كتاب الحاكم المدني بعد احتلال العراق / بول بريمر
الفوضى
لم نجد شخصية عراقية أمينة ووطنية تحكم عراق ما بعد صدام
الاثنين 12 مايو 2003
بغداد تحترق
عندما كانت طائرة القوات الجوية سي-130 تحلق فوق منحنى لنهر دجلة، ادرت الكرسي الذي كنت اجلس عليه وبدأت احدق عبر النافذة المستديرة في طائرة الشحنِ وكانت العاصمة العراقية تمتد الى الشمال تحت الجناح اليمين، وقد غطاها غبار ذو لون بني فاتح واعمدة من الدخان الداكن ترتفع تحت شمس ما بعد الظهيرةِ وبدأت اعدها ثلاثة، خمسةِِ سبعةِ
كان الى جانبي زميلي السفير المتقاعد هيوم هوران يتحدث عن امر ماِ غير ان صوته غرق في ضجيج ازيز المحركاتِ واخرجت قطعة الفلين التي كنت استر بها اذني التي وزعها علينا طاقم الطائرة عند ركوبنا على متنها في ذلك الصباح في الكويتِ
وارتفع صوت هيوم في صراخ وسط صوت المحركات ‘ِِِ مبان حكوميةِِ مكاتب حزب البعث’ واشار الى الدخان الذي ارتفع فوق انحناء النهر ‘معظم الوزارات تتركز في تلك المنطقة، فقد كان صدام يجب القاء نظرة عن كثب على مواطنيه’ِ
في المقدمة وفي الكابينة المفتوحة كان الجنرال في سلاح الطيران ريتشارد مايرز رئيس هيئة الاركان ومرافقوه يحدقون الى الاسفل في بغدادِ وخلال نهاية الاسبوع كنت أنا والموظفون ممن يعملون معي قد انطلقنا برحلة بالطائرة دون توقف مع ديك مايرز على متن طائرة النقل العملاقة سي-17 من قاعدة اندروز الجوية في ولاية ماريلاند الى الدوحة في قطرِ ومن هناك اخذنا هذه الطائرة من طراز سي-130 اولا الى الكويت، حيث قضينا الليل وبعدها في هذا الصباح الى البصرة بجنوب العراقِ لقد ظللنا في سفر لمدة 48 ساعة تقريباِ
وكان كلاي ماكماناواي وهو ايضا سفير متقاعد وصديق قديم يعمل الآن نائبا لي، يجلس قريبا منيِ وقال وقد ارتفع صوته ‘نهب المقدرات الصناعية، بعد سلب اي مكان يقومون باشعال النيران فيه، هنالك العديد من الثارات التي يجب اخذها’ِ
هز هيوم رأسه موافقاِ وهو واحد من المستعربين البارزين في وزارة الخارجية، وقضى معظم حياته العملية في الشرق الاوسط وكان يعرف بغداد معرفة جيدةِ ولم اكن اعرفهاِ
أول مرة
فمن بين المهام التي قمت بها خلال معظم العقود الثلاثة الماضية كدبلوماسي اميركي، عملت رئيسا لموظفي مكتب وزير الخارجية هنري كيسنجر وسفيرا فوق العادة لشؤون مكافحة الارهاب خلال ولاية الرئيس ريغانِ وتلك مهام اخذتني الى كافة العواصم في المنطقة تقريبا ما عدا بغدادِ وبينما كنت وزوجتي فرانسي التي ارتبطت بها منذ سبعة وثلاثين عاما قد عملت في السفارة الاميركية في افغانستان لفترة طويلة، الا ان هذه كانت اول زيارة لي للعراق، البلد الذي سأبدأ فيه مواجهة اكبر تحد في حياتيِ
وقبل اقل من شهر مضى كنت مجرد سفير سابق يعيش في سعادة خارج واشنطن يعمل في القطاع الخاص، فقد كنت ادير قسم ادارة الازمات في شركة اميركية كبرى هي شركة مارش وماكليلانِ
ولم اعتد انا وزوجتي فرانسي الضغوط السياسية وحجم العمل المضني للوظيفة الدبلوماسية الرفيعة وكنا قد اشترينا مؤخرا بيتا ريفيا قديما في نيوانغلاند حيث كنا نأمل في ان نقضي الاجازات مع ابنائنا واحفادناِ
ولكن في تلك الظهيرة الحارة فوق بغداد كنت على بعد ثمانية آلاف ميل بعيدا عن ضواحي واشنطن وجبال فيرمونت كما انني عدت الى الحكومة كاداري عينت أخيرا لسلطة التحالف المؤقتة التي شكلت حديثاِ وقد وصفتني بعض التقارير الصحفية بانني ‘المندوب السامي الاميركي’ في العراق المحتلِ
وبصفتي الاميركي الاعلى مرتبة في بغداد، فانني سوف اتحول الى مبعوث شخصي للرئيس جورج بوش وتبدأ سلسلة القيادة بالنسبة لي عبر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وبعده مباشرة الى الرئيس وسأكون الشخصية الوحيدة التي تتمتع باعلى سلطة، باستثناء الدكتاتور صدام حسينِ
وبما اني مدني، فلن تكون لدي سلطة على اكثر من 17 الف جندي من قوات التحالف الموزعة في ارجاء العراق الذي يضم اكثر من 25 مليون نسمة، غير ان القيادة المركزية الاميركية التي تشكل الذراع العسكري للتحالف ومقرها الرئيسي في مدينة تامبا بولاية فلوريدا كانت لديها اوامر من الرئيس بوش ورامسفيلد لتنسيق عملياتها مع سلطة التحالف المؤقتة ومعيِ
وقوات التحالف التي اطاحت بصدام حسين بعد ثلاثة اسابيع من القتال الطاحن مشكلة في اغلبها من الجنود الاميركيين من القوات البرية والمارينز، وكانت تضم ايضا اكثر من عشرين الف جندي بريطاني، وعددا اقل من الجنود الاستراليين، بالاضافة الى قوات من دول حلف الناتو ومن بينها الاعضاء الجدد في الحلف من دول وسط اوروباِ
توزيع العراقيين
والمناطق التي احتلوها تختلف كأختلاف التنوع البشري في العراق فقد اتخذت قوات التحالف موقعا لها في منطقة الاهوار في دلتا شط العرب لنهري دجلة والفرات، وفي المدن على ضفاف النهر والمدن المقدسة في الجنوب، حيث يتركز الشيعة الذين يشكلون 60 في المائة من مجموعة السكان وعلى مسافة 500 ميل الى الشمال هنالك مواقع لقوات التحالف في سلسلة الجبال التي تغطيها اشجار الصنوبر في مناطق الاكراد الذين يشكلون حوالي 20 في المائة من مجموع السكان، كما تتوزع وحداتنا في المناطق السهلية الصحراوية في وسط العراق وغربه التي تتشكل المناطق الداخلية للاقلية السنية العربية التي تشكل حوالي 19 في المائة من مجموع المواطنين العراقيين وقد ظلت تسيطر على المجتمع العراقي منذ قرونِ
وخف ازيز المحركات، وزاد انحناء الطائرة باتجاه اليسار، وتقدم شاب من افراد الطاقم يرتدي زي الطيران بلون الصحراء، وهو يسير عبر مقصورة البضائع التي كانت تتأرجح ورفع اصابع يده اليمنى وقال ‘خمس دقائق – خمس’ واشار بقوة الى قصره لتذكيرنا بتثبيت حزام الامان الاحمر اللونِ
هذا النموذج من طائرة النقل سي – 130 يطلق عليه اسم ‘كومبات تالون’ وعادة ما تنقل بها قوات العمليات الخاصة في عمليات الانزال بالمظلات من الارتفاعات المنخفضة او انزال القوات الهجومية في عمق اراضي العدوِ وكنا قد انطلقنا من مدينة البصرة في الجنوب على ارتفاع 200 قدم فقط فوق القرى ذات البيوت الطينية وبساتين النخيل التي تجري بينها جداول الري العتيقة التي جعلت بلاد الرافدين تعد الهلال الخصيب منذ اقدم العصورِ
والهدف من الطيران السريع ليس توفير فرصة للشخصيات المهمة للتمتع بالمناظر بل لتقليل خطر الاصابة بواسطة النيران الارضيةِ
فخلال الغزو، وقبل شهر مضى، كانت الاسلحة الاوتوماتيكية والخفيفة تصيب الطائرات المروحية التابعة للقوات الاميركية التي تمر فوق هذه المزارع التي يبدو عليها الهدوء، وبالرغم من ان الرئيس بوش كان قد اعلن نهاية ‘الاعمال القتالية الرئيسية’ قبل 11 يوما سابقة فان نائب قائد القيادة المركزية الجنرال جون ابي زيد قد اعترف بان البلاد لم تتم السيطرة عليها بالكامل وقد ابلغنا بذلك في مركز القيادة المتقدم في قطرِ
موافقة زوجتي
وفي اقل من خمس دقائق هبطنا في مطار بغداد الدولي واحكمت حزام الامان وعادت بي الافكار الى الاحداث التي جاءت بي الى هذا المكانِ
كان ذلك في منتصف ابريل عندما غادرت وزوجتي فرانسي مطار هارتفورد بولاية كونيكتكت في سيارة فورد تورس مستأجرة في طريقنا إلى فيرمونت لاختيار اثاث لمنزلنا الريفيِ
وقلت لزوجتي ‘اود ان اتحدث اليك في امر ما يتعلق بوظيفة قد تعرض علي’ وسألت بسرعة: ‘اي وظيفة؟’ كنت وزوجتي قريبين جدا من بعضنا البعض ونشعر فورا بالمزاج السائد لديناِ فقد سيطر على السيارة جو من البرود وكررت القول ‘اي وظيفة؟ آخر مرة سألتك فيها كان لديك وظيفة’ وكانت محقة بالطبعِ
فقد ناقش افراد ادارة الرئيس بوش عدة وظائف معي خلال الاشهر الماضية ولكن كلما كنت اثير الموضوع كانت فرانسي تعارض الفكرة بشدةِ وقلت اثناء تنقلنا بالسيارة باتجاه الشمال، مثيرا الامر مرة اخرى ‘هذه المرة وظيفة تمكنني من لعب دور مؤثرِ فهي بطريقة ما تستفيد من جميع المهارات التي اكتسبتها خلال فترة حياتي العملية الطويلةِِ الدبلوماسية ومعرفتي بالثقافات الاخرى والادارة وقوة التحملِِ’ وكررت وقد بدا عليها الفضول هذه المرة: ‘اي وظيفة؟!’ وقلت ‘المساعدة في جمع اطراف العراق معا’، وقالت ‘انت؟’ وبدت هادئة تتطلع في الطريق امامناِ
كنت ارغب في ذلك التحدي وعلى الاقل كنت ارغب في اتاحة الفرصة لي للمحاولة، ولكنني لن اقدم على ذلك من دون مباركتها، وقلت لها ان سكوتر ليبي رئيس موظفي مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، وبول وولفوتس نائب وزير الدفاع اتصلا بي، فالإدارة المدنية الاولى التي اسسها البنتاغون بعد انتهاء الحرب في العراق، وهي مكتب اعادة البناء والمعونات الانسانية كانت تفتقر الى الخبرة فيما يتعلق بالاتصالات السياسية والدبلوماسية الرفيعة المستوى، وخلافا لمعظم ما ورد في اجهزة الاعلام، فإن البيت الابيض لم ينو البتة جعل رئيس مكتب اعادة البناء والمعونات الانسانية الجنرال المتقاعد غاي غارنر المبعوث الدائم للرئيس في بغدادِ وانا لدي المهارات المطلوبة والخبرة اللازمة لذلك المنصبِ وقلت ‘انهم مهتمون بوضعي في الاعتبار عن اختيار من يتولى مهمة ادارة العراق المحتل’ِ
واخيرا، وبعد فترة طويلة من الصمت والتفكير قالت فرانسي: ‘لا بأس اذا كان هنالك شخص ما يقوم بالعمل، فأنت قادر على ذلك’ِ
وبعد عشرة ايام من ذلك، كنت في المكتب البيضاوي، لقد تحركت الامور بسرعة بعد حديثي مع فرانسيِ طلبني وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذي علم برغبتي في ان اوضع في الاعتبار عند اختيار شخص لتلك المهمة للقائه، وكنت اعرفه منذ عدة عقود، اي منذ عملنا معا في ادارة الرئيس فورد، وظللنا على اتصال طوال هذه السنين وكنت معجبا بشعوره الوطني، وذكائه الحاد ونشاطه، وناقشنا الوضع في العراق، واكدت على اهتمامي بالوظيفة، وقال انه سيناقش الامر مع الاعضاء الآخرين في مجلس الامن القومي، ويتصل بيِ وفي الساعة السادسة والنصف مساء ذلك اليوم ابلغني مكتبه ان لدينا موعدا للقاء الرئيس في اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحاِ
لماذا ترغب في المهمة المستحيلة؟
سألني الرئيس بوش مباشرة ‘لماذا ترغب في هذه المهمة المستحيلة؟’، وجورج بوش شخص نشط وحازم، كما ظهر على شاشات التلفزيون يحاول ان يحرك البلاد، ويحشد قواها في اعقاب 11 سبتمبر، ولم اكن قد التقيته من قبل، وذلك بالرغم من انني خلال سنوات عملي كدبلوماسي عرفت والده ووالدته وحظيا باحترامي، اجبت ‘لأنني اعتقد ان اميركا قد قامت بعمل عظيم في تحريرها للعراقيين، سيدي، ولأنني اعتقد ان في مقدوري تقديم يد المساعدة’ِ
انتهى هذا الاجتماع الاول القصير ما عدا ان هناك رسالة طلبت مني فرانسي ان ابلغه اياها ‘سيدي الرئيس، ترغب زوجتي في ابلاغكم، ان الرسالة المفضلة بالنسبة اليها في خطابكم حول حالة الاتحاد هي عبارة ‘ان الحرية ليست هي هدية اميركا للعالم، بل هي هبة الله للانسانية’ِ
وابتسم الرئيس، وصافحني حيث بدا انه تأثر بكلمات فرانسيِ
فريق العمل
خلال الاسبوعين التاليين حضرت سلسلة من الاجتماعات المتواصلة في البنتاغون محاولا الاطلاع على الوضع في العراق قبل مغادرتي، وبين تلك الاجتماعات كنت احاول ان اجمع افراد الفريق الذي سيعمل معي وكان البنتاغون قد عين مسبقا الكولونيل في السلاح الجوي سكوتي نوروود كمساعد عسكري ليِ
وسكوتي كان يعرف كيفية التواصل مع وزارة الدفاع وبدأ فورا في تقديم خدماته لي بمهارة غير عاديةِ كما قدم السلاح البحري ملازما شابا هو جستن ليمونِ
وفي زيارة الى نائب الرئيس تشيني علمت ان مساعده الخاص براين ماكورماك مهتم بالذهاب الى العراقِ وجدته واقفا بالقرب من ماكينة النسخ خارج مكتب تشيني في البيت الابيض وسألته ان كان ذلك صحيحاِ قال براين ‘نعم’ بابتسامة تنم عن الثقةِ وسألته ‘هل انت متزوج؟’ فلم اكن ارغب في اخذ اشخاص لديهم اسر صغيرة السن الى بغدادِ واجاب ‘ليس بعد ولكني على استعداد للمغادرة خلال اسبوع’ هذا هو نوع الحماس الذي اسعى للحصول عليه وبالتالي عينته فوراِ
وادراكا مني بحاجتي الى بعض المشورة من شخص ذي خبرة فكرت في صديقي وزميلي القديم السفير كليتون ماكمانا وايِ فقد عمل كنائب لي مرتين في وزارة الخارجية، كما عمل في فيتنام في وزارة الدفاع ويعرف العاملين في اجهزة الاستخباراتِ
واتصلت به ووصفت له مفهومي عن المهمة وقلت ‘العديد من الليالي والايام الطويلة ولابد ان تكون هناك بعض المفاوضات المحبطةِ وسأكون في حاجة الى الكثير من العون يا كلاي، فالرجاء الحضور للانضمام الي’ِ
وبعدها كان لابد من وجود شخص ذي خبرة يعرف الثقافة واللغة العربيةِ وكنت قد عملت بصورة وثيقة قبل عقد مضى مع واحد من افضل الشخصيات في وزارة الخارجية هو السفير هيوم هوران الذي كان يقضي فترة تقاعد سعيدة في واشنطنِ
ناقشت مع كلاي المهمة الضخمة التي ستواجهها سلطة التحالف المؤقتةِ فقد كان لدى السلطة مسبقا اكثر من ستمائة موظف من المدنيين، وان عدد الموظفين سوف يصل الى الآلاف دون شكِ وقلت ‘اعرف شخصا واحدا فقط يمكنه معالجة مثل هذا التحدي الاداري وهو بات كنيدي’ ووافق كلاي على ذلكِ
وكان بات يعمل كنائب سفير في بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في نيويورك فهل سيتخلى عن تلك الوظيفة ويترك اسرته ويختار مخاطر العراق وعدم استقرار الوضع فيه؟ وتوصل كلاي الى بات عن طريق وزارة الخارجية وقد كان في طريق عودته من اجازة قضاها مع الاسرة في المكسيكِ
وبعد الحصول على موافقة رئيسه السفير جون نيغ وبونتي، قال بات ‘يشرفني ان اعمل معكم’ِ
وكانت هناك فجوة اخيرة يجب ملؤها – فقد كنت أعرف أن عملي سوف يشمل تفاعلا قويا مع الكونغرسِ وقد اقترح أحدهم أن الخبير في شؤون الكونغرس توم كورلوغوس قد يكون مهتما بالعمل في العراقِ وكنت أعرف كورلوغوس منذ عدة عقود وأدرك أنه سوف يشكل إضافة قوية إلى الفريق وذلك بسبب الاحترام البالغ الذي يحظى به ضمن الحزبين السياسيينِ ولكنني كنت أشك في أنه في هذه المرحلة من حياته قد يرغب في مغادرة وضعه الآمن لعمله في مجال اللوبي في واشنطن ويذهب إلى حياة الخطر في بغدادِ وقد أسعدتني مفاجأة قبول توم الفوري بالانضمام إلينا وقد أضفنا في وقت لاحق زميلا آخر سابق في وزارة الخارجية هو بوب كيلي إلى الفريق الذي يتولى مهمة استقبال المئات من الزوار من الكونغرس إلى العراقِ
لا عراقيا يحكم العراق!
