الموعد المحدد لنقل السلطة
والى جانب تدارس القائمة الطويلة من القضايا مع رئيس الوزراء، كنت اود توديع كثير من العراقيين ممن عملت معهم طيلة الشهور الاربعة عشر الماضية.
وفي 13 يونيو اجريت مكالمة وداع مع نائب الرئىس ابراهيم الجعفري الذي استضافني على وجبة رائعة كان الطبق الرئىسي فيها مصنوعا من الباذنجان كالعادة. وشرع الجعفري يدلي برأيه في انواع مختلفة من المواضيع وهو لا يكاد يتوقف لحظة لالتقاط انفاسه فتحدث عن الفلاسفة اليونانيين وعن هتلر وستالين وصدام وجورج واشنطن وجون آدامز وقدم تكهناته بشأن مستقبل الحكومة العراقية الجديدة.
هنأته على قبوله بمنصب نائب الرئيس، وعندما كنت اغادر بيته وجدتني افكر في الرجل باعتباره ما زال السياسي الاكثر شعبية في البلاد. فهو اسلامي لكنه يتحدث بفخر عن زوجته التي تعمل ايضا طبيبة.
مراقبة ومحاسبة
ومن بين الغايات الاكبر التي كنا نسعى الى بلوغها، فرض نظام للمراقبة والمحاسبة في الحكومة بعد تجربة الحكم الفردي المركزي الطويلة.
وذات صباح وصلتنا تقارير عن حدوث هجمات تخريبية عدة ضد انابيب النفط الاستراتيجية في الجنوب، وفي الساعات الاولى من فترة بعد الظهر اتضح مدى الدمار الذي لحق بالانابيب، وبعد ساعة واحدة تلقيت تقريرا يفيد ان انبوب النفط وطوله 48 انشا الذي يربط الحقل التابع لشركة نفط الجنوب بالفاو ومحطات شحن النفط الى الخارج تعرض بدوره للهجوم ظهرا في جنوب غرب البصرة.
وكانت التقارير الاستخباراتية قد اشارت الى تخطيط الارهابيين لشن موجة من الهجمات وتكثيفها بحلول 30 يونيو، وهي هجمات تشمل تخريب البنية التحتية النفطية.
وكان لا بد من التفكير جديا في مسألة الأمن استعدادا ليوم 30 يونيو.
مباغتة المعارضة
وفي يوم 17 يونيو سمعت فكرة مفاجئة من رايس في اتصال هاتفي، اذ اخبرتني ان الرئيس ‘يرغب في مباغتة المعارضة بتقديم موعد نقل السيادة يومين’، ووجدتها فكرة لا بأس بها مقترحا موافقة علاوي عليها.
ولا شك ان المتمردين لم يتوقعوا هذا. غير انني وضعت شرطين وألححت عليهما وقلت لها: ‘لا بد لنا ان نبقي على هذا طي الكتمان حتى آخر لحظة، وإلا دفعنا الارهابيين الى التحرك اكثر’.
وشددت ثانيا على ان تسبق نقل السيادة المبكر ايام عدة من الهدوء النسبي، وقلت: ‘ينبغي الا يبدو الامر وكأننا نريد ان ننفذ بجلدنا من هنا كوندي’.
فوافقت على الاقتراحين ووعدت انا بعرض الفكرة على علاوي، وفي اليوم التالي اثرت المسألة مع رئيس الوزراء مشيرا الى تزايد المعلومات الاستبخاراتية المتواترة حول الهجمات الارهابية التي يتوقع شنها في 30 يونيو، فوافق على الشرطين واتفقنا على تحديد يوم نقل السيادة في غضون اسبوع تقريبا.
في 20 يونيو قامت جودي فان ريست، وهي من اكثر الخبراء السياسيين حيوية ونشاطا في فريق سلطة التحالف المؤقتة، باطلاع علاوي على فحوى برنامج ارساء الديموقراطية الذي وضعناه وشرحت له اولا الدوافع وراء اعطاء الاولوية لهذه الجهود، مشيرة الى ان الديموقراطية لا تقف عند مجرد تنظيم الانتخابات بل تعني اكثر من ذلك بكثير، ويرمي الجزء الاكبر من البرنامج الى بناء المؤسسات والمنظمات التي تشكل ما نطلق عليه نحن في الغرب ‘المجتمع المدني’، فالعراقيون في امس الحاجة ‘الى ادوات امتصاص الصدمة’ هذه بعد عقود عاشوها في ظل الاستبداد.
