فى اللغة

البرزخ في كلام العرب هو الحاجز بين الشيئين، قال - تعالى -: ((وجعل بينهما برزخاً)) أي حاجزاً، والبرزخ في الشريعة: الدار التي تعقب الموت إلى البعث، فكل من مات من مؤمن أو كافر دخل في البرزخ، وتتكون دار البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، وعرض أرواح المؤمنين على الجنة، وأرواح الكافرين على النار، وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة قال - تعالى-: ((ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)).القيامة الصغرى

كما يطلق أيضاً على هذه المرحلة التي يمر بها الإنسان "القيامة الصغرى"، فكل من مات فقد قامت قيامته، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رجال من الأعراب يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسألونه عن الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: ((إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم))، قال ابن كثير: والمراد انخرام قرنهم ودخولهم في عالم الآخرة، فإن كل من مات فقد دخل في حكم الآخرة.الموت

كما يطلق على هذه المرحلة أيضاً "الموت"، وهو المتداول والشائع بين الناس، ووقت الموت من الأمور التي استأثر بعلمها الله - سبحانه وتعالى - حيث قال: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)) وقال: ((إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)).
هل هناك عذاب قبر؟

يشكك الكثير في مسألة عذاب القبر، وأنه لا يوجد دليل من القرآن الكريم يقر بذلك صراحة؟الجواب

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً؛ وبعد:عذاب القبر ونعيمه ثابت بظاهر كتاب الله - عز وجل -، وصريح السنة النبوية، وإجماع أهل السنة والجماعة، قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الروح: [وقد اتفق السلف وأهل السنة على إثبات عذاب القبر ونعيمه]، وقال الطّحاوِيُّ - رحمه الله - في عقيدته: (ونؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسُؤال منكر ونكير في قبره عن ربّه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة - رضوان الله عليهم -، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران). وقال الإمام عبد الله بن محمد الأندلسي المالكي في نونيته:وحياتنا في القبر بعد مماتنا
حقّا ويسألنا به الملكان

والقبر صح نعيمه وعذابه

وكلاهما للناس مدّخران

فيجب على المسلم الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وذلك من تمام عقيدته.
ومن الأدلة على ثبوت عذاب القبر ونعيمه شرعاً:
*أولا: من كتاب الله عز وجل -:

قول الله - تعالى -ً: [النار يُعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب] غافر:46، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره: (إن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال: [ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب] أي أشدُّهُ ألماً وأعظمه نكالاً، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله - تعالى -: [النار يعرضون عليها غدواً وعشياً] تفسير ابن كثير (سورة غافر). ومن الأدلة من كتاب الله قوله - عز وجل -: [سنُعذِّبُهُم مرتين ثم يُردُّون إلى عذابٍ عظيم][التوبة:101]. قال مجاهد في قوله - تعالى -:[سنعذبهم مرتين] : بالجوع وعذاب القبر، ثم يردُّون إلى عذابٍ عظيم، وقال الحسن البصري: عذاب في الدنيا، وعذاب في القبر، وقال سعيد عن قتادة: عذاب الدنيا، وعذاب القبر.[تفسير ابن كثير (سورة التوبة)].*ثانياً: من السنة النبوية

أما من السنة النبوية؛ فالأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريحة وصحيحة في إثبات عذاب القبر، وتصل إلى حد التواتر، مما لا يبقى لأحد شك في نفسه ولا ريب، ومن هذه الأحاديث ما يلي:
  • 1- حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن يهودية دخلت عليها فقالت: نعوذ بالله من عذاب القبر؛ فسألت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر؛ فقال - صلى الله عليه وسلم :-[نعم، عذاب القبر حَقٌّ]، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعْدُ صلَّى إلا تعوّذ من عذاب القبر. رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر.
  • 2- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال: [إنهما ليُعَذَّبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستترُ من بوله][أخرجه مسلم].
  • 3- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلِّمُهُم هذا الدُّعاء كما يعلِّمُهُم السورة من القرآن: [اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيخِ الدّجال] رواه البخاري.
  • 4- حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إن العبد إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيُقعِدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيُقال له: انْظُر إلى مقعدِك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: فيراهُمَا جميعاً، قال قتادة: وذُكِرَ لنا أنه يُفسَحُ له في قبره سبعون ذراعاً، ويُملأ عليه خضراً إلى يوم يُبعثون](رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ما جاء في عذاب القبر).
  • 5- حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - المشهور في قصة فتنة القبر، وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن: [فيُنادِي منادٍ من السماء أن صدق عبدي، فأفرِشُوه من الجنة، وألبِسُوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. فيأتيه من ريحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصره]، وقال في الكافر: [فيُنادِي منادٍ من السماء أن كذب عبدي، فأفرِشُوه من النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرِّها وسمُومِها، ويُضَيَّقُ عليه قبرُه حتى تختلف َ أضلاعُه](رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح).

إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة الدّالة على عذاب القبر. والعذاب والنعيم في القبر يكون على الروحِ والبدن جميعاً، ولا يمنع ذلك ولا يجعلُهُ مستحيلاً كون الميت قد تفرّقت أجزاؤُه، أو أكلته السِّباع أو حيتان البحر، أو احترق حتى صار رماداً، أو غير ذلك، فإن الذي خلقه وأماته - سبحانه وتعالى - قادر على عذابه وتنعيمه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (مذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم يحصلُ لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مُفارقة البدن مُنَعَّمةً أو مُعَذّبة، وأنّها تتّصِل بالبدن أحياناً فيحصُلُ له معها النَّعيم أو العذاب)[مجموع الفتاوى (4/282)]. اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدّجال. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.