في أقل من عشرة أيام من استلامي للمهمة كان لدي طاقم الموظفين التابعين لي وكبار نوابي، وبدأت في تقييم حجم المهمة التي أواجهها، فقد برز فراع في السلطة ملأته الفوضى في العراقِ فعندما تدفقت دبابات التحالف إلى داخل بغداد، دمرت ما هو أكثر من أسلحة الحرس الجمهوري ومدفعيتهِ فقد تحطم نظام صدام حسين البعثي الدكتاتوري الذي يعد من أكثر الأنظمة الشمولية القمعية وحشية، وأصبح قادة ذلك النظام مطاردين، وبينما حقق التحالف الذي تقوده أميركا نصف أهدافه المعلنة بالنسبة لتغيير النظام عن طريق الإطاحة بصدام حسين، إلا أننا لم نتمكن من الوصول إلى شخصية عراقية أمينة ونشطة وتتميز بالوطنية يمكن أن تحكم عراق ما بعد المرحلة البعثيةِ
وبينما كنت أنظر في هذه المسألة أضاف جيم دوبنز الدبلوماسي السابق والمحلل ذو الخبرة في مؤسسة ‘راند’ للأبحاث بعدا آخر عندما جاء إلى مكتبي في البنتاغون وقال وهو يقدم لي وثيقة ‘جيري عليك الاطلاع عليها’ وكنت أعرف أن مؤسسة راند تعد واحدة من أكثر مؤسسات البحث التي تحظى بالاحترامِ
وكانت الوثيقة مسودة لتقرير راند بتقديرات حجم القوات الضرورية لتحقيق الاستقرار في عراق ما بعد الحربِ وكانت دراسة محايدة وصريحة فالمهنيون في مؤسسة راند لا يتعاملون مع السيناريوهات الوردية بل انهم يطبقون المنطق البارد في ما يتعلق بالمشكلاتِ تناولت الدراسة العلاقة فيما بين حجم القوات والاستقرار خلال سبعة احتلالات سابقة، من حجم قوات الحلفاء في محلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا واليابان، إلى غزو الصومال في عام 1993، والبلقان في وقت لاحق في ذلك الوقتِ وكذلك تجربتنا الأخيرة في أفغانستان وبالرغم من انني لست من الخبراء العسكريين، فانني وجدت النتائج التي تم التوصل إليها مقنعة وفي الوقت نفسه، تثير الانزعاجِ
معادلة: 20 لكل ألف
لقد أثبتت الأدلة التاريخية ان تحقيق التوازن في السنوات الأولى في أعقاب أي احتلال عسكري يجب أن يكون هناك 20 جنديا من جنود الاحتلال مقابل كل ألف مواطن في البلد المحتلِ
وجاء في التقرير ان ‘سكان العراق اليوم قرابة 25 مليون نسمةِ وان عدد السكان هذا يحتاج إلى نصف مليون جندي على الأرض لمقابلة نسبة العشرين جندي مقابل ألف مواطنِ ويزيد هذا العدد ثلاث مرات على عدد القوات الأجنبية التي نشرت في العراق’ِ وقد اتفقت مع جهود الوزير رامسفيلد الرامية لإحداث تغيير في المؤسسة العسكرية الأميركية لمقابلة التحديات التي بدأت تبرز في القرن الحادي والعشرينِ فقد تصور رامسفيلد تشكيل وحدات أصغر حجما وأكثر قدرة بقوات للعمليات الخاصةِ كما وافقت أيضا أن قواتنا مازالت أفضل تشكيلا بالنسبة لمواجهة معارك أرضية كبرى مستجدة في أوروبا مقارنة بالطوارئ التي من المحتمل أن تواجهنا في المناطق النائية بعيدا في أطراف الكرة الأرضية وبالإضافة إلى ذلك فإن قوات رامفسيلد الخفيفة السريعة حققت بالفعل انتصارا سريعا مذهلا في العراقِ ولكن هل الوضع على الأرض في العراق يدعم النتائج التي تقول اننا في حاجة فقط الى ثلث عدد القوات الخاصة بالاحتلال التي اقترحتها دراسة مؤسسة راندِ
وفي ذلك المساء اعد لي ملخص لمسودة الدراسة وارسلت نسخة منه الى دونالد رامسفيلد، وكتبت على غلاف المذكرة ‘اعتقد ان عليك الاطلاع على هذا الامر’، ولكن لم اتلق اي رد منه البتة حول ذلك التقريرِ
وفي ذلك الاثناء كانت هنالك التسريبات العادية في واشنطن، فقد وصلت انباء امكان تعييني الى وسائل الاعلام بعد وقت قصير من اجتماعي مع الرئيسِ وبدأت فورا ماكينة الاشاعات في الدوران بوتيرة سريعة محاولة تقييم اختياري وعلاقة ذلك بالصراع الدائر فيما بين رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باولِ
رجل من؟
اشارت بعض التقارير الى انني اعرف رامسفيلد منذ ان عملنا معا في ادارة الرئيس فوردِ وان رامسفيلد قد اقترح اسمي لتولي المنصب الى الرئيس وتوصلت الى نتيجة مفادها انني لا بد وان اكون ‘رجله’ِ وهناك تقارير اخرى ركزت على مستواي في العمل في السلك الدبلوماسي، حيث تعرفت على باول، وتكهنت انني في الواقع مرشح وزارة الخارجيةِ
وكان من الواضح ان الرئيس بوش على علم بهذه الاشاعات لانه في اعقاب الاسابيع التالية، وقبل اربعة ايام من مغادرتي الى بغداد، دعاني لتناول الغداء لوحدي معه في البيت الابيض، وذلك قبل الاجتماع مع مجلس الامن القوميِ
وتناولنا الغداء في غرفة صغيرة في المكتب البيضاوي تطل نوافذها على حديقة البيت الابيض، ونحن الاثنان من الرياضيين اذ ان جورج بوش يمارس رياضة الركض والتدريب على حمل الاثقال وكنت قد شاركت في العاب القوى الثلاثية، وفي سباق الماراثونِ وبالتالي فقد تناولنا السلطة المكونة من الخضروات والكمثرىِ
وبعد مناقشة تناولت امورا مختلفة تتعلق بقضايا السياسة الخارجية، تركز حديثنا حول العراق وسألني بوش ‘ماذا استطيع ان افعل لمساعدتك’؟ وقلت ‘احتاج الى مساعدة في مجالين سيدي الرئيس’ِ
واشرت اولا الى انني لن استطيع ان احقق النجاح اذا كان هناك آخرون في العراق يقولون انهم ايضا يمثلون الرئيسِ
وكنت اخشى بصفة خاصة ان مسؤول مجلس الامن القومي زلماي خليل زادة الذي يحمل لقب ‘المبعوث الرئاسي’، وانه زارالعراق في منتصف ابريل لمساعدة جاي غارنر في اتصالاته مع القيادات السياسيةِ وقد كان لدي انطباع انه سوف يستمر في زيارة العراق بصفته ‘مبعوثا’ِ
وقلت ‘سيدي الرئيس، ان هذا الامر يعني انه يجب ان تكون لدي سلطة كاملة لحشد مصادر الحكومة الاميركية لانجاز مهمة اعادة الاعمار’، وقال فورا ‘افهم ذلك واوافقك’ِ
وقلت ‘انها ستكون مهمة طويلة وشاقةِ سباق ماراثون وليس مسابقة ركضِ وانا في حاجة الى مساندتك لمنحي الوقت الكافي لتنفيذ عمل جيد’ِ
المهمة
خطتنا كانت استبعاد 20 ألف بعثيِِ ما يساوي 1% من أعضاء الحزب
بغداد بين 13 و16 مايو 2003
تمكنت من النوم لأربع ساعات كاملة في أول ليلة من وصولي الى بغداد واستيقظت قبيل بزوغ الفجر وخرجت للعدو برفقة حارسي الشخصي استحممت بعدها بما توفر لي من ماءِ وبعد مرور عشر دقائق دخل كلاي وهيوم مكتبي ولم تكن خدمة الاتصال المباشر مع واشنطن قد توفرت لنا بعدِ
كان كلاي يشعر بالاحباط ايضا وسلمني مع هيوم كومة من التقارير والخرائط والصور الملتقطة بالاقمار الصناعية تم جمعها من المكاتب المؤقتة التابعة ‘لمكتب اعادة الاعمار والمساعدات الانسانية’ِ لقد كنت اعلم انه بالإمكان معرفة المزيد عن حقيقة طبيعة المنظمة وتعقب مسارها عبر غربلة الوثائق الخاصة بها الموجودة في العراق بدلا من الرجوع الى مسؤوليها ومناوئيها على بعد 8 آلاف ميل في واشنطنِ وبغض النظر عن التخمينات القاسية التي انتشرت لاحقا بشأن ‘الخلل’ الذي حدث بعد انهيار الجيش العراقي اكتشفنا في صبيحة ذلك اليوم ان التواتر الراهن للاحداث لا ينطوي على اي غموضِ
فقد قمت بنسخ ملخص لحظة ما قبل الاجتياح وتبين انه قبل ان يشن التحالف الحرب البرية في 19 مارس 2003، تم نقل المسؤولية عن ‘عمليات ما بعد الهجوم’ من الجنرال تومي فرانكس الى ‘مكتب اعادة الاعمار والمساعدة الانسانية’ الجديد التابع للبنتاغونِ وفي يناير 2003 عين رامسفيلد الجنرال المتقاعد جاي غارنر على رأس هذا المكتبِ وكان المبرر الاصلي لوجود هذه المنظمة كما يدل على ذلك اسمها، مراقبة وترميم البنية التحتية الحيوية المتضررة من الحرب في العراق بما في ذلك حقول النفط والمستشفيات والطرق وشبكات الاتصالات بالاضافة الى اولوية اخرى تتمثل في الحيلولة دون وقوع كارثة انسانية (مجاعة وأوبئة) بين آلاف اللاجئين الداخليين الذي يتوقع ان يشرعوا في النزوح قبل الحرب بأشهرِ ورغم وجود ملحق للقيادة المركزية فإن المنظمة كانت ترفع تقاريرها رأسا إلى مكتب وزير الدفاع في البنتاغونِ
خطةِِ غير موجودة
وبعد فترة من وصولي الى العاصمة العراقية اطلعت على تقارير تتعلق بدراسة لوزارة الخارجية حول مستقبل العراق وتزعم انها وضعت خطة كاملة لنشاطات ما بعد الحرب في البلادِ وكان كروكر قد ادلى بدلوه في الدراسة ولذلك سألته عن الامر فنفى نفيا قاطعا، مشيرا الى ان الدراسة لم تكن بهدف وضع خطة لما بعد الحرب بل لوضع تصور يساعد العراقيين والاميركيين على التفكير في مستقبل البلاد بعد الاطاحة بصدامِ وهذا ما وقفت عليه بنفسي حين حظيت بقراءة الدراسة التي تقع في 15 جزءاِ
لقد كان غارنر يأمل في استخدام موارد باقي الادارات الحكومية الاخرى الى جانب موارد وزارة الخارجية حين تقتضي الحاجة ذلكِ
حين سحبت صورتين التقطتا بالاقمار الصناعية من بين كومة الوثائق وجدت ان حقول الرميلة النفطية في الجنوب التي استهدفها البعثيون بالتدمير لم تصب باضرار بليغة لان قوات القيادة المركزية استولت على الآبار المفخخة قبل ان يتلقى العراقيون الاوامر بتفجيرها، وفي مكان آخر كانت الاضرار التي لحقت بالبنية التحتية بسبب المعركة طفيفة نسبيا لان الحرس الجمهوري العدو اختار القتال بمحاذاة الانهار والقنوات المائية جنوب العاصمة وليس تحويل المدينة الى حصن كما كان المخططون يخشون ان الشبكة اصيبت بالقصور بسبب سنوات الاهمال واستخدامها كسلاح تقليدي عبر تقوية التيار بشكل مفاجئ الى حد مفرط وقطعه مراراِ
والاكثر من ذلك ان البنتاغون توقع ان يستسلم معظم افراد الجيش العراقي الذي يضم 400 الف مجند شيعي من اصل 715 الف جندي وان تبقى وحداته سليمة مما يسمح بالاستعانة بهم في مشاريع اعمار طموحة مقابل اجور ثابتة غير ان واضعي تلك الخطط اغفلوا الواقع المعيشي القاسي للمجندين الشيعة الذين عانوا الامرين على ايدي الضباط ومعظمهم من السنة وبالتالي لم يكن لديهم أي ولاء لقادتهم ولا حافزا للحفاظ على سلامة الوحدات العسكرية، ولذلك لم تبق بعد التحرير اي وحدة عسكرية عراقية سليمة في كل انحاء البلاد وبالتالي لم يكن لدى غارنر لا ازمة لاجئين تقتضي الحل ولا قوة عمل جاهزة من الجنود العراقيين لتوظيفها في مشاريع الاعمار التي خطط لها كثيرون في البنتاغون بل ان جميع الوزراء في الحكومة ونوابهم وآلاف البعثيين هربوا ايضا، وهكذا وجد غارنر نفسه امام فراغ سياسي وزعامات عراقية تنقصها الخبرةِ
في احدى الاماسي عقدت اجتماعا تاريخيا آخر مع كلاس وهيوم وبدأ عندما قدم لي هيوم نسخة من احدى الصحف العراقية الجديدة التي لا تخضع للرقابة والتي بدأت تتكاثر في بغداد مع أولى هبات نسائم الحرية بعد التحريرِ وقال بابتسامة ‘انهم يصفونك ب’ماكارثر بغداد’ يا جيري فاين غليونك؟’ِ
وفي الواقع فان مهمتي الجديدة تشمل بعض مسؤوليات المندوب السامي التي كان يتمتع بها الجنرال دوغلاس ماكارثر حاكم الامبراطورية اليابانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والجنرال لوسيوس كلاي الذي قاد الغزو الاميركي على ألمانيا النازية المهزومةِ
وكان الجو شديد الحرارة في الغرفة الصغيرة ولم يكن للمروحة الموصولة بالمولد الكهربائي تأثير كبير وقال كلاي ‘لا اعتقد ان الجو يبلغ هذه الدرجة من الحرارة في طوكيو أو برلين’ وقلت ‘انا مستعد لقبول المشكلات التي واجهها ماكارثر’ِ
واشار هيوم الى اختلاف الوضع بالنسبة للعراق الحديثِ
إزالة أثار البعث
قبل ان اغادر واشنطن الى بغداد اطلعني وكيل الوزارة دوغلاس فيث على مسودة أمر يقضي ب’ازالة آثار البعث في المجتمع’ واكد على الاهمية السياسية لهذا الأمرِ
كان حزب البعث يدعى ان في عضويته ما يزيد على مليوني شخصِ فالعديد من الناس انضموا للحزب لأنه غالبا ما كانت العضوية الوسيلة الوحيدة للحصول على وظيفةِ
والتحالف ليس لديه مشكلة مع هؤلاء فقد كان اهتمامنا ينصب فقط على المستويات العليا في المراتب الحزبية التي يتطلب الامر استبعادها عن الحياة العامةِ وهؤلاء هم البعثيون الموالون ممن كانوا بحكم مواقعهم في السلطة ضمن النظام ادوات للقمع في يد صدامِ وقد قدرت اجهزتنا الاستخبارية ان عددهم يصل الى حوالي واحد في المائة من كافة اعضاء الحزب او 20 الف شخص تقريباِ
بيد انني ادركت ان ‘العوائق الادارية’ التي تطرق اليها رامسفيلد قد ثبت بأنها أكثر من عوائقِ فقد شكل كبار البعثيين الكادر القيادي في كل وزارة وهيئة عسكرية عراقيةِ وان حظرهم من المشاركة في العمل سوف يجعل ادارة شؤون الحكم امرا اكثر صعوبة بكل تأكيدِ ومن جانب آخر فقد شعرت بالارتياح بعض الشيء لمعرفتي ان التكنوقراط من غير السياسيين هم في العادة وراء نجاح عمل تلك الوزارات والهيئاتِ
كان الجنرال فرانكس قد فكك حزب البعث في العراق في منتصف ابريل، وقد جاء هذا الامر بعد ذلك الاعلان ‘بالقضاء على اطر الحزب، وطرد قيادته من مواقع السلطة والمسؤولية في المجتمع العراقي’، وكان الهدف من ذلك ضمان ان الحكومة المنتخبة الجديدة للعراق لن تقود الى عودة البعثيين للسلطةِ
اكدنا ان اعضاء حزب البعث ممن ‘طردوا من مواقعهم وحظر عليهم العمل في القطاع العام الحكومي’ بالاضافة الى ذلك فان اعضاء البعث هؤلاء سوف يتم تقييمهم لمعرفة سلوكهم الاجرامي او التهديد الامني الذي يشكلونه بالنسبة للتحالف او ان يتم احتجازهم او ابقاؤهم تحت الاعتقال المنزلي اذا لزم الامرِ
وكان التحالف قد اصدر مسبقا اوراق اللعب الشهيرة التي تحمل صور واسماء قيادات النظام البعثي المطلوب القاء القبض عليهمِ
غير ان تلك القيادة، انما تشكل جزءا ضئيلا من البعثيين ممن هنالك حاجة الى ابعادهم عن الحياة العامةِ
وعملنا على أساس ان المراتب العليا الثلاث من الإدارة في كل وزارة أو مؤسسة حكومية أو اي هيئة حكومية أخرى بما في ذلك الجامعات والمعاهد العليا والمستشفيات سيتم فحصها للتوصل الى وجود اي ارتباط لافرادها بحزب البعث، وان ايا من هؤلاء المديرين يثبت انه يتمتع ب’عضوية كاملة في الحزب’ يتم طرده من منصبه الحكومي، ولكن تظل لديهم حرية العمل في أماكن أخرىِ
’البعث’ الأفضل تنظيما
وكما هو متوقع، فان اعضاء حزب البعث مثلوا أفضل قائمة منظمة للمرشحين فقد فازت قائمتهم في انتخابات جامعة بغداد، غير ان السماح باستمرار نتائج تلك الانتخابات جاء من أجل ان يستمر الفصل الدراسي حسب الجدول المقررِ
ومع سريان المرسوم أوضحت لهم ان في مقدورنا النجاح في عملية الفرز، ولكن علينا التحرك بسرعة للقضاء على الانطباع القائل ان التحالف اطاح بصدام فقط لكي يسلم السلطة الى المراتب الثانية من البعثيين، وبالرغم من المرسوم كان سيحظر فقط نسبة واحد في المائة من عضوية من تولى مناصب في الحكومة، الا انني كنت أود التأكد من ان الحظر سيطبق على الاشخاص المعنيين، واتفق الجميع على صعوبة تنفيذ هذا الأمر اذا ما وضعنا في الاعتبار ضعف المعلومات الاستخبارية، وقلت ‘نحن لا نعرف العراق كمعرفة العراقيين له’، وبالتالي كان علينا اشراك عراقيين يتمتعون بالمسؤولية منذ البداية في عملية اجتثاث البعثِ
وكانت لدي مسألة سياسية مهمة أخرى للمناقشة، وقلت ‘لقد اجتمعت مع لجنة الرؤساء في مجلس الأمن القومي في الاسبوع الماضي، وكان جميع الطاقم موجودا في غرفة العمليات في البيت الأبيض، اي نائب الرئيس وكولن باول ورامسفيلد وكونداليسا رايس، وجورج تينيت، وكان جدول الأعمال يشتمل على قضية المنفيين والحكومة الجديدة في العراق’ِ
والمنفيون هم المعارضون المقيمون في الخارج ممن ظلوا يعارضون نظام صدام حسين لعدة سنوات، وكانوا يتلقون انواعا مختلفة من الدعم من الغرب والدول العربية المعتدلة وغالبا ما كان يتم ذلك من خلال الاجهزة الاستخباريةِ
ويبدو لي ان مكتب فيث ووكالة المخابرات المركزية الأميركية ومكتب اعادة الاعمار والمعونات الانسانية كانت جميعها على اتصال مع المنفيين بطريقة غير رسمية لعدة اشهرِ وكنا بحاجة إلى ايضاح نوايانا فيما يخص تشكيل حكومة عراقيةِ
لقد عشت في ثلاث دول خضعت للاحتلال الالماني خلال الحرب العالمية الثانية وكنت ادرك ان ‘حكومات المنفى تكون عرضة للاشتباه لدى من ظلوا مقيمين في البلادِ والتركيز فقط على مجلس القيادة العراقية كنواة لحكومة عراقية جديدة سوف يثير هواجس مشابهة في اوساط المواطنين العراقيين العاديين ممن ظلوا مقيمين في البلاد وعانوا من وحشية صدامِ
والى جانب ذلك فان المجلس كان يفتقر الى التوازن المناسب فيما بين السنة والشيعة حيث كان الميزان يميل اكثر لصالح الاكراد ولم يكن فيه مسيحيون او تركمان او نساءِ
ومن الطبيعي ان يكون المنفيون يرغبون في تولي شؤون الحكم سريعا وقبل ان يتمكن من ذلك الزعماء المحليون ممن كانوا مقيمين في البلادِ فهم يدركون ان نفوذهم في لندن وواشنطن وطهران والرياض سوف يتقلص ما لم تكن لديهم قاعدة سياسية راسخة على الارض في العراقِ
وقد زاد من تعقد الوضع ان ‘المبعوث الرئاسي’ زلماي خليل زادة في اجتماعه الاخير مع المجلس قبل اسبوعين اعطاهم الانطباع باننا سوف نسلم السلطة الى الحكومة
ي منتصف مايوِ وكان ذلك التصريح يبدو متماشيا مع سيناريو ‘التسليم المبكر’ للسلطة الذي كان يدعو له البنتاغونِ غير ان توجيهات اعضاء مجلس الامن القومي ترى ان العملية قد تأخذ عدة اشهرِ
وفي مساء الجمعة 26 مايو 2003 كان من المتوقع لقاء سبعة ممثلين في قاعة الاجتماعات في القصر حيث نعقد اجتماعات الموظفينِ والمجموعة التي اصبحت اطلق عليها صفة مجموعة السبعة الكبار تضم: احمد الجلبي من المؤتمر الوطني العراقي واياد علاوي زعيم حزب الوفاق الوطني العراقيِ والزعيمين الكرديين مسعود البرزاني قائد الحزب الكردي الديموقراطي، وجلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني وناصر الجادرجي من مجلس القيادة العراقي، وابراهيم الجعفري من حزب الدعوة والدكتور عادل عبدالمهدي وحامد البياتي مثلا المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، وذلك لان زعيم الحزب عبدالعزيز الحكيم كان مريضاِ وشككت في ان يكون مرض الحكيم مرضا ‘دبلوماسيا’ لانه لا يثق في نوايا التحالفِ
وعن اجتماعنا بعد وقت قصير بعد الخامسة مساء الجمعة كانت قاعة الاجتماعات في القصر يسودها جو حار وكانت هناك زجاجات من المياه المعدنية الدافئة فوق الطاولة الكبيرة وكنا نشرب الماء باستمرار لحرارة الجوِ
ركزت على انه لن يكون هناك نقل فوري للسلطة كما كان يرغب البعض ‘ولكننا على استعداد لنقل مسؤوليات متزايدة للقادة العراقيين’ِ
كيف هم؟