وتابعت جودي تقول: ‘اننا نقيم هذه المؤسسات في كل انحاء العراق، ومكاتبنا الاقليمية خلقت عشرات المراكز المعنية بشؤون حقوق الانسان والمنظمات غير الحكومية، والجمعيات القانونية، ولدينا موارد مالية مرصودة لتأسيس المراكز النسائية في كل المحافظات الثماني عشرة، تسعة منها في بغداد، كما خصصنا مئات الملايين من الميزانية العراقية لدعم عملية تسجيل الناخبين، وقطاع التعليم، وكذا تنظيم انتخابات يناير.
وعلق علاوي قائلا: ‘هذا عمل رائع’ مضيفا: ‘ارجو ان يتوفر بعض المال لتأسيس مركز دراسات مستقل.. فاذا كان العراق مقدما على التحول الى بلد حديث فسنحتاج الى مثل هذه المؤسسات التي من شأنها ان تساعد الشعب العراقي على تعلم المبادئ الاساسية للديموقراطية’.
كللت جهودنا الرامية الى معالجة مشكلة الاحزاب في يونيو بصدور قانون سرعان ما ايدته حكومة العراق الانتقالية، وينص على حظر أي ميليشيا غير منخرطة في الاجهزة الامنية للحكومة الجديدة او في عملية التدريب على الحياة المدنية، كما اسسنا ادارة لقدماء المحاربين للاشراف على تسجيل واعادة تسجيل افراد الميليشيات وكذا عناصر الجيش السابق.
ولم تكن لدينا اي ضمانات تكفل احترام الاتفاقات المتعلقة بالميليشيات التي تولى ديفيد غومبيرت التفاوض بشأنها، ولكن بما ان البديل الوحيد المتاح امامنا هو استخدام القوة ضد كل هذه المجموعات بما فيها حلفاؤنا البشمركة، فقد شعرنا بأننا حققنا صفقة جيدة ضمن الحدود ا لممكنة، اذ مكنا العراقيين على الاقل من فرصة فرض السيطرة على الميليشيات وضبطها، ولكن هل ستكون الحكومة العراقية الجديدة حريصة على انفاذ القانون والوفاء باتفاقات اعادة الاندماج؟
وفي يوم 22 يونيو، حيث لم يبق على مغادرتي سوى ستة ايام قضيت اليوم خارج بغداد. اذ ذهبت جوا الى كركوك بصحبة الرئيس غازي الياور، وديفيد ريكموند وفريق كبير من الصحافيين، وكانت تلك زيارة وداعية، لكننا اردنا في الواقع ان نخفف قليلا من وطأة التوتر الذي ما زال مخيما على المدينة.
انضمت الينا وزيرة الترحيل والهجرة باسكال وردة وهي مسيحية، يتعين على وزارتها الاضطلاع بدور كبير لمحو آثار 35 عاما من اعادة التوطين القسري في كركوك. وقد نص قانون الادارة المؤقت على تأجيل القرار المتعلق بالوضع النهائي لكركوك بعد مفاوضات عسيرة مع الاكراد الذين ظلوا يحاولون المطالبة بأراض هناك، اذ تتنافس الاحزاب السياسية الكردية فيما بينها لتحقيق السبق، لقد كانت كركوك اشبه بقمقم العفريت، وبالتالي سنكون محظوظين اذا لم ينفتح قبل انتخابات يناير.
ومن الافكار التي شجعتها انشاء ووقف مؤسسة كركوكية لتنمية المشاريع تستفيد منها مختلف الاثنيات، ورصدت لذلك 50 مليون دولار من الميزانية الوطنية العراقية، واقنعت الاكراد بالمساهمة ب 50 مليون اضافية، ولا شك في ان مؤسسة بهذا الوقف، يديرها مجلس ادارة من اثنيات مختلفة، ستكون قادرة على تنفيذ عدة مشاريع مهمة كل عام، لكن ذلك سيظل رهنا بمدى استعداد كل مجموعة للتعاون مع الاخرى.
