخفف من صرامة هذه القاعدة (الالتزامات المطلقة للعقد) وكانت قضية (Taylor v. Caldwell 1863 ) هي نقطة التحول الثانية التي خطاها القانون الإنكليزي والتي تتلخص وقائعها بان المدعي كان قد استأجر من المدعى عليهم صالة للعرض الموسيقي لإقامة عروض موسيقية ولأربع ليال متتالية ولكن بعد أبرام العقد وقبل حلول الليلة الأولى احترقت صالة العرض الموسيقي, وقد استند القاضي في هذه إنهاء العقد في هذه القضية على فكرة الشرط الفاسخ الضمني وبذلك ادخل –ولأول مرة في تاريخ القانون الإنكليزي – مبدأ استحالة التنفيذ كسبب لإنهاء العقد, وفي ذلك يقول القاضي بلاك بييرن"إن المبدأ الذي يجب أن يسود هو إن العقد الذي يعتمد في تنفيذه على بقاء الشيء (محل العقد) أو حياة احد إطرافه يتضمن شرطا ضمنيا ألا وهو: إن الاستحالة الناشة عن وفاة احد المتعاقدين أو فقدان الشيء –اللذين كان وجودهما ضروريا لتنفيذ العقد – ستودي إلى تحلل إطراف العقد من أي التزام بالتنفيذ أو تجعل الطرف الذي استحال تنفيذ التزامه في حل من أي التزام"
ولم يقف تطور القانون الإنكليزي عند هذا الحد بل مد من سلطان العوامل المؤثرة في انحلال الرابطة العقدية إلى الحالات التي ينتفي فيها الغرض الاقتصادي للعقد إذا كان من الضروري تنفيذه في وقت وتأخر المدين عن تنفيذه وقد سميت هذه الحالة (The Frustration of the Common Venture ). ولقد تسنى للقضاء الإنجليزي تطبيق هذه الحالة لأول مرة في قضية ( Jackson v. Union Marine Insurance Co.ITD 1874)وتتلخص وقائع هذه القضية بان المدعى قد استأجر سفينة لنقل بضائعه من مدينة ليفر بول إلى مدينة سان فرانسيسكو عبر مدينة نيوبورت, وفي اليوم الأول للرحلة غرقت السفينة مما تتطلب ستة أسابيع لإصلاحها, وقد وجه السؤال التالي إلى هيئة المحلفين – وهي الهيئة التي تقدر مسائل الواقع في القانون الإنكليزي- هل أن المدة اللازمة لإخراج السفينة وإصلاحها طويلة إلى درجة ينتفي معها الغرض التجاري للرحلة ؟ وكانت إجابة هيئة المحلفين بالإيجاب فقررت المحكمة تبعا لذلك أن الرابطة العقدية قد انحلت لأنه على فرض قيام السفينة بالرحلة بعد إصلاحها ستكون رحلة مختلفة تمام الاختلاف عما اتفق عليه المتعاقدان و نظر إليها من ناحية اقتصادية.