وكان الطالباني اول المتحدثين وقال وهو يتحدث الانكليزية بطلاقة ‘لابد لي من القول ايها السفير بريمر انني شخصيا سعيد لحضور هذا الاجتماع مع التحالف في واحد من قصور صدام’ وردد احمد الجلبي تعليق الطالبانيِ واتجه الجلبي في البداية نحو غارنر وقال ‘سيادة الجنرال اننا جميعا نشكرك على العمل المضني الذي قمت به لصالح الشعب العراقي’ وبعدها التفت الجلبي نحوي ‘كما اننا نرحب بالسفير بريمر ومساعديه’ وقال مسعود البرزاني متحدثا بالعربية ‘السفير بريمر، الجنرال غارنر انني اتحدث باسم جميع العراقيين عندما اشكر التحالف لتحريره العراق’ وبعدها قلت لهم ‘اود الحديث حول الوضع الامنيِ واكون ممتنا لاطلاعي على ارائكم فالامن يمثل حجر الزاوية بالنسبة لجميع جهودنا الهادفة لبناء عراق جديد بما في ذلك تشكيل حكومة تمثل العراقيين’ِ
وقال الدكتور علاوي بالانكليزية متحدثا بطلاقة ‘هناك فراغ أمني، وغياب للقانون وجريمة في الشارع لم نشهد لها مثيلا’ واستمر يصف الفوضى التي شهدناها جميعاِ وخلص الى ان ‘الناس يحتاجون الى المزيد من الحماية’ِ
وقال الجنرال ابي زيد ‘اود ان ارتب لاجتماع في اوئل الاسبوع مع كبار قادتي واعضاء هذا المجلس لمناقشة بعض الحلول العملية للمشكلة الامنية’ وقد وجد هذا الأمر قبولا جيدا لدى الحضور وناقشنا بعدها مرسوم اجتثاث البعث الذي وقعت عليه ذلك الصباح حيث ادلى كل منهم بتعليق قصير رحبوا فيه بشدة بذلك المرسومِ وقال الدكتور ابراهيم الجعفري معبرا عن مخاوف كان عبر عنها الطالباني والجلبي ‘سيادة السفير، اننا جميعا نخشى بوادر تدل على ان حزب البعث بدأ في تجميع صفوفه’ وكان يتنقل فيما بين الانكليزية والعربية مما اربك المترجمين واضاف ‘يجب ان يدع التحالف حدوث هذا الأمر اذ اننا جميعا نأمل ان تتخذوا خطوات حازمة للاجهاز على هذه العملية في مهدها’ وقال الجلبي ‘انني ادعو التحالف للتحرك الى ابعد من هذا المرسوم الذي صدر اليوم، وتنفيذ برنامج اكثر صرامة لاجتثاث البعث’ ولكنه اضاف قائلا ‘غير اننا لابد ان ندرك ان العديد من المواطنين العراقيين ارغموا على الانتساب الى الحزب’ واشرت الى ان سياساتنا صيغت وقد اخذت هذه الحقيقة في الاعتبارِ
وكان نصف الساعة الاول من الاجتماع يتسم بالود وان كان رسميا وقد تلطف الجو عندما انتقلنا إلى تناول العملية السياسيةِ
وابلغتهم مرة اخرى انني أود ان اركز على ان التوجه نحو تشكيل حكومة تمثل العراقيين ستكون عملية تراكمية’ِ
أين الآخرون
وبدأ اعضاء المجلس يتحدثون بلهجة اكثر حزماِ وكان البادئ بالحديث الطالباني ‘بالرغم من اننا نشكر التحالف كثيرا على جميع الجهود التي بذلت، الا ان علينا التحذير من مغبة اهدار النصر العسكري من خلال عدم التحرك بسرعة، وتنسيق الجهود لتشكيل الحكومة الجديدة’ِ
وتحدث حامد البياتي الذي يمثل المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق للمرة الأولى وقال: ‘السيد السفير، يجب تسريع خطى العملية السياسية فالشارع ينتظر الحرية التي وعدتم بها’ِ وقال الجلبي ‘السفير بريمر، اود ان اذكر سلطة التحالف المؤقتة بالوعود التي قدمتها خلال الشهر الماضي حول اقامة حكومة انتقالية خلال اسابيع قليلة’ والتفت وهو يبتسم باتجاه غارنرِ
وقلت محافظا على نبرة صوتي وموجها نظراتي نحو الجلبي ‘ان التحالف لديه نية لاقامة حكومة انتقالية في اقرب وقت يمكن فيه تشكيل تلك الحكومةِ ولكنني ارفض الرأي القائل ان التحالف يتلكأِ وكما قلت فان العملية ستكون تراكمية ولابد ان يكون هدفها حكومة تمثل فعلا العراقيين وهذا المجلس ليس مجلسا تمثيلياِ فهناك زعيم سني عربي واحد بينكمِ واتجهت جميع الانظار نحو نصير الجادرجي ‘وليس هناك اي تركماني ولا مسيحي ولا امرأة’ِ
وكنت انفذ السلطة التي منحني اياها الرئيس بوش و’وضع الامور في نصابها’ فهؤلاء زعماء متعلمون ولم يكن علي توضيح تلك الحقيقة وفيما عدا الجادرجي كانوا جميعا من المنفيين ممن عادوا حديثا الى العراقِ واضفت ‘ان اي حكومة تمثل العراقيين لابد ان تشمل العديد من العراقيين من المقيمين هنا ومن عانوا من حكم صدام لعقود’ِ
وفي نهاية الاجتماع اعلنت انه تمت دعوة مراسلي الصحافة لتحية اعضاء مجلس القيادة العراقية وقلت ‘انني سوف ادلي بتعليق موجز واقترح ان ترشحوا ممثلا للتحدث بعدي’ِ
وقد احدث اقتراحي ارتباكا واضحا وبالرغم من مظاهر التعاون الا ان هذا التجمع المختلف عشائريا وروحيا وسياسيا غير معتاد على التعاونِ وقد اخذ الأمر منهم اكثر من عشرين دقيقة لاختيار الزعيم الكردي مسعود البرزاني كمتحدث باسمهم وقد كان ذلك بمثابة نذير بالصعوبة التي ستواجه المجموعة حتى فيما يختص بالقرارات البسيطةِ
من يشرح سبب الانهيار؟
يروي بريمر في كتابه، انه في أول اجتماع له مع اركان سلطة التحالف في مقره في بغداد، طلب ملخصا عن الوضع في العراق ‘يشرح على وجه التهديد سبب انهيار الوضع، لانني عندما كنت في واشنطن تلقيت ملخصات للوضع من وزارتي الخارجية والدفاع وال’سيِايِايه’ وهيئة الاركان المشتركة، ولكن ايا من هذه الجهات لم يشرح اسباب الانهيار’
مأساة الكهرباء
ويتابع: ‘تحدث بيتر غيبسون، المستشار في وزارة الكهرباء قائلا ان محطات الكهرباء لا تنتج سوى ثلاثمائة ميغاواط لجميع انحاء البلاد وهذه كمية لا تكفي مدينة صغيرة فكيف بدولة فيها 25 مليون نسمة’ِ
وسألته ‘ما السبب في ذلك’ فقوات التحالف من طائرات ومدفعية لم تقصف محطات الكهرباء، فأجاب ان ‘الوضع شديد التعقيد’ِ وتدخل بعض القادة العسكريين لشرح المزيدِ
ولم يكن العراق يوفر ما يكفي حاجة السكان من الكهرباء قبل الحرب، وكان الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال لا يحصلون على نصيبهم منها، واثناء الحملة العسكرية التي استمرت لثلاثة اسابيع، لحق ضرر كبير بمحطات الكهرباء بسبب قيام قوات الحرس الجمهوري والجيش بعمليات رد عشوائية خاصة اثناء الليلِ
واضاف غيبسون ان ‘عمليات السلب والنهب كان لها تأثيرها ايضا، فقد تعرضت اجزاء ومحتويات كبيرة من المحطات الى السرقة، بل ان ابراج الاسلاك الكهربائية سرقت، حيث قاموا بتذويب هذه الابراج المصنوعة من النحاس وبيعها في السوق السوداء في الكويتِ
ِِ والصرف الصحي
وسألتهم: ‘وماذا عن نظام الصرف الصحي؟ ومعالجة الماء’؟ فاجابوا، انها لا تقل سوءا، كذا الحال بالنسبة للخدمات الاساسية الاخرى، ومعظم المدارس والجامعات لا تزال مغلقةِ
الإيجابية الوحيدة
وأخذ كل مستشار في مختلف الوزارات العراقية يقدم تقييمه المتشائم حول الاوضاع في مختلف مناحي الحياة في العراق، لكن لحسن الحظ ان وجدت تقييما واحدا ايجابيا من مستشار وزارة الصحة ستيف براونغ الذي قال ان ‘العديد من المستشفيات والعيادات لا تزال تعمل على الرغم من نقص المعدات والكهرباء والماء’ِ
ِِ الشرطة
واخيرا، قلت لهم: ‘حسنا، دعونا نتحدث عن الشرطة’، فتقدم المستشار بوزارة الداخلية بوب غيفورد ليتحدث قائلا: ان النظام والامن والقانون التي كانت سائدة في عهد صدام كلها انهارت، وان كل الوزارات دمرت بفعل السلب والنهب باستثناء وزارة النفط، لأن القوات الاميركية تلقت الاوامر بحمايتها، وتضم هذه الوزارة ارشيفا ووثائق حول حقول الشمال والجنوبِوبالفعل، فقد شملت اعمال النهب كل المباني الحكومية وذات الصلة بحزب البعث واجهزة الامن والجيش في جميع ارجاء البلادِ كما شمل التدمير المباني التابعة للوزارات وخاصة وزارة التعليم العسكري التي لم يبق منها شيءِ
وسألت ‘اين الشرطة؟’، فأجاب غينفورد انه ‘من الناحية النظرية هناك حوالي اربعة آلاف شرطي في بغداد من ذوي التدريب الضعيف، ولكن ليس لديهم من الاسلحة سوى المسدسات، فمعظم قوات الشرطة السابقة اختفت كما الجيش، بينما يحمل المتورطون في اعمال السلب والنهب، البنادق الاوتوماتيكية وقذائف ‘ار بي جي’، مما جعل عمليات السطو المسلح والخطف تحت تهديد السلاح تنتشر على نطاق واسعِ
وهناك تقارير عن حدوث عمليات اغتصاب وخطف بالقوة، وكانت عمليات الاغتصاب من ادوات تعذيب الخصوم في عهد صدام حسين، وكانت هناك غرف للاغتصاب في كل مركز للشرطة تقريبا، وكان اشهرها في اكاديمية الشرطة ببغدادِ
وأدركت انه لا بد من وجود المزيد من القوات لحفظ الامن في العراق، وسجلت ملاحظة للاتصال بالجنرال جون ابي زيد في قطرِ
إصلاح دولة مدمرة
العراقيون الشيعة شاركوا بشجاعة في الدفاع عن بلدهم ضد إيران
الحلة – 22/5/2003
صادف هذا اليوم اكتشاف مقبرة جماعية في المدينة تحت أحد ملاعب كرة القدم، وتجمع الأهالي يحفرون بأيديهم بحثا عن أقارب لهم.
كان مشهدا مهولا حين رأينا الناس يجمعون عظام الضحايا من الرجال والنساء الذين كان أقاربهم يتعرفون عليهم من خلال علامات فارقة أو أوراق ثبوتية وجدت إلى جانب الجثة، ولفت انتباهي أحد جنود المارينز إلى جانب جمجمة طفل كانت مازالت يكسوها الشعر.
عانت الحلة ذات الأغلبية الشيعية كثيرا بعد انتفاضة الشيعة ضد صدام عام 1991 وتعرضت لتصفيات واسعة من أجهزة القمع الصدامية عقابا لأهلها على التمرد على النظام.
ورأيت في اليوم نفسه في الحلة لمحة عن العراق الجديد، فقد قابلت الشيخ فرحات القزويني الذي أبلغني انه ‘حرر’ المسجد الذي كان يستخدمه صدام لتمجيد ذاته في المدينة، كما قال انه يحلم بإنشاء جامعة تضم كل أطياف العراق من طلبة ومدرسين لتعطي نموذجا للعراق الجديد بأنه لكل العراقيين.
ولدى مغادرة الحلة، رأينا من المناسب زيارة بابل خاصة ان طريقنا تمر من جانبها، ولم أجد دليلا على الحدائق المعلقة، لكنها بدت لي أشبه بديزني وورلد ايست.
وكان صدام قد عزز طموحاته بإعادة بناء بابل في التسعينات وخاصة بعد هزيمة جيشه الساحقة في حرب تحرير الكويت، وعلى الرغم من احتجاجات علماء الآثار في العالم، قام صدام بالبناء مباشرة على المواقع الأثرية مما ألحق أضرارا كبيرة بهذه الآثار، ثم بنى قصرا له على تلة مجاورة.
ولكن زيارتي للحلة ورؤية المقبرة الجماعية جعلتني وجها لوجه أمام المتحدي المتمثل بكيفية بناء قوات أمن وجيش وشرطة جديدة لحفظ الأمن في العراق.
تطهير الجيش
خدم الكثير من العراقيين بكرامة في القوات المسلحة منذ أجيال، رغم وحشية صدام، فقد شارك العراقيون الشيعة في الدفاع عن بلادهم بشجاعة ضد إيران الشيعية خلال الحرب الإيرانية – العراقية التي امتدت ثماني سنوات. وكان الجيش السابق يضم عددا كبيرا من الضباط المحترفين، ولهذا السبب وغيره، لم يحظوا بثقة صدام. لقد عمل الدكتاتور على الابقاء على قيادة الجيش في أيدي مقربين منه، كما فعل هتلر، وجعله يخضع لرقابة أجهزة الأمن، وكان يقوم باستمرار، بعمليات تطهير لكبار الضباط لضمان ولاء الجيش له، وحوله إلى أداة للقمع.
كان الجيش السابق قد اختفى عن الانظار قبل وصولي بوقت طويل، فمعظم افراد وضباط الجيش الذين رأوا كيف يتجه مسار الحرب عام 2003 تواروا عن الانظار وانخرطوا مع عائلاتهم او بدأوا العمل في مزارعهم، فقد ابلغ جون ابي زيد صحيفة نيويورك تايمز ان ‘وحدة عسكرية واحدة من الجيش العراقي السابق لم تظل متماسكة، ولذلك لم يكن الجدل يدور حول استخدام القوة الراهنة ام لا؟ بل ما اذا كان يتعين علينا ان نستدعي هؤلاء الجنود والضباط الفارين من الخدمة ام لا؟’
وفي اوائل مايو وقبل ان نصل العراق، اجرى الديموقراطي المعتدل والت سلوكومب الذي كان يشغل منصب كبير المستشارين للشؤون الامنية والدفاعية، مباحثات في البنتاغون شملت نائب وزير الدفاع بول وولفوويتز حول الدلالات السياسية لاختفاء جيش صدام، وكان من الواضح ان العراق بحاجة الى جيش جديد وانه لا بد من ان يكون هناك مكان لجنود سابقين، ولكن السؤال كان كيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟
لماذا الحل؟
وفي التاسع من مايو 2003، اي قبل يوم واحد من مغادرتنا الولايات المتحدة الى العراق، ارسلت مذكرة الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونسخة منها الى وولفوويتز وعدد آخر من المسؤولين في الوزارة الخص ما دار في تلك النقاشات وخلصت الى ضرورة حل جيش صدام واجهزته الامنية كمقدمة لانشاء جيش وجهاز امني جديد، وارفقت بالمذكرة مسودة قرار بذلك.
وعقدت جلسة اخرى لمناقشة الموضوع مع المستشارين وولت وكلاي واستمر النقاش لايام واكملنا النقاش حول الموضوع مع مسؤولي البنتاغون بمن فيهم وكيل الوزارة دوغلاس فيث والآن حان الوقت للوصول الى نتيجة من اجل تقديم التوصيات الى وزير الدفاع.
وكتبت الى رامسفيلد: ‘اولا دعنا نكن واضحين بشأن ما نريد تحقيقه، انه لامر اساسي ان نقنع العراقيين اننا لن نسمح بعودة ادوات القمع الصدامية كالبعث والمخابرات والجيش. فنحن لم نرسل قواتنا على بعد آلاف الاميال لاسقاط صدام ووضع دكتاتور آخر مكانه’.
ولانه كان يتعين علينا ان نأخذ التركيبة الطائفية في البلاد وتاريخها، فإن تشكيل جيش عراقي جديد ليس بالامر السهل. اذ يجب ان يمثل الامة بأسرها، وليس كما كان عليه الوضع بالنسبة لجيش صدام، الذي كان غالبية ضباطه من السنة، وكان صدام هو الذي يسند المناصب العليا فيه لمن يريد، اما الجنود والرتب الدنيا فكانت من الشيعة، وكان يتم معاقبة من يفرون من الخدمة العسكرية بل ان العقاب طال عائلاتهم.
رفض شيعي كردي
وبينما كنت اناقش المستشار سلوكومب حول موضوع الجيش، اتفقنا على عدم استدعاء الجيش القديم الذي كان يخضع لهيمنة السنة لان ذلك سيثير حفيظة الغالبية الشيعية وسوف يعتبرونه عودة للصدامية دون صدام.
وكذلك، عبر الاكراد، الذين يتمتعون بقدر من الحكم الذاتي والحماية الاميركية من قوات صدام، عن رفضهم القاطع لاعادة الجيش السابق، وهكذا كان الشعور بعدم الثقة في الجيش السابق، في اعمق ما يكون، سواء الشيعة او الاكراد، ولا يسع الولايات المتحدة المجازفة بفقدان تعاون هاتين الفئتين من ابناء الشعب العراقي معها.
وواجهتنا كذلك، صعوبات عملية مهمة تعترض استدعاء افراد الجيش السابق، فكل جيش يحتاج الى ثكنات وقواعد ومعدات، فقد تم تدمير كل القواعد والثكنات عقب اختفاء افراد الجيش عام 2003، كما اختفت كل المعدات العسكرية الخاصة بهم.
واكد لي كلاي انه لم تبق وحدة واحدة او ثكنة واحدة على حالها، وهكذا، فان المسألة لا تتعلق باعادة تشكيلة عدة كتائب من الجيش، وحتى لو تمكنا من استدعاء افراد من الجيش، فانه لا مكان لهم ولا معدات.
عودة الجيش لكسب السنة
واشار وولت الى ان البعض يجادل بان اعادة الضباط السنة قد يجلب تأييد السنة للتحالف، ولكن ذلك يغفل المشكلة المتمثلة بالحجم الهائل والهيكل الضخم لجيش صدام.
لقد كان صدام يمتلك جيشا اكبر من الجيش الاميركي في الوقت الذي يبلغ فيه عدد سكان الولايات المتحدة عشرة اضعاف سكان العراق، وكان في الجيش العراقي 11 ألف جنرالا مقابل 300 فقط في الجيش الاميركي.
وهكذا فحتى لو تجاهلنا الاعتراضات السياسية على استعادة جيش معظم افراده من السنة وتغلبنا على مشكلة المعدات والثكنات، فلن نتمكن من توفيرت مواقع قيادة إلا لقلة قليلة من كوادر الجيش السابق، وهذا سيثير حفيظة بقية اركان القيادة الذين سيتم استبعادهم وهم يرون رفاقهم يتولون القيادة.
وكنت قد ابلغت الجنرال ابي زيد والجنرال ماكيرنان بعد وصولي الى بغداد بوقت قصير ان الرئيس بوش يريد جيشا عراقيا قادرا على القيام بمهام الدفاع الوطني، ولكن يجب ان يكون هذا الجيش ممثلا لجميع شرائح الشعب، والا يقوم بقمع المواطنين او تهديد الجيران، واي محاولة لاعادة ضباط سنة الى قيادة الجيش ستكون مرفوضة دون شك من الشيعة والاكراد الذين يشكلون معا اكثر من 80 في المائة من السكان، وهي بالتالي وصفة للحرب الاهلية.
ومع ذلك، كان يتعين علينا ان نجد مكانا للجنود السابقين في المجتمع العراقي، ولذلك كان اقتراح سلوكومب ان نختار بعناية بعض الضباط السابقين لاشراكهم في الجيش الجديد، وكان ذلك مشروطا باستبعاد كبار قادة الجيش السابق او اعضاء الدائرة الداخلية لاجهزة الامن، اي ان الجنود العاديين كان مرحبا بهم في الجيش الجديد.
وفي الحالات الاخرى، سيتم تقييم كل حالة لوحدها بالنسبة للضباط المتقدمين للانخراط في الجيش الجديد، وفقا لمؤهلاتهم وليس على اساس اخر. وكنا نعتقد ان العراقيين سيشعرون بالفخر للخدمة في الجيش العراقي الجديد. وهذا ما وجدناه بالفعل. واصبح المنضوون تحت لوائه في معظمهم، اما عناصر في الجيش السابق او اعضاء في احدى الميليشيات المناهضة لصدام.
وكان علينا ايضا ان نتعامل مع حقيقة انه من الضروري ان يكون الجيش الجديد اصغر بكثير من جيش صدام، وفيه عدد قليل جدا من الضباط الذين خدموا في جيشه، ولذلك فبالاضافة الى ايضاح ان الجيش الجديد يرحب بالضباط السابقين من الرتب المتدنية، علينا ايجاد مصدر دخل لمئات الالاف من الجنود والضباط السابقين، والبدء بدمجهم في المجتمع، وتمكنا من تأمين فرص عمل للبعض منهم كحراس امن، وعمل البعض منهم في مؤسسات عسكرية كالطواقم الطبية العسكرية وقوات الهندسة أو في الوزارات وبعضهم واصل حياته المدنية.
الغاء اجهزة الامن
وللقيام بهذه العملية الدقيقة كان علينا اولا الغاء اجهزة الامن التابعة للنظام السابق. ومثل هذا القرار لن يترتب عليه طرد جندي واحد أو حل وحدة عسكرية واحدة. فذلك حدث قبل اسابيع. بل انه يشكل حلا رسميا لهيكل السلطة القديم، وان سقوط نظام صدام وحزب البعث اصبح امرا دائما.
وقمنا بالتنسيق الدقيق لهذه الخطوة مع البنتاغون. ففي التاسع عشر من مايو، ارسلت مذكرة الى الوزير رامسفيلد تتضمن شرحا تفصيليا لتوصياتنا بحل وزارة الدفاع العراقية والهيئات التابعة لها بما في ذلك المخابرات والأمن والجيش والوحدات العسكرية وشبه العسكرية الأخرى، وقلت في مذكرتي ان هذه الخطوة ستكون حاسمة في سعينا الهادف الى تدمير اسس نظام صدام واظهارا للشعب العراقي ان لا عودة لصدام وعصابته.
وأبلغته اننا عرضنا دفع تعويضات نهاية خدمة لمئات الآلاف من الجنود في الجيش السابق باستثناء كبار الضباط البعثيين في الجيش واجهزة الامن، الذين فر كثيرون منهم الى خارج البلاد. وقبل ارسال هذه المذكرة الى البنتاغون ناقشتها مع سلو كومب ومع كبار القادة المدنيين والعسكريين في ادارة التحالف بمن فيهم ماكيرنان والقيادة المركزية في قطر.
وفي البنتاغون، قام فيث بمراجعة المذكرة في الثاني والعشرين من مايو وطلب منا بعض التوضيحات، وفعلنا. وظل الناطق باسمي دان سنيور ينسق صياغة البيان طوال الليل مع مدير مكتب رامسفيلد لاري دي ريتا. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، حين اعطاني رامسفيلد التفويض بالمضي قدما في هذا الموضوع، ابلغت الرئيس بالخطة من خلال رابطة تلفزيونية بالفيديو.