وبعد الاعلان عن هذه المؤسسة في حضور اعيان المدينة انتقلنا بالهليكوبتر الى مهبط صغير في ملعب لكرة القدم بالقرب من معقل مسعود البرزاني الجبلي.
وبعد نزولي من الهليكوبتر استقبلني هذا الاخير ودعاني بحماس الى ان انسى برنامج الزيارة قائلا: ‘لا يمكنك ان تغادر العراق دون ان تمنحني فرصة اطلاعك على جمال كردستان، لكي اضمن عودتك الى هنا برفقة زوجتك في يوم من الايام’.
وداع النساء
يوم السبت 19 يونيو كان قد حان الوقت لتوديع عدد من الشخصيات النسائية العراقية، ممن عملت معهن طيلة العام الماضي من اجل النهوض بحقوق المرأة. واقمت مأدبة غداء على شرف ممثلات اهم الهيئات النسائية في العراق والوزيرات ونائباتهن في الحكومة الجديدة. وقلت مازحا: ‘علي ان اتوخى الحذر وانا اخبر زوجتي انني تناولت الغداء اليوم بصحبة 50 سيدة’.. وبعد ان خبا صوت الضحكات علقت سيدة متحذلقة: ‘ان ذلك افضل بكثير من ان تتغدى مع امرأة واحدة’.
وداع حسين الصدر
كان لقاء الوداع بآية الله حسين الصدر في بغداد يتطلب اتخاذ اجراءات احترازية امنية مكثفة قدر الامكان، وألح علي فرانك غالاجر الا اذهب الى منزله ليلا. فرتبت لزيارة الرجل في وقت الغداء. ومع ذلك، لم يكن فرانك سعيدا بمرافقتي نهارا في ظل تدفق معلومات استخباراتية تتوقع تفاقم الهجمات.
استقبلني آية الله بحفاوة في مكتبه الذي يعج بالكتب، وبعد تناول المرطبات، ووجبة الغداء ثم الشاي تحدثنا في كل المواضيع، بما في ذلك دور الدين، وأهمية الأسرة أينما كان، وتطوير الديموقراطية العراقية، وحاجة الشرطة الى مزيد من الأسلحة. وفي نهاية الزيارة، نظر آية الله إلي وشرح لي ما يعنيه التحرير بالنسبة له قائلا: ان رجال المخابرات في عهد صدام كانوا يباغتونه في بيته ليلا ويسوقونه للاستجواب والتعذيب.
واضاف: ‘سعادة السفير، كنت طوال سنوات عدة اجد صعوبة في الاستسلام للنوم خشية ان يقتلوني وانا نائم. اما الآن فإنني أنام كطفل صغير’.
ازددت شيبا خلال عام
فاجأنا مقتدى الصدر باعلان وقف النار ضد قوات التحالف
بعد اجتماع خاص جمعني عصر يوم 23 يونيو مع رئيس الوزراء (علاوي) اتفقنا على محاولة نقل السيادة في يوم الاثنين 28 يونيو في حال سمحت الظروف الامنية بذلك.
غير ان اليوم التالي بدأ باربع هجمات بمدافع الهاون عند الساعة الخامسة وخمس واربعين دقيقة صباحا، وسمع صوت الانفجارات في المنطقة الخضراء.
وفي صباح ذلك اليوم، ذكرت الجنرال بربارة فاست في تقرير الاحاطة الاستخباراتي الذي قدمته ان المعلومات الاستخباراتية تشير الى وصول الارهابيين من الغرب والجنوب الى بغداد لتنفيذ تفجيرات بالسيارات المفخخة وهجمات اخرى في يوم 30 يونيو، وفي حال تفاقمت اعمال العنف في الايام القليلة المقبلة سيتعين علينا العدول عن مناورة تقديم موعد نقل السيادة لان ذلك سيبدو وكأننا طردنا.
في وداع بحر العلوم
بعد الاجتماع ذهبنا لتوديع السيد محمد بحر العلوم في مكتبه ووجدته في مزاج جيد فخاطبني ضاحكا ‘قد زاد عدد الشعر الابيض في رأسك اليوم عن قبل لدى وصولك منذ عام سعادة السفير’، واجبته ‘انت دقيق المراقبة يا سيد’ واضفت وانا اشير الى الشعر في صدغي الايمن: ‘هذه الشعرات ابيضت بسبب السنة وفي الخلف بسبب الاكراد وهذه في الاعلى بسبب الشيعة امثالك’ فضحك ضحكة خافتة، وعندما سألته عما اذا وجد التعامل مع الاميركيين الذين يديرون الحكومة صعبا اجاب ضاحكا ‘فلننتظر ونرى ما يكون عليه التعامل مع العراقيين’.