الأمر رقم 2
وفي الثالث والعشرين من مايو 2003، وقعت على الأمر رقم 2 لادارة التحالف والمعنون ‘حل مؤسسات’، والذي شمل وزارة الدفاع وكل الهيئات التابعة او المرتبطة بها وكل التشكيلات العسكرية بما في ذلك الحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص وميليشيات حزب البعث المسماة ‘فدائيي صدام’، كما شمل دفع نهاية خدمة لكل المسرحين من هذه المؤسسات (مع بعض الاستثناءات)، وان ادارة التحالف، بصدد تشكيل جيش جديد كخطوة اولى نحو خلق قدرات عسكرية للدفاع عن النفس للعراق الحر. وسوف تكون هذه القوة التي ستخضع لمسؤولين مدنيين، ‘مهنية وفعالة عسكريا وممثلة لكل العراقيين’.
بين الطالباني والحكيم
وبعد المصادقة على هذه الخطوة في واشنطن، ركزت وحدات ادارة التحالف والقيادة المركزية على نهج يتألف من مرحلتين لاعادة دمج الجنود المسرحين في المجتمع. وبدأنا نبحث عن هؤلاء الجنود، لاسيما في المناطق الشيعية من اجل اشراكهم في برامج الاشغال العامة. ثم اعلن سلوكومب عن خطة لتشكيل فرقة عسكرية كاملة للجيش الجديد، تتألف من 12 ألف جندي خلال عام واحد، ثم ثلاث فرق اخرى في العام التالي، واننا سوف نشرك بعض الجنود والضباط من الجيش السابق فيها، وكذلك افرادا من الميليشيات الشيعية والكردية.
وخلال اسابيع بدأنا صرف نهاية الخدمة للجنود والضباط السابقين ما عدا الضباط ذوي الرتب العالية الذين وصل عددهم الى 8 الاف ضابط من اصل مئات الآلاف كما قدمنا دفعة مالية واحدة لكل هؤلاء.
وبالنسبة لقرار حل الجيش السابق، قال لي الزعيم الكردي جلال الطالباني انه كان افضل قرار اتخذته ادارة التحالف خلال فترة عملها في العراق التي امتدت لاربعة عشر شهرا.
اتصلت بالسيد عبدالعزيز الحكيم بعد فترة وجيزة من اتخاذ ذلك القرار. على أمل ضم بعض افراد ميليشيات بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يتزعمه الحكيم الى الجيش الجديد.
لم يكن الحكيم يحظى بشعبية كبيرة، كما كان والده او شقيقه محمد باقر الذي اغتيل قبل عامين، في أوساط قيادة المجلس الأعلى المكونة من سبعة اشخاص. وكان الحكيم يحظى بسمعة في العراق بأنه من الصعب التعامل معه.
أجابني الحكيم ‘اخبرني يا حضرة السفير، لقد قلت ان الجيش الجديد سيقوده ضباط عراقيون، فمن هم هؤلاء الضباط؟ فقلت له: أعدك بأن يكون قائد الكتيبة الأولى شيعيا. وقد اوفيت بذلك الوعد’.
وخلال أيام من توقيع الامر المتعلق باجهزة الأمن السابقة قمت بزيارة الى الزعيم الكردي مسعود البرزاني في منزله بالقرب من مدينة السليمانية، وعبر لي البرزاني عن اعجابه بقرار حل الجيش وقدم لي التهاني بذلك واثبت ان ادارة التحالف جادة بخلق عراق جديد وموحد. واضاف ان اعادة ضباط من الجيش السابق كان سيمثل خطأ كبيرا، ولكننا – نحن الاكراد – انفصلنا عن العراق. فقد قاتلنا جيش البعث منذ البداية، ولو عادوا لقاتلناهم.. ولاندلعت الحرب الأهلية’.
واضاف ان ‘الاكراد موجودون في سوريا وايران وتركيا، واذا اندلعت الحرب الأهلية في العراق، لأصبحت حربا اقليمية. ولكننا تفادينا هذه الكارثة الآن’.
أول الزائرين
في السادس والعشرين من مايو، استقبلت اول وفود الكونغرس الزائرة الى العراق وكان برئاسة الجمهوري دانكان هنتر الذي يشغل رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب. لم يمكث الوفد في العراق سوى ساعات تماشيا مع قرار للبنتاغون الذي يقضي بعدم مبيت اي وفد اميركي زائر الى العراق، لأسباب أمنية. وقد اطلعناهم انا والجنرال ريكاردو شافيز على تفاصيل الاوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية.
وبشكل عام كان الاعضاء الزائرون يخرجون بانطباعات عن الوضع في العراق افضل مما كانت لديهم قبل قدومهم.
وقد استقبلنا خلال 14 شهرا، 239 عضوا في الكونغرس وهو رقم قياسي لعدد المسؤولين الاميركيين الذين يزورون الشرق الأوسط.
ومع قدوم الصيف وصلت درجة الحرارة الى اكثر من 50 درجة مئوية بحيث تحول مكتبي في القصر الرئاسي الذي لا تكييف فيه، الى ما يشبه الفرن.
التحدي الكبير
كان من بين أهم الأولويات بالنسبة لي، ان يعود انتاج العراق النفطي والتصدير مرة اخرى. ولكن ذلك كان تحديا كبيرا. وابلغني مدير مصفاة الدورة المهندس الكفؤ وشار خشاب ان هذه المصفاة بناها الأميركيون عام 1955 ولم يتغير او يرمم فيها شيء حتى الآن، أي انها ظلت تعاني من الاهمال لاكثر من خمسين عاما.
وبالاضافة الى ذلك، تعرضت هذه المصفاة الى عمليات سلب ونهب لكل محتوياتها وشملت الانابيب والأسلاك الكهربائية وكل قطعة تمكنوا من فكها لاعتقادهم بامكانية بيعها بثمن مرتفع. ولكن الفضل يعود الى هذا المهندس النشط وفريقه من العراقيين الذين اعادوا هذه المنشأة الى العمل.
ويقول المهندس خشاب ‘لقد طلبت بنادق كلاشنكوف لموظفي المصفاة وتولينا حمايتها الى ان قدم الجنود الاميركيون فلم أذق للنوم طعما لثلاثة أيام وثلاث ليالي’.
وقلت له: ‘انك رجل شجاع’، لكننا في الواقع، كنا نحتاج الى ما هو أكثر من الشجاعة، فالنفط يمثل شريان الحياة للاقتصاد العراقي، واذا لم يتدفق النفط، فإن الاقتصاد سيموت، ويمتلك العراق ثاني أكبر احتياطي من النفط في العالم وتقدر احتياطاته ب 112 مليار برميل، وكان العراق ينتج 5.2 مليون برميل يوميا قبل الحرب، وتوقف الانتاج تماما بعد التحرير لان العمال كانوا يخشون القدوم إلى اماكن العمل، ولم يكن العراق يصدر اي شيء من النفط لدى وصولي، الأمر الذي يعني ان الاقتصاد لا يمتلك اي عوائد.
كانت مصافي النفط ومصانع أخرى تابعة للحكومة تشغل أكثر من نصف مليون عراقي في وقت وصلت فيه نسبة البطالة الى اكثر من 50 في المائة، لقد أدت عقود من الادارة الفاسدة والسرقة في وضح النهار، اضافة الى اكثر من عشر سنوات من العقوبات الدولية، الى شل اقتصاد البلاد، وكان يتعين علينا التحرك بسرعة لاعادة تشغيل عجلة الاقتصاد والبدء بعملية الاصلاح.
وقد كان العراق، قبل ان يدمره صدام، يمتلك واحدا من انجح اقتصادات المنطقة، حيث كانت ايراداته من النفط سنويا في مطلع السبعينات تصل الى ما يعادل 75 مليار دولار عام 2003، وكان معدل دخل الفرد يصل الى 7500 دولار في عام 1980، وهو معدل لم يكن يضاهى في اي بلد آخر في المنطقة، لا سيما في بلد كان يقدم التعليم والرعاية الصحية بالمجان، ولكن صدام وازلامه دمروا البلاد في السنوات العشرين التالية، خاصة الطبقة الوسطى والاقتصاد، وبددوا ثروات البلاد على الحروب.
لقد كان النظام الاقتصادي الذي تبناه حزب البعث في العراق هو مزيج من الاشتراكية والطوباوية والبيروقراطية والمؤسسات الخاضعة لسلطة الدولة وسوء توزيع موارد الدولة، اما العراق الجديد فهو بحاجة الى اقتصاد حديث.
اقتصاد مفلس
الإيرانيون يلعبون دورا في العنف في العراق
انفجار انابيت البنك المركزي العراقي اتلف مليارات الدنانير واوقعنا في ازمة
بدأنا بتعليم حلقة دراسية عن اقتصاد السوق الحرة، تلك الحلقة التي اكتسبت شعبية كبيرة وبدأ يحضرها مسؤولون من مختلف الوزارات ومن القطاع الخاص وقادة سياسيون في مقتبل العمر، وامل ان يكون لهذه الحلقات تأثيرها الايجابي على العراق الجديد.
في احدى أمسيات الحلقة الدراسية، كانت لدى ديفيد اوليفر مدير الإدارة والميزانية في سلطة التحالف انباء سيئة، حيث قال ان ‘معظم الشركات ال 1920 الخاضعة لإدارة الدولة تمنى بالخسائر، الأمر الذي يكلف الخزينة حوالي مليار دولار سنويا، اما التكاليف غير المباشرة فتتمثل في المخصصات غير الفاعلة لرأس المال والعمالة والتي يصعب تقدير حجمها’.
كما اشار ديفيد الى ان النظام المصرفي العراقي أصبح مفلسا، فالبنوك الستة التابعة للدولة كانت تقدم القروض وفقا لتوجهات سياسية، وبينما يوجد حوالي اثني عشر مصرفا خاصا، فإنها كانت أشبه بالصناديق العائلية وليست مؤسسات تجارية، وقد اغلقت كل هذه البنوك ومعها البنك المركزي عند تحرير العراق.
واضاف ديفيد ‘وهكذا، واجهنا أزمة سيولة أيضا، فمن أين سنوفر المال للشعب العراقي كي تبدأ عجلة الاقتصاد بالدوران؟’.
وبالاضافة الى دعم الكثير من السلع الأساسية ومنها الوقود ومشتقاته التي تكلف الدولة أكثر من 5 مليارات دولار سنويا وفقا لتقديرات البنك الدولي، بدأ صدام حسين في عام 95 بتوزيع بطاقة تموين يحصل بموجبها كل فرد في كل أسرة عراقية على المواد الأساسية بالمجان، الأمر الذي يثقل كاهل ميزانية الدولة، وبالاضافة الى ذلك، اطلقت هذه الاوضاع مشكلة تهريب النفط ومواد أخرى الى الخارج، حيث الاسعار أعلى بكثير في الدول المجاورة. والمشكلة الاخرى التي واجهناها عدم توفر بيانات او سجلات رسمية للميزانية التي كانت سرا من اسرار الدولة في عهد صدام الذي كانت الميزانية تخضع له مباشرة.
وقال بيتر ان ‘صدام لم يكن خبيرا اقتصاديا’.
وكان صدام حسين، ومن اجل تغطية النفقات الحكومية التي كانت تفوق العوائد في التسعينات، عمد الى طباعة اوراق نقد اضافية، ففي نهاية عام 2002 كانت نسبة التضخم تفوق ال 100 الف في المائة ونسبة البطالة حوالي 50 في المائة. وقد اصابت نسبة التضخم الهائلة الطبقة الوسطى والموظفين في مقتل، وانخفضت قيمة الدينار العراقي بشكل دراماتيكي.
وفي ظل غياب النظام المصرفي، بدأنا نبحث عن وسيلة لضخ السيولة في السوق، وفكرنا بموظفي الحكومة الذين يصل عددهم الى 5،1 مليون شخص والذين لم يتلقوا رواتبهم منذ بدء الحرب، ثم هناك السجناء الذين تم تحريرهم ويبلغ عددهم مئات الآلاف والذين لم يحصلوا على شيء منذ اشهر.
ولدى التمحيص في هذا الموضوع، وجدنا نظاما للخدمة المدنية يتسم بالفوضى، فقد تم تدمير هياكل الرواتب عبر سنوات من صفقات الدفع الخاصة والمحسوبيات والفساد والمكافآت على اسس حزبية وعائلية ورشاوى تقدم على انها عمولات!
واتفقنا على انه ليس بالامكان ارجاء دفع رواتب الموظفين الى حين انجاز نظام جيد لذلك، وطلبت من المساعدين خطة عاجلة لدفع رواتب موظفي الحكومة، وفي الوقت ذاته نعكف على بلورة نظام معقول لدفع الرواتب. وقد اتخذت قرارا برفع الراتب التقاعدي من دولارين في الشهر الى عشرين دولارا.
وفي النهاية ارتفعت فاتورة الرواتب الشهرية في الاشهر الاولى الى 170 مليون دولار، ثم اطلقنا دراسة مهنية يشارك فيها خبراء عراقيون واجانب، لوضع جدول حديث للرواتب.
ولكن كنا بحاجة الى بيانات شخصية، الامر الذي كان من الصعب الحصول عليه في بعض الوزارات، ولم يكن متوفرا اصلا في وزارات اخرى، وكنا مضطرين لدفع الرواتب والرواتب التقاعدية على شكل نقدي، ولكن في ظل نقص الاوراق النقدية من الدينار العراقي، دفعناها بالدولارات. وفي الرابع والعشرين من مايو، سلمنا الدفعة الاولى من الرواتب للموظفين في ظل حراسة وتيقظ قوات التحالف.
وابلغت مستشاري سلطة التحالف بضرورة تحسين مستوى التعليم، وبالفعل بدأنا بترميم الف مدرسة وتزويدها بالمعدات، كما رفعنا راتب المدرس من ثلاثة دولارات الى 150 دولارا شهريا. وبدأنا بتطهير المناهج الدراسية من الدعاية البعثية، وكان ذلك يعني ضرورة طباعة 5 ملايين كتاب قبل بدء العام الدراسي في اكتوبر.
وفي هذه الاثناء، حدد خبراء ومقاولو سلطة التحالف العشرات من المشاريع الطارئة لتحسين انظمة المياه والاتصالات والموانئ والكهرباء، وبدأنا العمل على ضمان توزيع اكثر عدالة للطاقة الكهربائية في ظل النقص الحاد في الطاقة الكهربائية.
مشاكل وحلول
في الرابع من يونيو، حطت طائرة الرئاسة الخاصة في قاعدة العديدية في قطر، ووصلت الى القاعدة برفقة السفيرة الاميركية في الدوحة مورين كوين، ثم انضم الينا الجنرال تومي فرانكس والجنرال جوني ابي زيد وعدد من كبار المسؤولين القطريين.
ونزل الرئيس بوش، الذي كان قادما من العقبة بعد حضور مؤتمر اسرائيلي فلسطيني، من الطائرة واخذ يصافح مستقبليه، وبدا متفائلا ومليئا بالحيوية، وحين وصل الي قال: ‘بريمر وامسك بي في كتفاي بكلتا يديه، واضاف: ماذا انت صانع.. تعال معنا الى الفندق لتدخن السيجار’ وتبع الرئيس الى سيارة الكاديلاك المصفحة كل من كولين باول وكونداليسا رايس، بينما عدت الى سيارة السفير، ولكن احد مساعدي الرئيس جاءني الى السيارة وقال ان ‘الرئيس يريدك في سيارته’.
في سيارة الرئيس
وحين صعدت الى السيارة قال لي: ‘هيا اطلعنا على اخر الانباء في العراق، جلست مقابل الرئيس والى جانبي رايس بينما جلس باول الى جانب الرئيس في المقعد الخلفي’.
وجرى نقاش سريع بيني وبين الرئيس في الطريق الى فندق ريتز كارلتون الدوحة.
قلت للرئيس: ‘دعنا نبدأ بالامن والوضع في بغداد يتحسن ولكن لا تزال تواجهنا مشكلات، فالعنف يأتينا من ثلاث: النهابون والبعثيون والمخابرات السابقة، وربما يلعب الايرانيون دورا في ذلك’.
سألني الرئيس: ‘ماذا يعتقد العراقيون حيال ذلك؟’.
فأجبت: ‘انني بناء على محادثات مع زعماء قبائل شيعية، فانهم لا يريدون لايران ان تعبث في بلادهم’.
وسأل الرئيس: ‘ماذا عن الامن في المناطق الاخرى؟’.
قلت: ‘مازال هناك المزيد الذي يجب علينا عمله في غرب وشمال بغداد، ووردت لي تقارير عن سلفيين سعوديين يأتون الى العراق’، وقلت ان معظم القوات العراقية التي اختفت بعد الحرب، اختلطت مع السكان في المناطق السنية في غرب وشمال بغداد في مدن مثل تكريت وسامراء والفلوجة وبغداد، وعلينا عمل المزيد لتعقبهم.
وسألني بوش: ‘كيف الاوضاع بشكل عام؟’ فقلت انني متفائل لسببين اولا: ان العراق لديه موارد ممتازة، حيث وفرة المياه والاراضي الخصبة والاحتياطات الهائلة من النفط، كما ان العراقيين اناس نشطون ولديهم عقول نيرة’.
واضفت ‘انه ليس من الصعب فهم الاضطراب النفسي الذي يعاني منه العراقيون فقد شهدوا السقوط الاكثر دراماتيكية لأي نظام خلال عقود، ومعظم العراقيين ليس لديهم تجربة مع حرية الفكر، ولديهم فهم غامض لمعنى الحرية، ولكنهم يرغبون في ان نعلمهم ذلك’.
وسألني الرئيس: ‘هل يمكنهم ادارة بلد حر؟ قلت له ان بعض زعماء السنة لا يثقون بالسنة’، فقال: وما انطباعك؟ قلت له: لا اوافق على ذلك ومن لقاءاتي مع العديد من زعماء الشيعة المعتدلين يمكنني القول ان بالامكان التعامل معهم’.
فسأل الرئيس: ‘وماذا عن الاقتصاد؟’ فقلت له ان البطالة هي مشكلتنا الكبرى ونعتقد انها تصل الى 50 في ا لمائة، وكذلك فان نصف عدد السكان هم من الشباب الامر الذي يجعل ذلك خليطا قابلا للانفجار’.
وشرحت للرئيس ان العراق كان لديه نظام اقتصادي ستاليني مشلول، ونحن بحاجة الى خلق فرص عمل، وابلغت الرئيس انني كنت انوي الاعلان عن برامج طارئة لخلق فرص عمل في الاسبوع التالي للقائنا، وفي المدى الاطول، نخطط لمساعدة العراقيين في تحويل الصناعات العسكرية الى مؤسسات مدنية.
وسأل الرئيس: ‘وماذا عن خلق جهاز شرطة وجيش جديدين؟’ فقلت له ان ذلك يمثل الاولوية القصوى بالنسبة لنا. لكن الجنود السابقين ليسوا ملائمين او مدربين على العمل الشرطي. واشرت الى وصول المفوض السابق لشرطة نيويورك بيرناردو كيرك لمساعدتي في مجال الشرطة العراقية، ولديه خطة لبناء قوات شرطة محترفة.
كما ابلغت الرئيس ان انتاج النفط بدأ يتزايد، واننا ننتج الان 700 الف برميل يوميا واننا سنبدأ التصدير عما قريب عبر انابيب النفط التركية. وحين دخل موكب الرئيس الى سرداب الفندق، طلب مني ان ابقى معه، وقال مازحا: ‘التصق بي وسوف ترى العالم السفلي لأفخم فنادق العالم’.
وفي صباح اليوم التالي، قدم الجنرال تومي فرانكس في جناح الرئيس ملخصا للمشكلات الامنية في شمال وغرب بغداد. وقد انضم الينا كل من باول ورايس وكبير موظفي البيت الابيض آندي كارد.
وقال فرانكس مخاطبا الرئيس: ‘لقد اكدت للوزير رامسفيلد ضرورة الابقاء على مستوى عدد القوات الراهن لتحقيق اهدافنا، واشار على خريطة العراق الى مناطق الجنوب التي تخضع للقوات البولندية، فتدخل الرئىس قائلا: ‘انا لست خبيرا عسكريا لكني اعتقد اننا يجب الا نعول كثيرا على القوات غير الاميركية، وعلينا تفادي اي تدهور في قدراتنا القتالية، فقوات حلف وارسو السابق قد تبدو جيدة على الورق فحسب، لكنها ليست بمستوى التدريب والتسليح الذي تتمتع به القوات الاميركية’.
وقد ظل باول صامتا طوال اللقاء. وانا اكن احتراما شديدا له وتربطني به علاقة جيدة منذ كان قائدا عسكريا رفيعا في اوروبا ابان الحرب الباردة وكنت سفيرا في هولندا. ولكنه تحدث اخيرا قائلا: ‘انه في افضل الاحوال، ستكون هناك حكومة تمثيلية في العراق يهيمن عليها الشيعة، فهل سيكون هناك قانون تطبيق الشريعة الاسلامية كما في نيجيريا وباكستان؟’. فأجبت ‘انني افهم انه سيكون هناك قوانين من الشريعة واخرى من القوانين الغربية. كما هو الحال في قطر، على سبيل المثال، حيث يقتصر تطبيق الشريعة على الاحوال الشخصية’.
وسأل باول: ‘ما السيناريو الافضل بالنسبة لك للعام المقبل؟’ فقلت: ‘خلال عام، يمكن كتابة الدستور واجراء انتخابات ديموقراطية’. وكانت كونداليسا رايس تسجل الملاحظات، ثم تدخلت ‘هل يمكن لنظام الانتخابات ان يضمن قيام احزاب سياسية كما هي الحال في بعض الدول الاوروبية مثل المانيا؟’، فقلت: ‘امل ذلك بالتأكيد. فهذه احدى وسائل تعزيز فرص قيام عراق مستقر’.