واضاف ‘لدي اقتراح سعادة السفير، سأغفر لك كل خطاياك على ان تغفر لي انت خطاياي ايضا، واجبت ‘انا موافق يا سيد’.
وفي فترة الظهر، اعدنا فتح بورصة بغداد واستغرق التداول فيها مدة ساعتين فقط، لكن سجلت رقما قياسيا من حيث عدد الاسهم المتداولة.
اختبئ اختبئ
ظلت مراعاة الاعتبارات الامنية في تسريع عملية نقل السيادة مدعاة للقلق، وفي يوم الجمعة 25 يونيو استيقظت من جديد على صوت مجلجل يصرخ ‘اختبئ اختبئ’ وبعد ثوان معدودة وجدتني اركض حافي القدمين باتجاه ملجأ الفيللا حين سقطت قذيفة هاون في المنطقة الخضراء.
واشارت التقارير الاولية الى عدم سقوط ضحايا او حدوث اضرار، ولكن هل سننعم ببعض الهدوء في الايام القليلة التي نحتاجها لتقديم موعد نقل السيادة؟ش
وفي عصر ذاك اليوم طلبت من الجنرال سكوت كاستل وهو المستشار العام لسلطة التحالف المؤقتة ان يرافقني الى اجتماعي اليومي مع رئيس الوزراء ولخص سكوت سياستنا في اعداد ما يزيد عن مائة قانون تم سنها على مدى العام الماضي وقال: ‘كنا محافظين سيدي الرئيس، فحرصنا على احترام القوانين العراقية حيثما كان ذلك ممكنا، ولجأنا الى تعديلها عند الضرورة فقط، لخلق بنية قانونية تزدهر في اطارها الديموقراطية واقتصاد السوق الحر’.
جراحة قانونية
لقد اعتمدنا اسلوبا جراحيا بدل استبدال قوانين غربية بالقوانين العراقية، واضاف سكوت قائلا ان فريقه استعان بمحامين عراقيين، كما حرص على التشاور بانتظام مع محامين واساتذة ورجال اعمال عراقيين وتم اشراك الوزارات العراقية المعنية في تحديد الاصلاحات اللازمة ومراجعة مسودات القوانين، وجرى التنسيق بعناية بهذا الشأن مع الحكومة الاميركية وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي والحكومتين البريطانية والاسترالية وتم احترام كل الحدود القانونية التي رسمها القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة.
وختم سكوت كلامه بالقول: ‘لقد كانت عملية دقيقة وشاملة للغاية’.
واضفت انا قائلا باننا حاولنا تحديث قانون العراق التجاري لنجعل البلاد اكثر قدرة على المنافسة ومساعدتها على تطوير قطاعها الخاص ليصبح اكثر نشاطا وتنوعا.
وعلق علاوي: ‘جنرال كاستل، انا ادرك تماما ان مهمتكم لم تكن يسيرة، ففي عهد صدام كانت هناك عدة قوانين لكنها لم تكن ذات هيبة’.
ولدى مغادرتنا، قدمنا لرئيس الوزراء مجلدات القوانين العراقية الجديدة باللغة العربية وعشرات النصوص الاضافية للاصلاحات المقترحة لتنظر فيها الحكومة الجديدة.
الإرهابيون يخططون للسيطرة على مدينة
يوم السبت 26 يونيو كنت قد خلدت الى النوم للتو حين سقطت اول قذيفة هاون تلتها عدة قذائف بالقرب من المنطقة الخضراء لليوم الثالث على التوالي. فنظرت الى ساعتي وانا اسير متثاقلا في الرواق فوجدت الساعة تشير الى الثانية عشرة وخمس دقائق عند منتصف الليل.
وعندما طلع النهار تبين ان الهجوم لم يلحق اي اضرار بساحة القصر، غير انه كان ينذر بحدوث شيء ما ربما، وفي تقرير الاحاطة الاستخباراتي لذلك اليوم تحدثت الجنرال فاست عن مؤشرات تفيد بتخطيط المتمردين للسيطرة على احدى المدن في 30 يونيو وقد تكون الرمادي او بعقوبة.
مما يعني انهم يريدون ان يوجهوا ضربة الى الحكومة الجديدة قبل ان تخطو اولى خطواتها.
وفي فترة بعد الظهر، تلقينا نبأ مفاجئا يفيد بان الناطق باسم مقتدى الصدر قد اعلن على ما يبدو عن شكل من اشكال ‘وقف اطلاق النار’ ضد ‘قوات التحالف’.
وكانت قد وردتنا اخيرا تقارير موثوقة تقول ان مقتدى يحاول الانضمام الى العراقيين في مكافحتهم للارهابيين. وقلت للجنرال سانشيز ‘مهما حدث في الجنوب، فاننا لن نوقف عملياتنا العسكرية ضد مقتدى في مدينة الصدر. فلن ننجر الى حل على نمط ما حدث في الفلوجة’ واجاب: ‘انا اتفق معك سيدي’.
وفي اجتماع صباحي مع علاوي يوم السبت 27 يونيو اغلقنا علينا باب مكتبه واستعرضنا معا الخيارات المتاحة لتسريع نقل السيادة.
وقلت: ‘آمل ان يحدث ذلك غدا.. لكن ذلك سيعتمد على مدى امكان الحفاظ على قدر نسبي من الهدوء اليوم’. واجاب: ‘فهمت’ وانا موافق’. ووعدت بالاتصال به مرة اخرى في آخر اليوم بعد ان نكون قادرين على تقييم الوضع الامني.
وفي غضون ذلك بدا ان المسؤولين البريطانيين في قوة التحالف المؤقتة قد التقطوا اشاعة تتعلق بالنقل المبكر للسيادة. وقلت لديفيد ريكموند اذا تسربت المعلومة فمعنى ذلك ان كل الرهانات قد طارت.
واجاب قائلا: ‘لقد تلقيت تعليمات من لندن بالتحدث مباشرة مع علاوي بشأن نقل السيادة المقترح. وهم يريدون التأكد من انه راغب بالفعل في اتمام ذلك غدا’. وقلت له بشيء من البرود اذا لم يرقني ان تظن حكومته بانني أؤثر في موقفه.وفي نهاية صباح ذاك اليوم، التقيت سرا بالجنرال سانشيز وقلت له: ‘نحن نفكر في امكان نقل السيادة غدا ولكن كل شيء سيكون رهنا بضمان قدر من الهدوء النسبي’. ولذلك طلبت من الجنرال ان يلتقي بجميع قادته العسكريين عند الساعة السادسة مساء لتقييم ما كان عليه الوضع الامني خلال النهار. ثم اعود لاجتمع به انا بعد ربع ساعةمن ذلك الاستماع الى تقريره وابحث المسألة لاحقا مع الرئيس.
في ذلك المساء اخبرنا الجنرال سانشيز ان عدد الحوادث لم يتجاوز 19 حادثة في مختلف انحاء البلاد، في حين كان لا يقل عن 40 حادثة يوميا خلال الاربعين يوما الاخيرة. فاجتمعت بعلاوي مرة اخرى وقلت له: ايها الرئيس، بإمكاني ان اؤكد كل عزمنا على المضي قدما في موضوع نقل السيادة غدا.. على انه لا بد من ان احصل على الموافقة النهائية من حكومة بلادي’.
اتصلت بكونداليسا في انقرة، حيث كانت تحضر الى جانب الرئيس اجتماعا ضم رؤساء الدول الاعضاء في حلف الناتو، وقلت لها: لقد مرت بضعة ايام اتسمت بالهدوء ولا توجد تسريبات ولا شك انه اصبح بإمكاننا نقل السيادة غدا’. فردت متنهدة: ‘البريطانيون بدأوا يثيرون الشكوى الآن ويتساءلون عما اذا كان الامر سيبدو وكأننا نهرب من مأزق، سيناقش الرئيس وبلير الامر اثناء العشاء الساعة التاسعة والنصف، وسأطلعك على ما دار في النقاش في وقت لاحق’.