مشكلة الدينار
وحين عدت الى بغداد مساء ذلك اليوم، انخرطت في عقد اجتماعات مع الفريق الاقتصادي لبحث ازمة الدينار العراقي، حيث لم تكن هناك اوراق نقدية كافية لاحتياجات البلاد.
وكان مأزق سلطة التحالف اننا كنا ندفع نفقات الحكومة العراقية التي تصل الى مئات الملايين من الدولارات، بالدولار الاميركي. فقد تدهورت الثقة بدينار ‘صدام’ الذي يحمل صورته والذي كان يمثل العملة الرسمية في جنوب العراق منذ حرب الخليج عام 1991. وكانت مشكلة العملة معقدة لدرجة كان يصعب السيطرة عليها.
واما العقدة الاخرى، فكانت تتعلق بالاكراد، حين انفصلوا عن العراق عام 1991 واقاموا منطقة كردستان التي تتمتع بالحكم الذاتي. لقد استمروا في تداول الدينار العراقي، الذي اطلقوا عليه ‘الدينار السويسري’ لانه طبع في سويسرا.
وكان السبب في ازمة العملة العراقية هو انفجار انابيب المياه في سراديب البنك المركزي مما ادى الى تخريب المليارات من اوراق العملة التابعة للبنك المركزي، عند نهاية الحرب، وسبب نقصا في اوراق العملة مما جعل من الصعب على التحالف وقف دفع الرواتب بالدولار، ولم نتمكن من طباعة اوراق نقدية جديدة بسبب عدم العثور على قالب ال10 آلاف دينار، الذي ربما تعرض للسرقة، وبسبب الشك في ان هذه الفئة من العملة تعرضت للتزوير، اصبحت تصرف بأقل من قيمتها بكثير.
واقترح احد الخبراء الاقتصاديين طباعة كميات كبيرة من فئة ال250 دينارا او استبدالها بفئة 100 الف حتى نتمكن من سحبها من السوق، وبالفعل، اعطيت على مضض تفويضا بطباعة اوراق من فئة 250 دولارا.
ولكن مع مرور كل يوم كانت اوراق النقد بالدولار تزيد في الشارع، الامر الذي قوض ثقة الناس بالدينار العراقي.
وابلغني ماكفرسون بعد اجتماع جمعه بكبار مستشاريه الماليين ان ‘زملائي وانا نرى امكانية انهيار دينار صدام بالكامل’، اومأت برأسي لهذه الانباء السيئة، وقلت ان فقدان العملة العراقية قيمتها بالكامل هو آخر ما نريده فهذا الحدث ستكون له تبعاته السياسية والاجتماعية الكبرى، لان من شأن ذلك الغاء مدخرات الملايين من المواطنين العراقيين، وقال بيتر ان ذلك قد يفرض على الاقتصاد العراقي التعامل بالكامل بالدولار.
فقلت له: ان ذلك سيكون بمنزلة المأساة، وسوف يبعث برسالة مدمرة الى العراقيين، والعالم بأن الولايات المتحدة تعامل العراق كمحمية وان الاحتلال سوف يكون دائما ولا يمكننا ان نجعل ذلك يحدث بكل بساطة.
وبعد نقاش طويل، قررنا اصدار عملة جديدة تكون معتمدة في كل ارجاء العراق، بما في ذلك المناطق الكردية في الشمال، وقررنا تثبيت سعر صرف العملة القديمة لكي يتم احلال العملة الجديدة مكانها بسلاسة.
قلت لفريق المستشارين المجتمعين معي ان هذه ستكون سابقة ان تصدر قوة احتلال عملة جديدة ولكن ليس امامنا من خيار سوى ان يصبح الدولار العملة المعتمدة في العراق وهذا ما لا نريده.
المشكلة الاولى التي واجهتنا هي معرفة حجم الاموال المتداولة في السوق، فأرقام البنك المركزي لم تكن تتمتع بالمصداقية، وكانت تقديراتنا تشير الى ان ما بين 4 – 5 مليارات دينار من العملة العراقية يجري تداولها في البلاد، وبناء على هذا التقييم كنا نعتقد اننا بحاجة الى طباعة وتوزيع حوالي 2200 طن من العملة العراقية الجديدة، وان نجمع حوالي 2800 طن من العملة القديمة لكي يتم اتلافها.
وكان الهاجس الامني في بالنا بعد انتشار الآلاف من المجرمين الذين اطلقهم صدام من السجن قبل الحرب.
واعتقدنا ان الهجمات على البنوك التي توزع الاوراق النقدية الجديدة سوف تزداد، وقد اعتمدنا السرية في نقل وتوزيع اوراق النقد الجديدة لتلافي المخاطر.
وبدأ ماكفرسون باجراء مفاوضات سرية مع عدد من الشركات لطبع اوراق النقد الجديدة لتحديد التكاليف وتاريخ التسليم، وابلغنا ان العملية تستغرق ثلاثة اشهر على الاقل، فأعطيت التعليمات لماكفرسون للبدء فورا، حيث ليس لدينا الكثير من الوقت لاضاعته.
القوات الخاصة الأميركية عملت عبر الاردن
في الحادي والعشرين من يونيو، اقلعت بطائرة C130 من مطار بغداد، وبرفقتي وفد عراقي، الى عمان لحضور المنتدى الاقتصادي العالمي، وفي عمان، انضممت الى كولين باول لعقد اجتماع خاص مع الملك عبدالله الثاني في مكتبه الخاص. فخاطبنا الملك قائلا، حضرة الوزير وحضرة السفير ‘انني في غاية الاهتمام لمعرفة كيف يمكن للاردن مساعدتكم في المسائل الامنية’.
لقد ساعدنا الاردن كثيرا اثناء الغزو، حيث سمح للقوات الخاصة بالعمل من داخل اراضيه. وكنت قبل ايام من قدومي إلى عمان قد لبيت طلبا للملك الاردني بالاجتماع برئيس المخابرات الاردنية بحضور مدير مكتب ‘سي. اي. ايه’ في بغداد لمناقشة التعاون في مجال تدريب قوات الشرطة العراقية والتعاون الاردني- العراقي في مجال ضبط الحدود بين البلدين.
ولمسنا من الملك كل الاستعداد للمساعدة لكنه لم يكن جاهزا للانخراط في علاقة امنية بعد وقد شكرت الملك ووعدت بالاستمرار بالاتصال معه. وانطلقنا باول وانا، بعد الاجتماع الى الجانب الاردني من البحر الميت.
قال لي باول مبتسما: ‘هل تعلم ان رامسفيلد اتصل بي في اوائل مايو وقبل ان يعينك الرئيس في موقعك هذا، وابلغني انه سوف يطرح اسمك علي وعلى رايس وتينيت وتشيني، قبل ان يقترحه على الرئيس’.
واضاف باول ‘حاولت عدم اعطاء اي انطباع اثناء حديثي على الهاتف مع رامسفيلد، لكني كنت مسرورا لهذا الاقتراح، لدرجة ان الناس في مكتبي اعتقدوا انني كسبت اليانصيب! وشعرت بالارتياح لعلمي انني احظى بدعم باول ايضا’.
وفي كلمتي امام المنتدى، قلت ان الاهداف الاستراتيجية للتحالف تتمثل في فتح اقتصاد العراق امام العالم الخارجي.
وشددت على اهمية تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الاجنبي، وقلت ان التحديات الاقتصادية التي تواجه العراق لا تقل عن التحديات السياسية.
وذكرت الحضور بأن العراق في عهد صدام كان مسحوقا بسبب عسكرة الاقتصاد والتخطيط الخاطئ وعمليات السرقة.
فقد وصلت نسبة البطالة الى50 في المائة قبل الحرب، ولكن اقتصاد العراق ليس ميئوسا منه. فانا معجب بهذا البلد وما لديه من قدرات وامكانات، ولا ينقص العراق سوى فرصة لتوظيف هذه الامكانات. وسوف نوفر له هذه الفرصة.
واختتمت كلمتي بتذكير زعماء هذا الملتقى ان الحرية السياسية تقترن بالحرية الاقتصادية.
وفي السابع من يوليو، اتخذنا خطوتين كبيرتين في برنامجنا الطويل الامد للاصلاح الاقتصادي. واعلنت ان العراق سوف يبدأ بتبديل الدنانير العراقية القديمة بالجديدة، ووقعت كذلك على قانون لتأسيس اول بنك مركزي مستقل حقا، والذي يضاهي في عمله، الاحتياطي الفيدرالي الاميركي.
المدونة السياسية
صعب أن يتخلى الطالباني والجلبي عن حيلهما
الطالباني في العلن معنا وفي السر يعارضنا
بغداد صيف 2003
بينما كان خبراؤنا يكافحون من اجل تطوير خطط لإصلاح الاقتصاد العراقي، كان هناك فريق آخر في سلطة التحالف المؤقتة يعمل بجد لبدء عملية الاصلاح السياسي.
ان وجود ممثل خاص للامم المتحدة في بغداد قد يعقد مهمة تشكيل الحكومة المؤقتة، فهناك احتمالات بان يستغل العراقيون وجود اي خلاف قد يقع فيما بين التحالف والامم المتحدة، وهو امر مزعج، وبالتالي فقد شرعنا في تنقيح استراتيجيتنا السياسية، وقررنا بعدها ان نختبرها على ابراهيم الجعفري زعيم حزب الدعوة الاسلامي، وذهبنا اليه في مدينة كربلاء المقدسة.
واثناء رحلتنا بمركبات همفي ناقشنا خطتنا التي كانت في حالة تطور، وقلت ملخصا نقاشاتنا ‘ان الامر الاساسي هو التحرك بسرعة’ فقد شعرت ان علينا اقامة الحكومة العراقية المؤقتة بسرعة لاظهار جدية التحالف في تحقيق الاصلاح السياسي، وفي منحهم المسؤولية مبكرا لحكم انفسهم.
غير ان تلك الحكومة يجب ان تكون ممثلة لجميع العراقيين وكنت قد ابلغت مجموعة السبعة، اي المنفيين، انهم لا يحققون هدف التمثيل فالعراقيون يرغبون في تمثيل اوسع وكذلك الرئيس بوش.
وكان في مقدورنا الضغط على مجموعة السبعة بأن تتوسع باتجاه مجموعة أكثر تمثيلا مكونة من حوالي ثلاثين شخصا في أقرب وقت ممكن.
اتفق معظم العراقيون ممن تشاورنا معهم على اهمية صياغة دستور جديد.
حلف الاصوليين والبعثيين
التقينا الجعفري في مكتب صغير في كربلاء بالقرب من مرقد الامام الحسين، وكان الجعفري يتحدث بسرعة ويؤكد على النقاط التي يدلي بها عند طريق اشارة باليد، وقال الجعفري ‘يعتقد البعثيون انهم يستطيعون استعادة السلطة ولكن يجب ايقافهم’ واعتقدت انه قد تكون لديه معلومات دقيقة، اذ كنت قد ابلغت الرئيس بوش في قطر ان استخبارات التحالف لديها تقارير ذات مصداقية، تشير الى ان المتطرفين الوهابيين القادمين من الخليج تسللوا الى العراق، وانهم يتصلون بالبعثيين السابقين غالبا في المساجد، ويعتبر هؤلاء الاصوليون الوهابيون ان وجود قوات التحالف في العراق امر غير جائز شرعا.
واكدت للجعفري ان ‘التحالف لن يسمح البتة للبعثيين باستعادة السيطرة على هذا البلد’.
اثناء احتسائنا للشاي عرضت على الجعفري العملية السياسية التي تقوم على السرعة والبطء العجلة في تشكيل الحكومة المؤقتة، واخذ الوقت في عملية صياغة الدستور والمصادقة عليه.
وقال الجعفري عبر مترجم ‘السفير بريمر انت تتحدث عن ايام واسابيع بالنسبة لنا لكي نتوصل الى قرار سوف يؤثر في شعبنا لعقود وقرون، وعليه يجب علينا التحرك بحذر’.
وقلت ‘دكتور الجعفري، وفقا لقرار الامم المتحدة فان خطة التحالف لتشكيل حكومة مؤقتة يجب ان تتم في اسرع وقت ممكن، ونأمل ان يتعاون معنا زعماء مسؤولون من الطائفة الشيعية لتحقيق هذا الامر، وانه سيكون بمنزلة مأساة ان يرتكب الشيعة الخطأ ذاته كما حدث في عام 1920?.
وبدأ الجعفري وهو يفكر في هذه المسألة، فقد وضعته امام الامر الواقع، حيث اشرت في واقع الامر الى ان القطار سوف يغادر المحطة، وان الامر يعود الى السياسيين الشيعة ليكونوا فيه.
جيل الطالباني والجلبي
وصل سيرجيو دي ميلو الممثل الخاص الجديد للامم المتحدة الى العراق في 3 يونيو، وحضر فورا الى القصر للقائي، ودي ميلو دبلوماسي ذو كفاءة يتحدث الانكليزية والفرنسية بطلاقة، وهو يتمتع بخبرة في مجال نزاعات الدول النامية. وقد اعجبت به في التو. وخلال ساعة استعرضت وجون سورز زميلي البريطاني، خططنا الاقتصادية والسياسية معه. وقال ‘ارغب في تقديم المساعدة سعادة السفير بريمر’. وقد شعرت بالارتياح جراء هذا الامر. واثناء توديعي لدى ميلو صافحني وقال ‘سنستطيع العمل معا بصورة جيدة’. وكان سيرجيو دي ميلو عند كلمته، غير ان بعض اعضاء مجموعة السبعة سعى لعرقلة عملنا. واثنان في المجموعة هما احمد الجلبي وجلال الطالباني ثبت انه من الصعب بالنسبة لهما طرح حيلهما جانبا. فبعد يوم من اول اجتماع لي مع المنفيين في 16 مايو نشر مقال في صحيفة ‘نيويورك تايمز’ اشار الى ان العراقيين الذين التقيتهم اصيبوا بخيبة امل لما سمعوا من حديث. فقد شعروا ان التحالف قد تراجع عن ‘اتفاقياته’ التي تم التوصل اليها في السابق مع الحكومة الاميركية.
وعندما علمت ان التقرير يقوم على اساس مقابلات اجريت مع الطالباني والجلبي استدعيتهما كلا على حدة. وابلغت كلا منهما انه لا يمكننا الاستمرار في عملنا بجدية مع مجموعتهما اذا كانت نقاشاتنا السرية تنقل بطريقة محورة الى الصحافة. وووافق الطالباني بان على العراقيين العمل بجدية وان مجموعة السبعة لا تمثل جميع العراقيين.
غير ان الجلبي الذي التقيته في اواخر مايو القى علي محاضرة حول الحاجة الى تنفيذ الاتفاق والتحرك بسرعة باتجاه اقامة ‘حكومة مؤقتة’ التي قال ان زلماي زادة الذي كان حينها ‘المبعوث الرئاسي’ وعد بانها ستشكل خلال اربعة اسابيع بعد الغزو. وقلت له ‘ان ذلك بكل بساطة امر غير واقعي. فنحن في حاجة الى حكومة تكون ممثلة لكل العراقيين. وفي استطاعتكم ان تساعدوا في تحقيق هذا الهدف. غير اننا ننوي التحرك بسرعة لاقامة الحكومة المؤقتة التي دعا اليها قرار الامم المتحدة’.
وكنت في وقت لاحق قد تبادلت الحديث مع السيد عبدالعزيز الحكيم من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق. وقد بدأ الحكيم حديثه باسلوب مهذب معبرا عن سعادته بقرارنا حول اجتثاث البعث وتفكيك الاجهزة الامنية العراقية البغيضة. وقال انه ‘الى ان تعلنوا هذه القرارات، فان العديد من العراقيين قد يطرحون تساؤلات حول نوايا التحالف في اجتثاث ادوات الرعب الصدامية’.
وقد بعث هذا القول الامل لدي وقلت اي انكم سوف تساعدوننا في توسيع مجموعة السبعة وتحويلها الى حكومة مؤقتة كما طلبت الامم المتحدة؟’ ولزم الحكيم الصمت وبعدها نطق كلمة واحدة ‘مستحيل’.وقلت ‘لماذا ياسيد’ وطالت فترة صمته. واخيرا شرح وجهة نظر حزبه ‘اذا عقد المواطنون العراقيون مؤتمرا وطنيا الان فاننا نستطيع صياغة الدستور خلال ثلاثة اشهر، ومن دون مساعدة اجنبية فنحن لدينا تقاليد عريقة في العلم كما تعرف سعادة السفير’.
وشرحت له بهدوء اسباب عدم تحقيق صيغته للنجاح. فهدفنا كان بصدق ‘حكومة تمثل العراقيين’ تتمتع بحصانة دستورية. غير انني وافقته في وجوب تولي العراقيين مهمة صياغة دستورهم. ويعتبر هذا جزءا من برنامجي الخاص بالعراقيين القائم على العمل من اجل المشاركة. اي انهم اذا رغبوا في لعب دور في التحولات السياسية للبلاد فانه لابد لهم من العمل.
فشل جديد
غير ان مجموعة السبعة فشلت مرة اخرى في الاختبار ولم يكن في مقدورها السماح بأي توزيع لسلطاتها. كما ان حاجة المجموعة للتوصل الى اجماع حرمهما من التقدم باي توصية فيما يتعلق باي من القضايا التي رفعناها للمجموعة وهذا امر ينذر بحدوث مشاكل.
وقد بدأ بعض اعضاء المجموعة يدرك اننا والامم المتحدة جادون في امر تشكيل الحكومة المؤقتة وان سلطتهم سوف تتقلص ضمن اي مجلس موسع. ولم يعجب هذا الامر العديد من الاعضاء فقد ابلغ الجلبي سكوت في اواخر مايو انه سيعود الى اميركا لحضور حفل تخرج ابنته في جامعة هارفرد. وتوقعت ان يمضي بعض الوقت في واشنطن للدعوة الى افشال خطتنا الخاصة بالحكومة الموسعة.
الشريف علي
في اواخر يونيو، جاء المطالب بعرش العراق الذي الغي منذ زمن بعيد للقائي، وكانت الملكية العراقية التي اقامها البريطانيون في العشرينات من القرن الماضي تتولاها الاسرة الهاشمية، حتى سقطت في انقلاب دموي في عام 1958، والشريف علي بن الحسين في اواخر الاربعين نحيف وانيق، وكانت اسرته هربته وهو طفل عندما سقط النظام الملكي، وعاش منذئذ في انكلترا، وهذا امر واضح عليه، فهو يرتدي بدلة من بدلات سافيل رو الراقية الانيقة التي تكلف آلاف الدولارات، وحذاء ايطاليا وساعة روليكس ويفوح منه عطر زكي، ويتحدث الانكليزية بطلاقة اهلها، وهو يختلف عن العراقيين، وكان قد عاد الى بغداد في طائرة خاصة ومعه سبعون من المرافقين.
والامر المدهش، هو ان الشريف علي وافق على ان مجموعة السبعة لا تمثل كافة العراقيين، وان اجراء انتخابات مبكرة امر غير ممكن، بل ويعتبر خطوة غير حكيمة، وقال لي بنبرة ناظر مدرسة يخاطب احد التلاميذ ‘انها ستأتي لصالح المتطرفين ولكنني سعادة السفير افضل اجراء استفتاء مبكر حول شكل الحكم، اي العودة الى الملكية ام لا’ واضاف ان الحكومة المؤقتة ستواجه ‘فترة عصيبة’ ووافقته قائلا ‘ان الامر لن يكون سهلا ولكن هذا هو حال الديموقراطية’.
ومع توالي ايام شهر يونيو، استمر بعض اعضاء مجموعة السبعة في مقاومة توسيع الحكومة الجديدة، وقد علمنا انه في احد اجتماعاتهم اعد جلال الطالباني خطة لاستباق تشكيل مجلس الحكم الذي كنا نسعى لاقامته عن طريق جعل مجموعة السبعة تدعو ل’مؤتمر وطني’ تختار اعضاءه لاختيار الحكومة الجديدة وهذا الامر قد يفتت الوحدة الوطنية التي كنا نجاهد لتحقيقها.
وفي اجتماع معي في اليوم التالي اكد الطالباني بانه معنا ‘مائة في المائة’ وذلك على الرغم من معارضته للامر في السر قبل يوم واحد، وقد عرفنا في وقت لاحق، ان التعامل بجدية مع الطالباني امر مفيد.
وبعد ايام قليلة من ذلك دعاني السيد عبدالعزيز الحكيم لتناول الغداء في منزله على ضفاف دجلة، وبعد الانتهاء من تناول وجبة ممتازة انتقلنا الى غرفة اجتماعاته، حيث شربنا الشاي وتحدثنا في السياسة.
في اجتماعاتنا السابقة كان دائما يعارض توسيع مجموعة السبعة والانتقال الى مجلس الحكم الاوسع تمثيلا وكنت والمستشارون العاملون معي نرغب في ان ينضم حزبه الى مجلس الحكم، ولكنهم اذا لم ينضموا سيكون ذلك خيارهم، فنحن لا نود ان ينظر الى التحالف على انه يعزل مجموعة شيعية مهمة وان كانت مثيرة للجدل.
وابلغني الحكيم انه يتفق ان اجراء الانتخابات امر غير ممكن في هذه اللحظة، واضاف ‘ولكنني مازلت افضل عقد مؤتمر وطني لاختيار الحكومة الجديدة او ترك مجموعة السبعة تختار الحكومة العراقية’ وقلت له ‘هذا امر مستحيل يا سيد، فنحن لن نعقد مؤتمرا وطنيا في هذه المرحلة، اذ لا يوجد ما يرقى الى اجماع وطني حول كيفية اختيار مثل تلك الحكومة، ناهيك عن انتخابها، كما اننا لا نستطيع السماح لمجموعة السبعة بتحويل نفسها الى حكومة مؤقتة موسعة، فقد دخل التحالف الآن المرحلة النهائية من مراحل اختيار مجلس الحكم، ونأمل ان تصبح وزملاؤك جزءا من تلك العملية’، وقال الحكيم ‘انوي السفر الى لندن في اجازة خلال يومين’ وقلت ‘انني ادرك بكل تأكيد انكم في حاجة الى الراحة، واتفهم ذلك، ولكنني اعتقد، مع احترامي لكم، ان السفر الآن خطوة غير حكيمة وذكرته اننا سنضع اللمسات الاخيرة لمجلس الحكم خلال الاسابيع الثلاثة المقبلة، واضفت ‘اننا نرغب في ضم كافة زعماء الاحزاب المهمة في المجلس’، وكما ذكرت الجعفري اكدت له انه من المهم الا يرتكب الشيعة خطأ العشرينات الماضية.