وحوالي منتصف الليل تقريبا اتصلت بي رايس قائلة: ‘بلير موافق على نقل السيادة غدا’ وعقبت بالقول: ‘جيد، وانا طلبت من شانشيز ان يطلعني على آخر مستجدات الليلة على الساعة السابعة وخمس واربعين دقيقة صباحا’.
وقالت: ‘حسنا، لنتحدث الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة جيري، ونحسم الامر’.
وعندما كنت منهمكا في التفتيش بين كومة من الوثائق في تلك الليلة، جاءني الكولونيل نوروود بأخبار لا تبعث على الاطمئنان اذ اخبرني عن تعرض طائرة سي.13 اثناء اقلاعها من مطار بغداد للهجوم بأسلحة خفيفة ومقتل مدني من وزارة الدفاع كان على متنها.
كان فرانك غالاغر يقف الى جانب سكوت في الممر ويبدو عليه التجهم.
لقد ازداد افراد المفرزة المسؤولة عن سلامتي طيلة الاسبوع الماضي قلقا بشأن كيفية اخراجي من البلاد حيا. وكنت طيلة فترة تربو على العام استخدم بصورة شبه دائمة الطائرة سي 130 في تنقلاتي بين داخل العراق وخارجه.
وكان هذا النوع من الطائرات مزودا ببالونات حرارية لتضليل معظم الصواريخ ارض جو وليس كلها، وقد اطلقت هذه الصواريخ عدة مرات على الطائرات التي كنت استقلها. والآن يخشى غالاغر ان يحظى الارهابيون بالوقت الكافي لإعداد هجوم صاروخي ضد اي طائرة من طراز سي130.
عرجت على بريان كورماك وقلت له: ‘اريد منك ان تضع خطة من خططك السحرية مع فرانك غالاغر وفريق ريك سانشيز لتخرجني من هنا غدا’.
وعدت الى الفيللا وحزمت حقائبي على امل ان تكون هذه آخر ليلة لي في بغداد. ولم يكن احد يعلم بأن الاثنين هو اليوم الموعود ما عدا اقرب المقربين في الفريق المساعد لي. وكان معظمهم يخطط للمغادرة معي يوم الاربعاء على متن طائرة من طراز سي17 الى المانيا.
الاثنين 28 يونيو :2004
جاء سانشيز ليطلعني انا وديك جونز على ما حدث في تلك الليلة وقال ‘لم تقع سوى حوادث متفرقة ويبدو انهم ينتظرون حلول يوم الاربعاء’.
واتصلت بكونداليسا في انقرة حسب الاتفاق على الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة وقلت لها: ‘كل شيء جاهز لنقل السيادة اليوم عن الساعة العاشرة صباحا’ وردت: ‘سأخبر الرئيس اننا مقدمون على الامر’.
وبعد ان تأكد لي اننا مغادرون اليوم ارسلت للرئيس تقريري النهائي. واشرت في رسالتي الى ان العراقيين مبتهجون لتمكينهم من الحرية’.
التحدي الأكبر: مجتمع تسوده الثقة
بذلت قوات التحالف قصارى جهدها لارساء مبدأ الحكومة المسؤولة امام الشعب الملتزمة بسيادة القانون وقدر رسخنا مفاهيم ميزان القوة في الحكومة واحترام حقوق الاقليات في قانون الادارة المؤقت.
ومن نافلة القول ان الواقع السياسي في العراق حال للاسف دون تنفيذ اصلاحات اقتصادية عدة.
وعلى صعيد آخر، لفتت انتباهه الى جهودنا في مكافحة الفساد وكتبت: ‘سيستغرق الامر سنوات عدة قبل ان تنقلب الاوضاع في هذه المؤسسات’، وفي معرض حديثي عن الضرر الذي الحقه حكم صدام بالبنية التحتية في العراق كتبت قائلا: ‘ان افدح ضرر لحكمه لحق البنية التحتية النفسية للشعب العراقي’ اذ عاش افراده في غرفة مظلمة لعقود عدة تعلموا خلالها الا يثقوا في احد وسيكون بناء مجتمع تسوده الثقة تحديا ضخما في ظل قسوة الحياة اليومية.
وعبرت في كتابي الى الرئيس عن خيبتي ازاء عجزنا عن خلق بيئة آمنة فقد اثبتت المجموعات المتمردة انها اكثر تنظيما، وان اختراقها اصعب مما كنا نتوقع والارهابيون التابعون للقاعدة والزرقاوي استطاعوا ان يحولوا العراق الى الخط الامامي لحربهم الشيطانية.