وفهم الحكيم الاشارة ووافق على الغاء الاجازة الا انه ظل على عدم التزامه فيما يتعلق بالمشاركة في مجلس الحكم.
وفي الثالث والعشرين من يونيو جاء دور الجلبي، وكان قد عاد لتوه الى العراق بعد قضاء عشرة ايام في واشنطن يحشد مساندة الكونغرس والادارة في مواجهته لخطط التحالف السياسية. والجلبى كان لا يزال يعد شخصية ذات نفوذ في واشنطن. وكنت قد سمعت ان المعلومات الاستخبارية الخاصة ببرامج صدام لاسلحة الدمار الشامل وصلت واشنطن عبر المؤتمر الوطني العراقي.
وكان الجلبي حينها قد تحول الى معارض صريح للتحالف وكان يحاول اقناع اعضاء مجموعة السبع الآخرين بمقاطعة مجلس الحكم بتكليف نواب عنهم فقط لتلك الهيئة. وكنت قد حددت قاعدة صارمة تقول ان مجلس الحكم يجب ان يمثل زعماء المجموعة فهذا هو السبيل الوحيد لضمان ان تتحمل الاحزاب نفسها مسؤولية قرارات مجلس الحكم، والا فإن زعماء الاحزاب سيضعون ممثلين لهم في المجلس بينما يجلسون هم على الهامش يهاجمون القرارات الصادرة عنه.
وفي اجتماع صعب امتد لساعتين في مكتبي في ذلك اليوم، القي على الجلبي محاضرة حول ‘اخطائنا’ وكيف ان علينا ‘الغاء’ خططنا الخاصة بمجلس الحكم. وقال انه ‘بدلا من ذلك عليكم تنظيم انتخابات محلية للمحافظات’.
وقلت في نفسي: من دون دستور وبوجود قانون جنائي بعثي مازال ساري المفعول وعدم وجود اي اجماع ولا قوانين انتخابية او قوانين خاصة بأنشطة الاحزاب السياسية.
وتركته يستمر في طرحه، وبعدما تذكرت اجتماعنا الاول في مايو قلت ‘لقد ابلغت مجموعة السبع عندها انهم لا يمثلون العراق. لقد كنتم في المنفى وقد طلبت منكم توسيع المجموعة لضم العراقيين ممن عاشوا تحت حكم صدام وضم النساء والمسيحيين والتركمان وزعماء العشائر. وقد وافقتم على ذلك ولكنكم لم تفعلوا’.
وقلت له بما ان مجموعة السبع فشلت في الاختبار، والتحالف ظل يعمل ليل نهار خلال الاشهر الماضية، وبينما كان هو في واشنطن، من اجل التوصل الى مرشحين للمشاركة في مجلس الحكم. واضفت ‘لقد توصلنا الآن الى اكثر من ثمانين رجلا وامرأة من جميع انحاء البلاد ممن نعتقد بأنهم قد يكونوا مؤهلين. وانا ليست لدي اي نية لاهدار نتائج هذا العمل الجاد المضني’.
واكدت على اننا نرغب في مشاركته ومشاركة زعماء الاحزاب الآخرين في المجلس. وكان من الواضح ان الجلبي غير سعيد لاننا بكل بساطة لن نسلم السلطة فورا للمنفيين. وقال الجلبي ‘سعادة السفير، انك بتأخير العملية السياسية انما تخاطر باعطاء الانطباع بأن اميركا تنوي البقاء لفترة طويلة في العراق. وتلك مبادرة غير جيدة’. وقلت له ‘دكتور الجلبي، لقد كان الرئيس واضحا للغاية. اننا سنظل في العراق حتى ننهي المهمة ولن نبقى يوما واحدا اضافيا’. ورد الجلبي ‘اعرف انه قال ذلك، ولكن التحرك ببطء يعطي الانطباع للبعض بأن اميركا تود البقاء في العراق’.
ووقفت واتجهت الى مكتبي واخذت صورة اسرتي التي اضعها فوق المكتب، وعدت الى حيث يجلس الجلبي وعرضت عليه الصورة ‘اذا كانت لدى اي احد اي شكوك هذه هي الضمانة بأنني لن ابقى ليوم اضافي اكثر من اللازم’.
وعند مغادرته ابلغ الجلبي بمرارة السفير البريطاني سورز انه حسب ما سمع ان لدينا العديد من ‘الاسلاميين’ مرشحين للانضمام الى مجلس الحكم، ففي تلك المرحلة كان الجلبي فيما يبدو ينظر الى مستقبله السياسي ضمن حكومة عراقية علمانية.
اقناع الطالباني والبرزاني بمجلس الحكم
كنت اعرف من خلال زيارتي السابقة ان الزعيمين الكرديين رحبا بالتحرير وبحل حزب البعث وقوات الامن، الا ان ايا منهما لم يرغب في الانضمام الى مجلس الحكم، بل ان الطالباني كان ينوي القيام برحلة الى اسيا واوروبا لمدة ثلاثة اسابيع في الوقت الذي كنا فيه نحاول تشكيل المجلس.
وقد ابلغته في مقره الرئيس في السليمانية اننا ‘مصرون على دعم قضية اقامة عراق فيدرالي’ وشعر الطالباني بالسعادة لان التحالف بات يدعم هدف الاكراد الذين ظلوا ملتزمين به منذ فترة طويلة، الا انه كان مترددا في الانضمام الى مجلس الحكم. واكدت له ان ‘مجلس الحكم ستكون له سلطة سياسية حقيقية’، وبعد ساعات من المناقشات وبعدها في مأدبة كردية كبرى وافق الطالباني على ‘تأجيل’ جزء من رحلة اسيا، وذلك على الرغم من انه مازل ينوي زيارة اوروبا.
وقال اخيرا ‘سيدي السفير سأقبل المشاركة في مجلس الحكم على اساس طلب شخصي منكم’.
انتهيت من زعيم وبقي الاخر.
وفي اليوم التالي التقيت البرزاني الذي يعد زعيما قبليا كرديا تقليديا أكثر من الطالباني، وهو يرتدي الزي الكردي التقليدي ويقيم في مسكن بديع على قمم الجبال في صلاح الدين يحيط به رجال القبيلة واشجار التفاح، وكنت أنا اقيم في بغداد حيث تشتد الحرارة، وقال البرزاني ‘اكره بغداد ولا أود الاضطرار للعيش هناك أو السفر اليها ، ولكن اذا كنت مصرا، سأوافق على مضض على العمل في المجلس’، وقلت ‘اصر على ذلك’، قال ‘لذا سأوافق’.
مع شمر
ضمن جهودنا الرامية الى الوصول الى تمثيل عشائري مناسب في مجلس الحكم عقدت اجتماعا مع الزعماء من قبيلة شمر الكبيرة في ذلك الاسبوع.
واثناء عملي الدبلوماسي في افغانستان وملاوي ادركت اهمية دور العشائر الذي مازالت تلعبه في العديد من الدول والعشائر العراقية تضم تناقضا في داخلها فهي من حيث المظهر قد تبدو نسبيا بانها غير ذات اهمية، وذلك لان اكثر من 70 في المائة من سكان العراق يقيمون في المناطق الحضرية وفي الواقع فان زعماء العشائر لم تعد لديهم السلطة التي كانوا يتمتعون بها في ظل الاحتلال البريطاني قبل ثمانين عاما، وبالرغم من ذلك فان العشائر مازالت تلعب دورا مهما في الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد.
وكان اجتماعي في 24 يونيو في مقر سلطة التحالف المؤقتة مع حوالي عشرة من شيوخ عشيرة شمر تجربة لا تنسى، والشمر من أكبر العشائر العراقية وهي تضم اعضاء من السنة والشيعة، وذلك على الرغم من ان اغلب الزعماء من السنة.
وحضر الشيوخ الى اللقاء بزيهم التقليدي ومعظمهم كان قد تجاوز الستين من العمر، ومن بينهم عضو شاب هو الشيخ غازي الياور، الذي كنا ننظر في أمر ترشيحه في مجلس الحكم، وهو في حوالي الأربعين من عمره وتلقى دراساته في أميركا ويعمل كرجل اعمال ناجح في المملكة العربية السعودية، وحضرت الاجتماع ليديا خليل التي تتحدث العربية بطلاقة وهي من الفريق الذي يضع خطط الحكم.
ومثل غيرهم من زعماء العشائر، يكثر هؤلاء الاشخاص الكلام، وقبل انتهاء الاجتماع الذي دام ثلاث ساعات وبعد تناول الكثير من الشاي وتبادل التهاني بمناسبة تحرير العراق، تحدث كبير الشيوخ، وقال ‘سعادة الحاكم أود ان اؤكد لكم ولاء شمر الدائم لكم وللدول التي حررتنا’. وصدرت همهمات بالموافقة من الآخرين، واستطرد يقول ‘ان ولاءنا ثابت لا يتزحزح’، واضاف وهو يضع يده على صدره، ان هذا الشعور كان في عقله، ولكن الأمر الاهم هو انه مكتوب في قلبه وقلوب زملائه، وهز الآخرون رؤوسهم بالموافقة ‘فعبر العقود كنا دائما نبدي ولاءنا وسنظل ملتزمين بهذا التقليد العشائري العتيق’. وصدرت المزيد من اصوات الموافقة، وانهى حديثه بالقول ‘اذا ما قررنا خيانتكم، اتعهد لكم واعطيكم كلمتي بأننا سنبعث لكم بانذار قبل شهر’.
وقد حملت معي هذه الرسالة المطمئنة مكتوبة في قلبي عن عودتي الى الشمال في اليوم التالي للقاء الزعماء الأكراد، وكان هدفي اقناع الزعيمين جلال الدين الطالباني ومسعود البرزاني بالانضمام الى مجلس الحكم، فخلال مناقشاتنا السابقة في بغداد عبر الأكراد عن عدم رغبة في الخضوع مرة أخرى لسلطة بغداد.
مجلس الحكم
مشكلتنا المزمنة في العراق: لا زعماء سنة يعتد بهم
الناشطون السنة تم استيعابهم في البعث أو الأمن أو تم اغتيالهم
بحر العلوم محترم ساخر سريع البديهة اعترض على كل أمر قلته
كنا قد افترضنا منذ البداية ان يكون الشيعة اغلبية في مجلس الحكم المؤقت، بما انه كان يعتقد انهم يشكلون نسبة 60 في المائة من مجموع السكان وبعدها كنا نرغب في ضمان مشاركة المرأة. كما كانت هناك حاجة لأعضاء وطنيين وذوي كفاءة من السنة. ومحاولة الوصول اليهم وضعتنا في مواجهة مشكلة مزمنة الا وهي عدم وجود زعماء سنة يعتد بهم فكافة السنة الناشطين سياسيا تقريبا تم استيعابهم اما في حزب البعث، او في الاجهزة الامنية، او اغتيلوا بتهمة الخيانة.
والأكراد يطلبون ان يتم تمثيلهم حسب نسبة الاكراد الى مجموع السكان العرب اي حوالي عشرين في المائة. وهنالك المسيحيون والتركمان وغيرهم من الاقليات التي من المهم اشراكها بصورة من الصور. وكأن ذلك التعقيد لا يكفي، كنا نأمل ان يتم تمثيل المحافظات العراقية التي يبلغ عددها 18 محافظة في المجلس، كما لم نكن نرغب في ان يسيطر الاسلاميون على الاغلبية العلمانية في البلاد.
لا تقل لأحد
استمرت محاولاتي في اقناع مجموعة السبعة في الانضمام للمجلس، حيث عقدت اجتماعا آخر طويلا مع السيد عبدالعزيز الحكيم في الاول من يوليو وقد المح الى انه سيتعاون اذا ما اطلع على القائمة الشاملة لأعضاء المجلس مسبقا وذلك حتى يطمئن على انه بالفعل مجلس ‘تمثيلي’. واعتقدت انه ربما رغب في معرفة عدد الشيعة للتأكد من انهم الاغلبية. وطمأنته إلى ان النتيجة النهائىة سوف تعكس ‘توازن المجتمع العراقي’ وقلت له انني سأطلب من هيوم هوران اطلاعه على قائمة المرشحين للمجلس شرط الا يبلغ اي احد بذلك الامر.
من السيستاني والدستور
وعند حضور الجلبي لاجتماع آخر في 3 يوليو كان قد خف حماسه للمعارضة بعد ان سمع انني اقنعت الزعيمين الكرديين بالانضمام الى المجلس. وقال ان ذلك خلق لديه انطباعا جيدا لانهما كانا قد اكدا له قبل اسبوع عدم مشاركتهما. وادرك ان عليه الاستمرار في العملية والا فإنه سيواجه خطر التهميش.
وقال الجلبي انه التقى مؤخرا آية الله علي السيستاني الذي ابلغه انه لا يهتم بكيفية تشكيل المجلس ولكنه اصر على ان يقوم العراقيون وليس التحالف بصياغة الدستور العراقي. واضاف الجلبي ‘لقد قرأ السيستاني ان الجنرال ماكارثر هو الذي صاغ دستور اليابان وهو يخشى ان يقدم التحالف على اتخاذ الخطوة ذاتها هنا’.
وابلغت الجلبي انه ‘ليست للتحالف نية لصياغة الدستور وسأحرص على ان يفهم السيستاني هذا الامر’.
وقال الجلبي يبدو ان دي ميلو ابلغ السيستاني انه لا يرى اي سبب يحول دون اجراء الانتخابات في العراق خلال وقت قريب.
وبعد مغادرة الجلبي اتصلت بسيرجيودي ميلو وابلغته برأيي في اجتماعه مع السيستاني وكيف انه خلف لدى السيستاني عدم فهم بالغ للتعقيدات التي تقف حائلا دون اجراء انتخابات مبكرة في العراق، وقال ‘سأحاول ان اصحح هذه النقطة مع السيستاني’ ولكن كما عرفنا فإن الضرر كان قد وقع.
ضم الشيوعيين
واثناء عملنا في توسيع مجلس الحكم في الاسبوع الاول من يوليو طرح البريطانيون فكرة ضم شخص من الحزب الشيوعي العراقي، وسألني سورز ان كان لدي اعتراض على تلك الفكرة، وقلت انه لا يوجد لدي اعتراض طالما وجدنا شخصا يكون قد تخلى عن الافكار الشيوعية حول كيفية ادارة الاقتصاد. وعليه فانه في الثامن من يوليو كنت في مكتب سورز اجلس قبالة السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد الذي تقاعد أخيرا. وهو كردي في التاسعة والسبعين من عمره. وبعد شرح خططنا الخاصة بالمجلس سألته عن ماهية الدروس التي خرج بها من تجربة سقوط الاتحاد السوفيتي.
وفي رده استطرد عزيز طويلا وأخذ يتحدث كيف ان بريجنيف كان يتلقى رسائل دون ان يقرأها ويبعث برسائل لم يكن قد كتبها. وقد اعطاني حديثه الانطباع بانه يعشق ان بريجنيف مازال يدير شؤون البلاد في موسكو. ولم اجد الشجاعة كي ابلغه ان ليونيد لم يكن بصمة جيدة أخيرا. وشطبنا عزيز من القائمة.
ولحسن الحظ فقد اجرى سورز بعد يومين من ذلك مقابلة مع زعيم الحزب الذي تولى منصب السكرتير العام بعد عزيز، حميد ماجد موسى وهو شخص ممتلئ ونشط في منتصف الاربعينات من عمره. وموسى الذي ينتمي الى الطائفة الشيعية ثبت انه اكثر اعضاء مجلس الحكم كفاءة وشعبية.
في المراحل الاخيرة
لقد بلغنا الان المراحل الاخيرة ولكن ما زلنا نعمل على وضع اللمسات الاخيرة لتمثيل الشيعة في مجلس الحكم.
ففي العاشر من يوليو عقدت اجتماعا اخر مع السيد عبدالعزيز الحكيم الذي مازال يحاول الابتعاد، وكان يرغب بشدة في تكليف نائبه عادل عبدالمهدي بتمثيل المجلس الاعلى في مجلس الحكم. وقال الحكيم ‘احتاج ان اكون متفرغا لخدمة مواطني’ ويبدو في هذا الصدد ان الحكيم يلجأ الى تقليد ‘التقية’ لحماية نفسه. وقلت ‘ان مجلس الحكم يعد افضل موقع لخدمة مواطنيك فهناك ستوجه السلطة والمسؤولية’.
واشرت استطرادا الى انه سيكون هناك تمثيل واسع للشيعة في المجلس، بوجود المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق او بدونه، وكانت تلك رسالة واضحة باننا سائرون قدما في طريقنا مهما كان قراره.
وقال الحكيم ‘الا يمكن ان تسمحوا باستثناء بالنسبة للمجلس الاعلى لكي يرشح نائبا لمجلس الحكم؟’ وقلت ‘لا. لقد وافق كل زعماء الاحزاب بالعمل شخصيا في المجلس. وعليه اذا لم تشارك في المجلس فان المجلس الاعلى لن يكون ممثلا فيه’.
حسنا، سوف انظر في الامر بجدية اذا ما منحتموني بعض التطمينات، قلت ‘ما هي التطمينات’؟ قال عبدالمهدي، الذي ظل صامتا حتى ذلك الوقت، انهم يرغبون في ‘معاملة تفضيلية’ وقلت ‘هذا امر مستحيل فلدي مسؤولية تجاه كل العراقيين لانجاح عمل المجلس. وسأكون مستعدا للقاء السيد الحكيم او اي عضو في المجلس في أي وقت طوال الاربع والعشرين ساعة في اليوم، غير ان اس الديموقراطية هو النزاهة والحلول الوسط. وعليكم وزملائكم في المجلس العمل على حل خلافاتكم بانفسكم’.
ولقد تركت الفرصة للسيد الحكيم للاطلاع على القائمة المقترحة لعضوية مجلس الاحكم وان يقرر بعدها. واطلعه هيوم في وقت لاحق على القائمة بطريقة سرية، وكما هو متوقع اعترض الحكيم على اسم احد معارضيه وكنا قد اضفنا اسمه في آخر لحظة عن قصد لاختباره، وعندما سربت كلمة تقول انني سأحذف الاسم اذا ما وافق الحكيم على الانضمام للمجلس، توصلنا الى صفقة.
مشكلتان
عمل فريق الشؤون السياسية بجد لتحديد الاسماء والمناصب في المجلس حتى ساعة متأخرة من ليلة 9 يوليو حيث واجهوا مشكلتين متبقيتين اذ مازال لدينا ثلاث نساء في القائمة المؤقتة، وكنا نأمل في اربعة كحد ادنى وكنت قد حثثت الاكراد لاسابيع على تقديم اسماء بعض المرشحين، وكان السبب وراء ذلك هو ان المرأة ظلت تلعب دورا سياسيا نشطا في كردستان خلال العقد الماضي.
وفي 10 يوليو ابلغنا الحزبان الكرديان انهما لم يستطيعا الاتفاق فيما بينهما حول اي عضوات اضافيات، ومنحتهما 24 ساعة اضافية لحل هذه المشكلة واجتمعا وتشاورا ليوم كامل ولم يتوصلا لأي شيء.
والمشكلة الثانية كانت ضم السيد محمد بحر العلوم احد اكثر رجال الدين الشيعة احتراما وتوقيرا في العراق. وكان بحر العلوم قد فر من البلاد خلال انتفاضة الشيعة في الجنوب في عام 1991، وقضي معظم العقد التالي في لندن.
وكنت قد التقيت به مرات عدة، كما اتصلنا به عبر عدد من الوسطاء الا انه ظل مصرا على عدم المشاركة في المجلس وكنا نحتاج الى عضو شيعي اخر يمنح الشيعة اغلبية في المجلس المكون من 25 عضوا، وكنا ندرك ان بحر العلوم سوف يشكل اضافة مهمة ووزنا للمجلس.
وفي ليلة الجمعة 11 يوليو، وكنا نخطط لاعلان المجلس الاحد 13 يوليو، توصلت وسورز الى نتيجة مفادها ان علينا بذل محاولة اخيرة وشخصية لإقناع بحر العلوم. وعليه انتقلنا يوم السبت بالسيارة الى مسكنه المتواضع في بغداد.
وخلال الاجتماع كان اسلوبه التهكمي الساخر واضحا. فخلال اكثر من ثلاث ساعات اعترض على كل امر قلته أو قاله جون، فهو سريع البديهة ويجيد طرح الحجج والمطالب، كما انه حاد الذهن، وقد قدم بحر العلوم ثلاثة اسباب لعدم رغبته في المشاركة في المجلس. وقال ‘اولا لقد اتيتم لي في وقت متأخر للغاية في هذه العملية، وهناك العديد من الناس في المجلس المقترح لا اعرفهم.
وثانيا ان فتوى آية الله السيستاني تشير بوضوح الى ان الدستور لابد ان تتم صياغته بواسطة هيئة منتخبة. واخيرا هناك ثلاث محافظات شيعية في الجنوب لم يتم تمثيلها في المجلس.
وقدمنا اسفنا البالغ لعدم سعينا للاتصال به في وقت ابكر، وقلنا انه لا يوجد اي مقترحات تتعارض والفتوى. واننا نأمل ان تكون من اولى الخطوات التي يتخذها المجلس، تشكيل لجنة اعداد لتقديم المشورة حول الكيفية التي تتم بها صياغة الدستور. واوضحنا بالاضافة الى ذلك اننا سنعمل لمدة شهرين لتشكيل المجلس الذي سيكون ممثلا لكل الاطراف. وان عشرة من الخمسة والعشرين عضوا هم من الجنوب.
وبعد عدد لا يحصى من اكواب الشاي قدم لنا الآيس كريم اللذيذ بالفستق، وقال السيد بحر العلوم ‘انني لا ارفض طلبكم بل لدي رغبة في العمل معكم ولكنني لا استطيع ان اشارك شخصيا في المجلس’ كان يرغب في تكليف ابنه. ورفضنا ذلك الأمر اذ لا نستطيع في هذه المرحلة ان نسمح بأي استثناء. وابلغته ان ‘العمل معنا لا يكفي. فاذا كنت تود خدمة مواطنيك يجب ان تكون في المجلس حيث تتم صياغة اهم القرارات’.
وعرضنا عليه السلطة الواسعة التي اقترحنا منحها للمجلس، واوضحنا بجلاء ان لجنة الاعداد سوف تقترح فقط عملية صياغة الدستور ولن تقوم بصياغته. وان على المجلس تقرير كيفية سير العملية. ولم يتمكن من فهم هذه النقطة ويبدو انها كانت مهمة بالنسبة اليه. وسأل بعد برهة من التفكير ‘ولكن ماذا سيحدث اذا ما اوصى المجلس بطريقة لصياغة الدستور تتعارض وفتوى السيستاني؟’ وقلت ان افضل اسلوب لضمان الالتزام بالفتوى هو انضمامه الى المجلس. وقال ‘آه نعم ولكن ماذا لو وافقت الاغلبية في المجلس على عملية تتعارض مع الفتوى؟’.
واشار سورز الى انه لا يوجد اي احد ممن تحدثنا معهم حول المجلس عارض الحاجة وجود لجنة دستور منتخبة.
وأمضينا الساعة التالية في مناقشة رغبته في تكليف ابنه للعمل في المجلس بدلا منه والتزمنا بصرامة بموقفنا. وقال السيد بحر العلوم ‘سعادة السفير انتم تصرون على أن أنضم شخصيا إلى المجلس، هل هذا صحيح؟’. لقد كانت تلك ‘لحظة حاسمة’ في تاريخ العراق. فالزعماء البارزون في المجتمع يجب أن يشاركوا في المجلس لكي يقوم بدوره بنجاح. وان مجلس الحكم أفضل موقع للتأثير في الأمور التي تهم ‘مواطنيه’.
وبعد ان استمع لي أعاد السيد بحر العلوم طرح مقولة ان المحافظات الشيعية في الجنوب لم تمثل تمثيلا كافيا. والا نستطيع إضافة ثلاثة أعضاء من هناك؟ وقلنا ان الوقت قد فات فنحن ننوي الإعلان عن المجلس في اليوم التالي.
وأضفت بخبث نوعا ما ‘ربما يرغبه المجلس في توسيع نفسه بطريقة متوازنة لاحقا. وبالطبع فإن هنالك محافظات أخرى قد تشعر بأن تمثيلها غير كاف’ وقال وقد اتسعت ابتسامته ‘حسنا، كنت أنوي إثارة هذا الأمر بنوع من الإصدار وبما انكم قد أقنعتموني بالانضمام إلى المجلس، فجاءتني فكرة أن أرى كيف أثأر منكم’.
وعليه بحلول مساء السبت 12 يوليو كنا قد توصلنا إلى مجلس من 25 عضوا.
يوم تاريخي
كان يوم الأحد 13 يوليو يوما تاريخيا، بالنسبة لجميع العراقيين ولكن لم يخل من عقبات اللحظة الأخيرة كما هو الحال في هذا البلد. فقد وصل الجلبي إلى نطقة تفتيش مبنى المجلس مع أربعة من مساعديه وذلك بالرغم من الشرط الذي وضعه المسؤولون الأمنيون أن كل عضو في في مجلس الحكم يمكنه اصطحاب شخصين فقط لحضور الحفل. ولم يحاول أي عضو آخر من أعضاء المجلس انتهاك هذا الشرط، غير أن الجلبي هدد بأنه سيعود أدراجه إذا لم نسمح لهم جميعا بالمرور.
وبعثت سكوت كاربنتر إلى الحاجز الذي تحميه أكياس الرمل برسالة ‘ان القاعدة تقول: اثنان فقط، وعد إلى بيتك ان كنت تفضل ذلك’. وابعد الجلبي اثنين من مساعديه.
وفي منتصف صباح ذلك اليوم اتصل سيرجيو دي ميلو من المطار ليقول لي انه وصل المطار متأخرا ولكنه في طريقه إلى المدينة.
وكان الترتيب الذي اتفقنا عليه مع بريطانيا والأمم المتحدة وأعضاء المجلس ان يتجمع أعضاء المجلس الخمسة والعشرون في مبنى لا يبعد كثيرا عن القصر. وهو مبنى استطاع بات كنيدي أن يعيده بمعجزة إلى فخامته السابقة وكانت الخطة أن تشكل المجموعة نفسها كمجلس للحكم. (وقد عرفت هذه الخطوة بيننا باسم: الحمل بلا دنس).
وبعدها يمكن للمجلس الذي يمني نفسه بأن ‘يستدعي’ الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا لعقد اجتماع سري خاص يبلغ من خلاله الثلاثة انهم شكلوا مجلس الحكم. وبعد الغداء ستعد قاعة كبرى حيث يقدم أعضاء المجلس أنفسهم للصحافة العالمية.
ووصل سيرجيو ان ميلو في حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا وجاء مباشرة إلى مكتبي، وتبادلنا سورز وسيرجيو وانا الحديث حوالي 45 دقيقة عندما أبلغنا ان المجلس مستعد لاستقبالنا. وذهبت وسورز إلى قاعة المؤتمرات معا وذلك حتى يصل سيرجيو إلى القاعة وحده.
وتم اختيار السيد بحر العلوم من قبل أعضاء المجلس كمتحدث باسمهم في ذلك اليوم احتراما لسنه بالرغم من أن عدنان الباجه جي كان أكبر سنا منه.
وبينما كان أعضاء المجلس يجلسون حول الطاولة البيضاوية، أشار بحر العلوم الى الاهمية التاريخية لذلك اليوم وابلغنا ان المجلس قد اصدر مسبقا قرارين الاول، يلغي كافة عطلات حزب البعث بما في ذلك يوم 17 تموز ذكرى ثورة صدام، كما اعلنوا ان التاسع من ابريل ‘يوم التحرير’ هو عطلة وطنية.
وسألني السيد بحر العلوم ان كنت اود الحديث، واقترحت ان يمنح الفرصة اولا لسيرجيو دي ميلو الذي القى كلمة موجزة، وبعدها اصر بحر العلوم ان ألقي كلمة ووافقت فقد كان ذلك يوما تاريخيا بالنسبة للعراق والعراقيين. وقلت في كلمتي ان ‘مجلس الحكم يعد الخطوة الاولى في رحلة سنقوم بها جميعا نحو هدفنا المشترك لاقامة حكومة ديموقراطية تمثل الشعب العراقي’، وانهيت كلمتي بالقول ان ‘مجلس الحكم ستكون له سلطات فعلية وان التحالف على استعداد لتقديم يد المساعدة بكافة الطرق الممكنة، لاننا معا سوف نحقق النجاح’.
وبعد فترة قصيرة من تناول الغداء، انتقلنا الى قاعة المؤتمرات القريبة وجلست ودي ميلو وسورز في الصف الامامي، وبعد مضي عشرين دقيقة، بدأ توافد اعضاء المجلس حيث اخذوا مقاعدهم على المنصة في شكل نصف دائري وكانت خلفهم خريطة بسيطة للعراق وعبارة مجلس الحكم.
لن يتوقف عن الحديث
في المؤتمر الصحفي لاعلان تشكيل مجلس الحكم قرأ السيد بحر العلوم ‘البيان السياسي’ الذي اصدره المجلس في ذلك الصباح وقد اشار فيه الى ان المجلس ‘تم تشكيله بمبادرة عراقية وطنية’ وحددت الوثيقة اهداف المجلس بتوفير الامن للمواطنين العراقيين.
وبعد القاء البيان جاء دور اسئلة مراسلي وسائل الاعلام. وكان اول المتكلمين مراسل هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) الذي قال ‘هل صحيح ان هذا المجلس ما هو الا مخلوق اميركي، ليس لديه سلطات بل انه حقيقة لا معنى له؟’. امسك الطالباني بالمايكروفون ووبخ المراسل الذي يمثل ‘سادتنا الاستعماريين السابقين’، ان ‘بي بي سي’ لم تذكر الحقيقة حول العراق، واضاف الطالباني ‘ان المجلس يعد اكثر حكومة تمثل العراق’ وشرع يعدد سلطات المجلس وألمح الى ان المراسل لا يعرف ما يتحدث عنه.
بعدها قدم مراسل قناة تلفزيون الجزيرة، التي كثيرا ما تهاجم التحالف، كلمة في شكل سؤال طرحت ما ذكره مراسل ‘بي بي سي’ وقد احدث هذا الامر سلسلة من ردود الفعل في اوساط اعضاء مجلس الحكم.فقد دحض الباجه جي بشدة التلميح القائل ‘ان المجلس العوبة’، واشار الى انه من الافضل بالنسبة لوسائل الاعلام العربية ان تلفت الانظار الى التغيرات الفعلية التي تجرى في العراق.
وهاجم نصرت الجادرجي الجزيرة ‘اقول هذا للاعلام العربي: توقفوا عن تقديم النصائح للعراقيين لمقاتلة الاميركيين’، وقوبل ذلك بعاصفة من التصفيق من الحضور ومن بينهم، حسب ما لاحظنا، بعض الصحافيين العراقيين.
وقاد ذلك السيد بحر العلوم الى الوقوف حيث قال ‘كل تغطيات التلفزيونات العربية للحرب والتحرير غير متوازنة ومنحازة ضد العراقيين’، وقال، وقد ارتفع صوته الى درجة قريبة من الصياح، ‘ان وسائل الاعلام هذه ظلت تهددنا منذ اول يوم من بداية الحرب والى اليوم!’، وحال جلوسه على المقعد كان المزيد من التصفيق مما ادى الى وقوفه مرة اخرى. ‘انتم ممن تمثلون (الجزيرة) و(العربية) وغيرهما، لم تغطوا البتة الفظائع التي ارتكبها صدام حيث قتل مئات الالوف من العراقيين! وقضى على العراقيين بالغاز! لماذا لم تعرضوا المقابر الجماعية على مشاهديكم؟!’ وارتفع المزيد من التصفيق عندما عاد السيد بحر العلوم الى الجلوس. وقد حثه الطالباني على الحديث مرة اخرى، وراق ذلك بحر العلوم الذي بدا وكأنه لن يتوقف عن الحديث.
بعد ذلك جاء دور واحدة من ثلاث نساء في المجلس اي الدكتورة رجاء وهي من الديوانية وقالت ‘خلال الخمس والثلاثين سنة الماضية ساعدت في توليد آلاف النساء العراقيات، والآن وللمرة الاولى في تاريخ العراق الحديث. سيكون للمرأة العراقية موقع في المجتمع. ويشرفني ان العب دورا في ميلاد اليوم العراقي الوطني الجديد’.
السيستاني كما يراه بريمر
السيستاني لا يريد دولة دينية في العراق على النمط الإيراني
لولا خبرتي الدبلوماسية الطويلة لانفجرت غضبا بوجه رامسفيلد
في طريق عودتي بالطائرة من الولايات المتحدة الى العراق مرورا بالاردن، الرحلة استغرقت 19 ساعة، قرأت مجموعة كبيرة من الرسائل الالكترونية المرسلة الي من العراق، خاصة من فريق موظفي سلطة التحالف، حول الوضع الامني بعد انفجار النجف الذي اودى بحياة محمد باقر الحكيم، حيث نظم زعماء الشيعة مسيرة ضخمة من بغداد الى كربلاء والنجف، وكان يمكن لهذه المسيرة ان تتحول الى اعمال عنف.
بعد هذا الحدث تم استبدال فريق الحراسة المرافق لي بآخر يضم رجالا اشداء من قوات NAVY SEALS بسبب زيادة الاخطار التي اتعرض لها، هذه الخطوة عززت الاحساس بأن العراق اصبح اكثر خطورة من ذي قبل. فقد اصبح موكبنا يتألف من عربتي همفي مصفحتين، اضافة الى سوبربان مصفحة في مقدمة الموكب وعدد من القناصة وسيارتي المصفحة وسوبربان اخرى فيها المزيد من القناصة وعربتي همفي اخريين تتبعان الموكب.
الاعيب البنتاغون
كانت المنافسة والمشادات حامية بين كبار اعضاء المجلس، مثل الجعفري والحكيم والطالباني والجلبي، بشأن تشكيل الحكومة. وقد تقصت اجهزة مخابراتنا عن الاسماء المرشحة لشغل الحقائب الوزارية، فلم نجد فيها من كان بعثيا برتبة عالية. ولكني كنت اشعر بالاعياء، وقلت حسنا ليمضوا في الاعلان عن التشكيلة كما يريدون فأنا سأذهب للاستحمام والخلود الى النوم. فاستوقفني كلاي قائلا: ‘انني اشعر بالقلق ازاء المزاج العام في البنتاغون’. فقلت: ‘ما الخطب؟’ فقال: ‘علمت من اتصالات مختلفة ان الجيش يشعر بالقلق من عمليات تبديل القوات في الربيع المقبل’. واطلعني كلاي على مذكرة من الجنرال جون ابي زيد يقترح فيها تعيين جنرال اميركي لمهمة التنسيق بين مختلف اجهزة الامن والجيش والشرطة في العراق.
شرح لي كلاي ان ما يثير قلقه على نحو خاص ان ‘هناك من هم في واشنطن (البنتاغون) وتامبا (قيادة الجيش)، يحاولون ان يقنعوا انفسهم ورامسفيلد بأن العراقيين سيتمكنون – مع حلول الربيع – من تولي امور الامن’.
فقلت: ‘حسنا، علينا ان نسرع في تدريب العراقيين لنبني جيشا محترفا، وليس كجيش صدام العاجز والمؤلف من المجرمين’.
فتوى الصدر
تلقيت تحذيرا من مجلس الحكم بأن مقتدى الصدر يستعد لإصدار فتوى اثناء صلاة الجمعة يدعو فيها الى الجهاد ضد قوات التحالف، مع انه – من الناحية الفنية – لم يكن الصدر مؤهلا لإصدار مثل هذه الفتوى. وابلغني مستشاري لشؤون بغداد آندي موريسون، ان انصار الصدر كانوا يحاولون السيطرة على مشاريع اعادة البناء في مدينة الصدر من خلال تخويف العراقيين العاملين فيها، بحيث يستولون على المال وينسب اليهم الفضل في انجاز العمل، فضلا عن وجود تقارير لدينا عن ان انصاره يحاولون اثارة الفوضى في كركوك.
وفي اليوم التالي، ارسل مجلس الحكم وفدا الى السيستاني لمطالبته بالتدخل لدى الصدر. واشار مستشاري هيوم الى انه اذا اعتقل العراقيون الصدر بتهمة القتل، فسوف يكون ذلك امرا جيدا. فقلت: ‘حسنا، ولكن اذا اعطى الصدر الاوامر لعصاباته، فقد تندلع اعمال عنف خطيرة ضد قواتنا، خاصة في مدينة الصدر’.
رامسفيلد يضغط على المؤسسة العسكرية
وفي الرابع من سبتمبر، وصل رامسفيلد الى بغداد، وعلمت ان السبب الرئىسي للزيارة كان ان يعمل شخصيا، على تقييم فرص تخفيض عدد القوات، وعلمت انه يمارس ضغوطا على المؤسسة العسكرية لايجاد المبررات لعمل ذلك.
وفي الليلة التالية للاجتماع الذي عقده رامسفيلد مع كبار القادة العسكريين في العراق، جاء إلى القصر لتناول طعام الغداء معنا، وكنا مجموعة صغيرة جلسنا في غرفة اجتماعات وحضر الاجتماع كل من بات كنيدي ومدير مكتب سي اي ايه في بغداد والسفير البريطاني ديفيد ريشموند وكلاي ماكمناوي.
وبدأ رامسفيلد حديثه بالثناء على عملنا وقال اننا حققنا انجازات مميزة ‘ولكنني لا ارى خطا ثابتا في التقدم فربما نحتاج الى طريقة افضل لتقييم مدى نجاحنا في تحقيق الاهداف المرجوة’.
أجبت رامسفيلد بالقول: ‘لهذا السبب بلورنا الخطة الاستراتيجية التي رأيتموها في شهر يوليو. وكما تذكر حضرة الوزير، فإن خطتنا وضعت اهدافا محددة لتحقيقها خلال فترة محددة’.
وفاجأنا جميعا، الوزير رامسفيلد بالقول ‘لا اعرف ان كان لديكم جميعا ذلك الاحساس الكافي باهمية الوقت’. فساد الغرفة الصمت، وتسمرنا في اماكننا. ولولا خبرتي الطويلة في العمل الدبلوماسي لعبرت عن غضبي من هذا الاسلوب في مخاطبتنا وقد اخذت نفسا لمرتين قبل ان اجيب عليه لكن صوتي كان متهدجا.
وقلت: ‘حضرة الوزير، يمكنك ان تتحدث مع كل العاملين هنا من اصغر عامل في المطبخ الى كلاي وانا وسوف تجد احساسا عميقا لدينا باهمية الوقت وما نقوم به، فكل هؤلاء هم من المتطوعين الذين يعملون ما بين 18 ـ 20 ساعة يوميا وسبعة ايام في الاسبوع لانهم يدركون اهمية وضرورة الاسراع في العمل’.
وبدا ان رامسفيلد اخذ على حين غرة، ثم قال ‘ما قصدته انني اعلم انكم جميعا تعملون، ولكن هل رتبتم الاولويات بطريقة صحيحة؟’.
فقلت له هذا امر بسيط ‘انه الامن، لاننا بلا امن لا يمكننا تحقيق اي من اهدافنا سواء كانت سياسية ام اقتصادية’.
فقال: ‘انا اوافقك يا بول. ولكن ذلك يعني التحرك باسرع ما يمكن لتأهيل قوات الامن العراقية’.
وتواصل الحوار الى ان جاء الى موضوع الصلة بين الاستخبارات وتحسين الفعالية ضد المتمردين البعثيين والارهابيين الاجانب، واتفق الجميع على ضرورة تحسين مستوى جمع المعلومات الاستخباراتية.
كيف يتصرف السيستاني؟
لم يكن (اية الله) علي السيستاني يتدخل في التكتيكات السياسية اليومية، الا انه كان يقدم توجيهات يصعب على السياسيين الشيعة تجاوزها او تجاهلها، بالاضافة الى وجود مقربين له في مجلس الحكم كانوا ينفذون توصياته. فمثلا ابلغ السيستاني وفدا من مجلس الحكم زاره في النجف ان العراق بحاجة الى رقابة اشد على الحدود وجهاز استخبارات داخلي اقوى، فأخذ مجلس الحكم بهذه التوصيات، وكذلك ابلغ السيستاني اعضاء مجلس الحكم معارضته مشاركة قوات، من دول مجاورة للعراق في قوات دولية لحفظ السلام في العراق، وتبنى معظم اعضاء المجلس هذا الموقف.
ولم تلق هذه الانباء ارتياحا في واشنطن، فالبرغم من مواصلة وزارتي الدفاع والخارجية بالدفع نحو انخراط الاتراك في العراق، الا ان فتوى السيستاني قضت على هذا الخيار فقد اصبح الموقف الشيعي مطابقا للموقف الكردي من هذه القضية.
لا للدولة الدينية
وقد طمأنني هيوم وخبراء اقليميون اخرون بان الهدف النهائي للسيستاني ليس دولة دينية في العراق على النمط الايراني، وهو الخطر الذي علمت انه يراود واشنطن بعد لقائي بالرئيس وكبار مساعديه في قطر في شهر يونيو الماضي.
لقد ابلغنا السيستاني بعد التحرير مباشرة، ومن خلال قنوات خاصة انه لن يقابل احدا من التحالف، ولذلك لم اطالب بعقد اجتماع شخصي معه. وقال لي هيوم الذي يفهم العالم العربي جيدا، ان ‘السيستاني لا يمكن ان يقبل بأن يظهر علانية بأنه يتعاون مع قوة احتلال، كما انه يريد ان يحمي جماعته من آخرين من امثال مقتدى الصدر ولكنه سيعمل معنا، فنحن نشترك معه في الاهداف ذاتها’.
وبينما كانت وسائل الاعلام العربية والاجنبية تتحدث عن الصلات المقطوعة بيننا وبين السيستاني، فإنني كنت على اتصال مستمر معه حول القضايا الحيوية، من خلال الوسطاء.
وكان هيوم محقا في تحليله، فقد ارسل لي السيستاني ذات يوم يقول ان عدم لقائه بنا ليس ناتجا عن عداء للتحالف، وانما لانه يعتقد انه بذلك الموقف يمكن ان يكون اكثر فائدة لتحقيق اهدافنا المشتركة، وبانه سيفقد بعض مصداقيته لدى انصاره لو تعاون بشكل علني مع مسؤولي التحالف، كما فعل بعض العلمانيين من الشيعة والسنة او رجال دين شيعة ذوي مرتبة منخفضة.