وبما ان قيام حكومة ديموقراطية يتعارض مع توجهاتهم فاننا نتوقع مزيدا من العنف في الاشهر المقبلة’.
حوالي الساعة التاسعة صباحا من يوم 28 يونيو، بعث مكتب الاتصالات الاستراتيجي التابع لسلطة التحالف المؤقتة بكتاب الى الصحافة ووسائل الاعلام للاعلان عن مؤتمر صحفي نزمع عقده انا ورئيس الوزراء اياد علاوي، وعندما وصل الصحافيون الى مبنى مجلس الحكومة السابق جمع موظفونا الهواتف النقالة الخاصة بكل صحافي منعا لانتشار الخبر فور الاعلان عنه حتى اتمكن من مغادرة العراق.
وعند الساعة التاسعة وخمس وخمسين دقيقة استقللت انا وديفيد ريكموند سيارة دفع رباعي مصفحة وتوجهنا الى مبنى الحكومة، وعرجنا على مكتب رئيس الوزراء، حيث كنت اجتمع به احيانا كثيرة خلال الشهر الماضي، وكان علاوي قد دعا الرئيس غازي إليادر ونائبه برهم صالح للحضور، وجلسنا لندردش مع رئيس الجهاز القضائي مدحت المحمود في انتظار دخول الصحافيين الى القاعة.
وادراكا منا لمدى اهتمام الرئيس بالحدث، طلبت كونداليسا من برايان ماكور ماك ربط اتصال هاتفي مفتوح مع فريقها في أنقرة حيث كان بوش يجلس الى جانب قادة حلف الناتو حول طاولة النقاش.
وعندما هدأت الامور قليلا داخل المكتب وقفت وفتحت ملفا من الجلد الازرق اللون لا ادري من اين وقع عليه برايان وتلوت رسالة كنت قد وقعتها في ذلك الصباح وتنص على نقل السيادة رسميا الى الشعب العراقي وحكومته ثم سلمت الملف بشيء من التأثر الى رئيس الجهاز القضائي.
وفي أنقرة علمت كونداليسا رايس من برايان ان عملية نقل السيادة قد تمت فخطت على ظهر ورقة ما يلي: ‘العراق اصبح سيد نفسه، رسالة نقلت عن بريمر في الساعة العاشرة وست وعشرين دقيقة بتوقيت العراق’ وسلمت الورقة الى وزير الدفاع رامسفيلد الذ كان يجلس خلف الرئيس مباشرة وانحنى الوزير قليلا ومدها الى بوش الذي عرضها بدوره على بلير الجالس الى جواره بعد ان خربش عليها ‘لتسود الحرية’.
قام علاوي وغازي بمرافقتي انا وديفيد ريكموند الى السيارة وتصافحنا مودعين فقلت لعلاوي: ‘بلادك بين يديك الآن، فاعتني بها جيدا’، وما ان عدت الى القصر حتى كان خبر نقل السيادة قد شاع، ووجدت جمعا غفيرا ينتظر امام مكتبي بعضهم يبكي وبعضهم مبتهج. وكان ديك سانشيز في انتظاري داخل المكتب ودعوته الى مرافقتي الى الممر لتوديع المدنيين والعسكريين الموجودين في الخارج، وبعدذلك نزلت الى المدخل الرخامي للمرة الأخيرة وصعدت الى السيارة باتجاه منطقة مهبط الطائرات الخاص بنا.
كان الجنود قد جهزوا مروحيتي شينوك لنقل الصحافيين وفريق العمل الخاص بي بالاضافة الى اغراضي. وكلف علاوي نائبه لمرافقتي حتى المطار ولآخر مرة اقلعت من المنطقة الخضراء الى مطار بغداد، وحطت المروحيتان خلف طائرات عدة مموهة من طراز سي 130، احداها كانت معدة لنقلي خارج العراق وتوجهنا الى داخل قاعة كبار الشخصيات المكيفة للترحيب بآخر وفد من اعضاء الكونغرس يزور العراق برئاسة النائب الجمهوري دانكان هانتر الذي ايد بحماس تحرير العراق وهنأني على نقل السيادة.