كتابة الدستور
وحين علمت برغبة السيستاني ان يترك التحالف كتابة الدستور للعراقيين، بعثت اليه من خلال بعض القنوات اؤكد على نقاط عامة: أولا، اننا جئنا كقوة تحرير لا قوة احتلال، وثانيا، اتفقنا على ان يتولى العراقيون كتابة الدستور، وثالثا، ان مجلس الحكم هو صاحب الكلمة في ما يفعله او لا يفعله.
وفي اتصالات لاحقة، اكدت للسيستاني انني على دراية بمعاناة الشيعة، وقلت له ان اول زيارة لي خارج بغداد كانت للقبور الجماعية في مدينة الحلة، واشرت الى ان التحالف خصص أموالا هائلة لمشاريع اعادة الاعمار في قلب المناطق الشيعية.
وتبادلت مع السيستاني الرسائل بشكل منتظم حول الوضع الامني في النجف ولاسيما في اغسطس حين اصبح مقتدى يمثل تهديدا لنا، وقلت له ان مسؤوليتنا المشتركة تتمثل في تفادي اي عنف لا لزوم له، وكلانا لا يريد عنفا بين السنة والشيعة، وكلانا يرغب في عراق ديموقراطي يسوده الاستقرار ويعيش مع جيرانه بسلام.
وخلاف الفترة من يوليو الى منتصف سبتمبر فقط، تبادلت اكثر من عشرة رسائل مع السيستاني الذي عبر غير مرة، عن امتنانه لقوات التحالف لما فعلته للشيعة وللعراق، لكنه اصر على ضرورة ان يتم انتخابات الهيئة الدستورية التي ستتولى صياغة الدستور بشكل مباشر.
وفي محاولة لاقامة قناة اخرى غير مباشرة مع السيستاني اصطحبت باول لتناول طعام الغداء في منزل اية الله حسين الصدر، الزعيم الشيعي الابرز في بغداد الذي كان معارضا شجاعا لصدام وكان يخضع للاقامة الجبرية في منزله لسنوات، الأمر الذي اتاح له تأليف مئات الكتب حول الاسلام، وسبق له ان تعرض للاعتقال وعلق في السقف بواسطة احدى المراوح وضرب لساعات، لقد اتيحت لي الفرصة لزيارته مرات عديدة واعجبت بقيمه الروحية وبشجاعته.
وكنت اعرف ان الصدر يقابل السيستاني كل اسبوع، ولذلك اقترحت، قبل زيارة باول باسبوعين، ان يتم ‘اختيار’ اعضاء الهيئة الدستورية من عناصر مختلفة في المجتمع بدل ‘الانتخاب’. وفي تلك الاثناء، طالب باول بتسليم السيادة للعراقيين بمجرد انتخاب حكومة وكتابة الدستور والموافقة الشعبية عليه، ولكن السيستاني لم يتزحزح عن موقفه ازاء المطالبة بانتخاب مباشر لاعضاء مجلس كتابة الدستور.
وعلى الرغم من عدم استقرار الوضع السياسي وتصاعد عمليات التمرد، برز تأييد متزايد في واشنطن والأمم المتحدة لفكرة تسليم السيادة للعراقيين في وقت مبكر، ففي واشنطن تركزت حملة ‘السيادة الان’ على نائب وزير الدفاع بول وولفوتيز ووكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية دوغلاس فيث والمسؤول في مكتب نائب الرئيس جون حنا، وكانوا وثيقي الصلة باحمد الجلبي الذي كان يروج لهذه السياسة بشكل مباشر، اثناء زيارتين مطولتين قام بهما لواشنطن منذ شهر مايو، وعاد باعتباره الرئيس الدوري لمجلس الحكم لشهر سبتمبر.
ظل التمرد يشكل تهديدا خطيرا في المثلث السني واجزاء عديدة من بغداد، وهذا بدأ يلقي بظلاله على جهود التحالف لاعادة اعمار العراق. فقد شعر بعض المقاولين الاوروبيين بالخوف من الكمائن والهجمات على سياراتهم ومواقع العمل.
وفي الثاني والعشرين من سبتمبر اجتمعت مع وولفويتز في مكتبه بالبنتاغون لمناقشة ورقة دوغلاس فيث التي يقترح فيها تسليم السيادة الى مجلس الحكم وتسميته ‘حكومة انتقالية’ وحين قرأتها تبين لي انها طبق سمك قديم اعيد تغليفه.
جلست انا وبول وحدنا حول طاولة مستديرة ونحن نعرف بعضنا منذ عشرين عاما واحترمه لفكره النير وذكائه في التعامل مع المسائل المعقدة، واتفق مع ما يعتقده بان العراق الديموقراطي سيؤدي الى تنوير الشرق الاوسط ولكن كنت على يقين من ان ذلك سوف يستغرق وقتا طويلا وصبرا جميلا.
وسألني بول: ‘ما رأيك بمقترح نقل الصلاحيات والسيادة الى مجلس الحكم؟’. قلت له: ‘لست متحمسا له، فهؤلاء الناس لا يستطيعون تنظيم مهرجان، فكيف بادارة بلاد؟!’.
في الرابع والعشرين من سبتمبر فاجأني الرئيس وزوجته لورا بدعوة خاصة لي ولزوجتي فرانسي لتناول طعام الغداء معا في البيت الابيض. وهي الدعوة التي قال الرئيس انها معروفة لدى الاوسط السياسية في واشنطن. وتوجهنا فرانسي وانا الى الجناح الشرقي الخاص بعائلة الرئيس، وحين فتح باب المصعد كان الرئيس ولورا في استقبالنا.
كان الرئيس يرتدي ملابس غير رسمية، بينما كانت ملابس السيدة الاولى اكثر رسمية، وقضينا معا وقتا ممتعا.
الزرقاوي يخطط لاغتيال السيستاني
كشف بريمر في كتابه انه في وقت متأخر من يوم 28 فبراير 2003 قدم مسؤول محطة الاستخبارات في العراق ‘ما وصفه بأدلة ذات مصداقية تقول ان الزرقاوي يخطط لاغتيال السيد السيستاني، وبدأ يساورني قلق من امكان ما يحدث للبلد اذا ما استطاع احد انتحاريي الزرقاوي التسلل عبر السياجات الامنية المتعددة من الجنود والحراس الامنيين المحيطة بالنجف، وبالتالي بعثت رسالة تحذير الى السيستاني، كما ارسلت بعض مساعدي للقاء كبير المسؤولين الامنيين في النجف لتقديم المساعدة لحمايته خلال احتفالات عاشوراء حيث تزدحم المدينة بحوالي مليوني زائر’
نقاش حول العراق
اخذني الرئيس بوش الى مقعد جانبي واخذنا نتحدث عن العراق، بينما دار نقاش بين لورا بوش وفرانسي حول الكتب او على الاقل، هذا ما افترضته لانهما تهتمان بالقراءة. وعودة الى موضوع العراق قلت للرئيس: انني متفائل في المدى البعيد، وكررت ما قلته له في الدوحة من ان الشعب العراقي لديه الموارد المادية والبشرية، وكل ما علينا عمله هو اعطاؤهم الفرصة’.
وتساءل الرئيس بوش عن وجهات نظر العراقيين ازاء قيام حكومة اسلامية ‘هل سيسيطر الملالي على الحكم في العراق؟’.
قلت ان التحالف بدأ للتو في اجراء استطلاع للرأي في شهر سبتمبر يبدو ان القليل من الشيعة يريدون حكومة دينية. وسيكون من المهم لمستقبل الاستقرار في العراق تشجيع تبني دستور يحمي حقوق الافراد وتجسيد شكل من اشكال النظام الفدرالي يعمل على توازن السلطة التاريخية لبغداد مع اعطاء سلطات للمحافظات.
وسألني الرئيس عن الوضع الامني فاخبرته ‘انني مازلت اعتقد ـ صراحة ـ انني لا امتلك ما يكفي من المعلومات الاستخبارية عن المتمردين وان خبرتي في مجال مكافحة الارهاب اقنعتني باننا نواجه خطرا آخذا في النمو والتطور، وقد اثرت هذه المخاوف مع جورج تينيت’.
لقد استوعب الرئيس ذلك ولكنه لم يعقب ثم سألني ‘وماذا عن القوات العراقية؟’ فقلت: ‘بين بين’، ولكني اشعر بالقلق ـ حضرة الرئيس ـ ازاء طريقة البنتاغون في حساب القوات الجيش والشرطة’. ‘ماذا تعني بذلك؟’ سأل الرئيس، فأجبت: ‘اعني انهم ينظرون إلى كل عراقي يرتدي الزي الرسمي للجيش او الشرطة بانه مؤهل لذلك. وهذا امر مضلل، فهذا يعني ان رجل الشرطة العراقي لديه القدرات والمهارات القتالية للجندي الاميركي، وهذا امر بعيد عن الصحة’.
سألني الرئيس عن السبب في ذلك، فقلت له انني اعتقد انه لشعور في المؤسسة العسكرية بقرب خطوات لتقليص القوات ويريدون تعويض هذا النقص من قوات عراقية، واضفت ‘انني في حين افهم ان الامن سيكون بين العراقيين في نهاية الامر، الا ان ذلك يجب ان يقوم على اسس سليمة، وان تدريب هذه القوات يحتاج الى ما بين 16 و18 شهرا، وقبل ذلك يجب الا نخدع انفسنا بشأن قدرات العراقيين’.
الجلبي يفقد حظوته
تناول النقاش بيني وبين الرئيس شخص احمد الجلبي الذي كان في نيويورك آنذاك ضمن وفد العراق الى الجمعية العامة للامم المتحدة. قلت للرئيس ‘كما تعلمون انه يلعب مع الفرنسيين لدفعنا الى تسليم السيادة الى مجلس الحكم الآن’.
فسأل الرئيس: ‘ولكن هم مؤهلون لقيادة العراق؟’.
فاجبت: لا، ليسوا كذلك. لقد اتصلت بالجلبي قبل يومين ليتوقف عن هذه المساعي. فوعد بان يفعل، ولكنه عاد بالامس ليهاجم خططنا في صحيفة نيويورك تايمز.. انه شخص صعب المراس ويصعب التأثير عليه.
الرئيس: ‘نعم لقد أرتني كونداليسا المقالة وكان الجلبي يقول لاعضاء الكونغرس ان في وسع العراق مضاعفة انتاجه من النفط مرتين او ثلاث مرات، فقلت ان هذا الامر ‘غير واقعي’. لقد كنت انوي توبيخه اثناء حفل الاستقبال الذي اجري لي في نيويورك، ولكن كان يصطحب ابنته، فقلت ان من غير اللائق ان افعل ذلك امامها. لقد اصبح يشكل مصدرا للمتاعب لنا.
فقال الرئيس انه يتفق تماما معي، فقلت ولكنه اشبه بشخصية تراجيدية. صحيح انه لامع، ومن القلائل الذين يفهمون الاقتصاد الحديث في العراق، ولم يكن في وسع مجلس الحكم ان يدير اقتصاد البلاد من دونه، ولكن في النهاية، فإن طموحه وتذاكيه سيوديان به’.
فسأل الرئيس: ‘هل فقد الجلبي حظوته لدى البنتاغون’؟ فقلت: ‘لا اعتقد انه فقدها ولكنه على وشك’.
ولم اذكر للرئيس انني تحدثت بالهاتف في وقت سابق من ذلك المساء مع مدير مكتب نائب الرئيس سكوتر ليبي وتحدثت معه عن تحركات الجلبي، وانه ابلغني ان الناس هناك قد ضاقوا ذرعا بالجلبي، ايضا.
رأيي بمقتدى الصدر لم يتغير
ضقت ذرعا بألاعيب السياسيين العراقيين وانعدام حس المسؤولية لديهم
بغداد: يونيو 2004
ظل الوضع الامني يشكل مشكلة كبيرة في ظل تكثيف الارهابيين والمجموعات المتمردة لنشاطها في بغداد والمثلث السني مع تحول العراق الى الديموقراطية.
في هذه الفترة كانت لدي ايضا رغبة في تكريم عدد من العراقيين الذين عملوا بلا كلل في ظل هذه الظروف الصعبة والمحفوفة بالمخاطر في الغالب من اجل صنع مستقبل العراق.
كان علي بادئ ذي بدء ان اساعد عدنان الباجه جي الذي كان يخطط للالتحاق بزوجته في ابوظبي، على مغادرة العراق بكرامة فتوجهت جوا الى المطار يوم 2 يونيو برفقة كل من سكوت كاربنتر وديفيد ريكموند لتوديع الرجل، وكان قبل يومين من رحيله قد تعرض لانتقادات وسائل الاعلام بسبب عضويته في حزب البعث سابقا. وهذا ما جعله يرى في قبوله بمنصب الرئيس عامل ارباك محتمل للحكومة الجديدة.
تحدثنا معا عن حاجة اعضاء الحكومة الى التعاون وابديت له انطباعي بان الانقسامات الطائفية التي طغت على رجال السياسة العراقيين في مجلس الحكم كانت اقل وضوحا بين المواطنين العاديين. وهو انطباع تولد لدي بعد عام من التجول في انحاء البلاد، ومحاورة الاف العراقيين.
وعبرت له عن املي في الالتقاء من جديد في واشنطن واعدا اياه بتحضير وجبة دسمة له ولزوجته وقلت له: ‘سأغضب منك كثيرا ان علمت انك زرت المدينة ولم تتصل بي’.
مع علاوي والجنرالات
في اليوم التالي، اجتمعت انا والجنرال ابي زيد والجنرال سانشيز برئيس الوزراء اياد علاوي بمكتبه للتشاور بشأن رسالة كان قد بعث بها الى الامم المتحدة تتعلق بالقرار الذي يعكف مجلس الامن على التداول بشأنه والذي يرمي الى تأييد الحكومة العراقية المؤقتة، وتحديد المسؤوليات الامنية المنوطة بقوات التحالف بعد 30 يونيو كما تسلط الضوء على دور الامم المتحدة في العملية السياسية المتطورة.
ولما غادر الجنرالان عقدنا انا وعلاوي اول جلسة احاطة يومية ضمن سلسلة من جلسات تلت.. وكان خبراؤنا قد اعدوا كتابا ضخما يشمل اكثر من 40 موضوعا بما فيها تدريب قوات الامن العراقية، ووضع السياسة النقدية الخاصة بالعراق ومواصلة الاصلاح الحكومي المحلي، ووضع ميزانية الحكومة العراقية لعامي 2004 و2005، ومحاربة الفساد وتعزيز اجهزة المخابرات، وتشديد المراقبة على الحدود، والتفاوض بشأن الديون العراقية، وتحديد مستقبل الشركات المملوكة للدولة وتنويع اوجه الاقتصاد العراقي بعيدا عن فرط الاعتماد على النفط وما الى ذلك.
وحين حمل علاوي الكتاب الثقيل بيده الضخمة رمى بنظرة الى الروزنامة وكأنه يحاول ان يقيس عدد الصفحات على الايام المتبقية من الشهر، وسألني قائلا: ‘سنلتقي غدا من جديد اليس كذلك سعادة السفير؟’ واجبته ‘بل كل يوم الى حين مغادرتي وبقدر ما ترغب انت في ذلك’.
وقد التقينا في الاسابيع التي تلت اكثر من ثلاثين مرة وكانت اجتماعاتنا تشمل في الغالب تقرير احاطة يستعرضه استشاري رفيع حول النفط والكهرباء وما الى ذلك، ثم اجتماعا ثنائىا يضمني مع رئىس الوزراء لمناقشة المزيد من القضايا ذات الطابع السري.
تباين شيعي – كردي
في الليلة التالية اقمت مأدبة عشاء دعوت اليها اعضاء مجلس الحكم السابق وحضر معظمهم بمن فيهم الرئىس الجديد ورئىس الوزراء، وقبل تناول العشاء بقليل سلمني عماد ضياء نسخة من كتاب تأييد فاتر من آية الله السيستاني للحكومة الجديدة، وجاء في آخر جملة من الكتاب ‘ينبغي الا يكون المجلس الوطني المنتخب حتى العام المقبل مقيدا بقانون الحكم المؤقت’.
فقلت لضياء ‘ان هذا سيسبب مشاكل’ وهذا ما حدث وعلى الفور، فأثناء العشاء سحبني احد زملاء البرزاني جانبا ليلبغني ‘رسالة مستعجلة’ من الاخير تعبر عن استيائه من خلو مسودة قرار الامم المتحدة الحالية من اية اشارة الى قانون الحكم المؤقت.
وانخرط الرجل في شكوى مملة من المعاناة الطويلة التي تكبدها الاكراد ملوحا باحتمال تغيير موقفهم من الحكومة الجديدة في حال لم يتم ارضاؤهم، والحقيقة انني ضقت ذرعا بموضوع المواقف السياسية فقلت له ‘سيكون انسحاب الاكراد الآن ضربا من التهور وانعدام حس المسؤولية ثم ان الاكراد استفادوا من العملية السياسية اكثر من اي طرف آخر خلال الاشهر الاربعة الاخيرة بفضل جهودنا’، ورد قائلا: ‘ربما لكن الشارع الكردستاني ملحاح’ وهززت رأسي معلقا: ومن اجل هذا وجد الزعماء من اجل ان يبينوا للناس الامكانات المتاحة’!
مشكلة حقيقية
كانت مسألة الاشارة الى قانون الحكم المؤقت في قرار الامم المتحدة تمثل معضلة حقيقية.
وفي المساء نفسه بعث الي السيستاني برسالة جديدة تقول انه سيتعين عليه ان يصدر بيانا آخر ان تضمن قرار الامم المتحدة اشارة الى قانون الحكم المؤقت، فاتصلت بستيف هادلي مقترحا ان يؤيد الرئىس بوش هذا القانون في خطابه الاذاعي الاسبوعي، واشرت الى ان قرار الامم المتحدة يؤيد فكرة الفيدرالية التي يتوق اليها الاكراد، وكذلك موعد انتخابات يناير 2005 وذلك كطريقة لرتق الفتق بين مطالب السيستاني والاكراد.
وفي جلسة الاحاطة الاستخبارية الصباحية ليوم 5 يونيو وصلتنا اخبار طيبة من النجف، اذ علمنا بانسحاب رجال مقتدى من صحن مرقد الامام علي في الليلة الماضية ودخول الشرطة العراقية اليه مما يعني ان الازمة قد انفرجت بشكل مؤقت، وها هي حكومة عراقية سيستعين عليها الآن ان تتعامل مع مقتدى الذي لم يتغير رأيي فيه منذ ظهر على الساحة قبل عام مضى.
الا ان الوضع في الفلوجة كان يبعث على القلق فالتقارير تشير الى ان كتائب الفلوجة ما زالت تخيب آمال المارينز في ان تعينه على فرض النظام في المدينة.
وبعد مرور يومين اخبرني رئيس الوزراء علاوي باسما ان مسعود البرزاني قد اتصل به في الصباح مضيفا: ‘هناك اخبار طيبة بخصوص قرار الأمم المتحدة’.
لقد ابتهج البرزاني الان لكون القرار سيشير الى الفدرالية والحقوق الكردية، فيما لن تأتي مسودته على ذكر قانون الادارة المؤقت صراحة، كما سره ان بوش ايد في خطابه الاذاعي الاسبوعي هذا القانون وهذا ما كنت ارجوه.
وختم علاوي معلقا: ‘اظن ان المسألة انتهت الآن’ وحمدت الله في نفسي ان مشكلة واحدة وجدت لها حلا.
انتقلنا لمناقشة امر مقتدى الصدر وقلت لرئيس الوزراء انه لمن المؤسف حقا اننا اغفلنا حل هذه المسألة، وان حكومتنا سيتعين عليها ان تجد طريقة للتعامل مع الرجل. واجاب بانه على الشرطة العراقية الا تحاول اعتقال الصدر قبل 30 يونيو. وحين اثرت قضية اعمال التمرد، قال علاوي انه يميل الى فتح نوع من الحوار مع المتمردين.
رسائلي مع السيستاني
وفي يوم 8 يونيو اعتمد قرار مجلس الامن 1456 بالاجماع وتضمن ترحيبا بالحكومة الانتقالية في العراق باعتبارها تمثل ‘مرحلة جديدة لانتقال العراق الى حكومة منتخبة بشكل ديموقراطي’ بالاضافة الى تأييد صريح للجدول الزمني المنصوص عليه في قانون الادارة المؤقت، ولتنظيم الانتخابات في 31 يناير 2005، وارفق القرار برسائل من علاوي والوزير باول تحدد دور قوات التحالف متعددة الجنسيات.
وبعد ظهر ذلك اليوم، اتى ضياء برسالة اكثر تعبيرا عن الرضا من آية الله السيستاني، وبدا انه كان ‘مسرورا’ بما آلت اليه الامور في العتبات المقدسة وبالحكومة الجديدة ورئيس الوزراء ولكون قرار الأمم المتحدة لم يذكر صراحة قانون الادارة المؤقت وايد موعد تنظيم الانتخابات في يناير 2005، وختم رسالته بالقول: ‘ان حواري مع السفير بريمر خلال العام الماضي كان مفيدا للغاية وآمل ان يستمر هذا’.
ورغم ان آية الله كان رافضا للالتقاء بسلطات الاحتلال، فانني تبادلت معه طيلة الشهور الاربعة عشر الماضية ما يزيد عن 30 رسالة عبر وسطاء عديدين، وهي رسائل أعتبرها من ناحيتي ايضا ‘مفيدة جدا’.
العد التنازلي
كان العد التنازلي قد بدأ، ولم يبق امامنا سوى القليل لننقل السيادة الى العراقيين واغادر انا. لذلك شرعت في مناقشة المسائل البروتوكولية والامنية المتعلقة بعملية نقل السيادة في اطار السرية.
وكان لا بد من التخطيط للوضع بعناية، وتشديد المراقبة في ظل آخر المعلومات الاستخباراتية التي كشفت وجود ‘مؤشرات قوية’ على هجمات ارهابية كبيرة يتوقع شنها يوم الاربعاء 30 يونيو.
ارجو التقييم tawtaw