وبعد بضع دقائق قيل لي ان الصحافيين قد اصطفوا بجوار طائرة سي 130 لتصوير المغادرة، وسرت برفقة رئيس الوزراء عبر المدرج وسط الحرارة الشديدة في اتجاه طائرة سي 130 تابعة للحرس الوطني الجوي. وبعد ان تصافحنا تبعت عددا من حراسي الى الطائرة وقبل دخولها وقفنا للتلويح للنائب الجمهوري. ثم اعيد الصحافيون الى قاعة الاجتماعات في المدرج، وقام افراد الطاقم باغلاق باب الطائرة ورائي انا وفرانك غالاغر. وانتظرت لمدة 10 دقيقة وسط الحرارة الخانقة في الطائرة الى حين مغادرة الصحافيين للمكان، ثم تسللنا عبر حجرة الشحن المليئة بالامتعة ونزلنا سلم الطائرة عند الباب الخفي واندفعنا مسرعين باتجاه مروحية شينوك التي كانت تنتظرنا على بعد 50 ياردة وعلى متنها افراد الفريق المصغر المساعد لي ويضم: سكوتي نوروود، وسيو، وبرايان، ودان. وفور صعودنا اقلعت الطائرة وحلقت لمدة خمس دقائق، الى منطقة اخرى من المطار حيث صعدنا الى طائرة حكومية اميركية صغيرة وألقيت نظرة اخيرة على العراق قبل ان نغادر.
‘استودع الله في بغداد لي قمرا’
عادت بي الذاكرة، وانا احدق من الطائرة التي اقلتني، في الرمال البنية في الاسفل، الى خطابي الوداعي الذي سجلته على شريط فيديو ليلة مغادرتي، وكنت قد عملت اسابيع عدة على كتابة نصه بمساعدة دون هاملتون ودان سيتور، اذ أردته ذا طابع شخصي يخبر العراقيين عن شعوري تجاه مستقبل البلاد، وأوحى لي مترجمي معين الجابري بأن أختم خطابي بأبيات من قصيدة للشاعر العراقي المشهور ابن زريق البغدادي، ودربني عليها اياما قبل تسجيل الخطاب الذي تقرر بثه يوم مغادرتي العراق وقلت فيه:
لقد تركت ورائي بلدا مختلفا للغاية عن ذلك الذي شهدته قبل عام، فالعراق اليوم بلد أفضل بكثير، على الرغم من ان هناك الكثير الذي يجب انجازه من أجل مستقبل كل العراقيين.
لقد ذهبت أيام الطاغية الى غير رجعة وسيسود العدل، العدل الذي ساد في بلاد الرافدين منذ عهد حمورابي.
والعراق اليوم موحد، ليس عن طريق الولاء القسري المفروض وانما بواسطة الرؤى المشتركة للحرية التي ينعم بها كل فرد عراقي، رجلا كان أم امرأة، عربيا أم تركمانيا أم كرديا، سنيا أم شيعيا، مسلما أم مسيحيا.
ان مستقبل العراق في ايديكم انتم الشعب العراقي، ونحن وغيرنا من الاصدقاء سنساعدكم، ولكن كل ما نستطيع تقديمه هو المساعدة، وعليكم القيام بالعمل الفعلي وتحمل المسؤولية الآن من أجل المستقبل.
ان جزءا من قلبي سيظل دائما هنا في بلاد ما بين النهرين الجميلة بأوديتها الخصبة وجبالها المهيبة وشعبها الرائع، وكمؤرخ بت أكن احتراما أكبر لتاريخ العراق المجيد. وخلال اقامتي هنا أصبحت ادرك لماذا ظلت بلاد الرافدين ولآلاف السنين مهدا للحضارة.
وانهيت كلمتي بأبيات من الشعر العربي للشاعر ابن زريق البغدادي:
استودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة واني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
ورددت أيضا بالعربية: مبروك العراق الجديد عاش العراق.
وبعد تسعين دقيقة في الجو، حطت الطائرة بنا في مطار عمان العسكري في الأردن، واتصلت بزوجتي فرانسي، التي كانت حتى تلك اللحظة تتابع اخبار نقل السيادة قبل موعده، وقلت لها ‘أنا بخير وحر طليق وفي طريق العوده الى الوطن.
ارجو التقييم