وهذه القاعدة تحمل معنيين كليهما يسهم في تصحيح العقود، وهذان المعنيان هما:
الأول: باعتبار النظرة الشرعية للعقود، وهي بذلك تعني أن الأصل في العقود والشروط المشروعية ابتداء، ولا يحرم منها إلا ما دل الدليل على تحريمه، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء() خلافاً للظاهرية() الذين اعتبروا أن الأصل في العقود والشروط الحظر حتى يدل دليل على المشروعية، وبناء على ذلك يكون الأصل هنا بمعنى القاعدة العامة.
وإن قول الجمهور باعتبار المشروعية في العقود هي الأصل، هو الذي يؤدي إلى تصحيح هذه العقود ويحميها من البطلان، خاصة وأن العقود وليدة الحاجات الإنسانية، وقد اعتبر ابن القيم أن هذا هو القول الصحيح، وأن خلافـه خطأ؛ لأنه يؤدي إلى إبطال
عقود الناس وتأثيمهم().
الثاني: باعتبار نظرة المتعاقدين للعقد، وهو معنى متفرع عن الأول ومبني عليه، وهـو يعني أنه إذا اختلف المتعاقدان في صحة العقد وفساده ولا دليل لواحد منهما فما هو الأصل في ذلك، أي القول لمن؟، وبناء على هذا المعنى يكون المقصود بالأصل هو الراجح.
والمعنى الثاني هـو المقصود بالقاعدة هنا، وبناء عليه يكون المقصود بالصحة هنا: هو مشروعيتها بسلامتها من النهي والخلل، فالصحيح هنا: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه().
والصحة في هذه القاعدة مقابلة للفساد بمعنـاه الخاص عند الحنفية، فيكون معنى القاعدة أنه إذا اختلف المتعاقدان في صحة العقد وفساده، أحدهما يدعي صحـة العقد، والآخر يدعي فساده، فالقول قول مدعي الصحة وعلى من يدعي الفساد البينة والبرهان، والعلـة في ذلك أن اختلافهم في فساد العقد اتفاق منهما على انعقاده؛ لأن الفساد لا يكون إلا بعد الانعقاد، وادعاء أحدهما فساد العقد، إدعاء لصفة طارئة و"الأصل في الصفات العارضة العدم"()؛ ولأن اتفاقهما على العقد يكون اتفاقاً منهما على ما يصلح به العقد، فإن مطلق فعل المسلم محمول على الصحة فلا يقبل قول من يدعي الفساد إلا بدليل()، ولأن الظاهر شاهد له إذ الظاهر من حال المسلم اجتناب المعصية ومباشرة العقد الفاسد معصية().
كما تشمل الفاسد بمعناه عند الجمهـور
الذين لا يفرقون بينه وبين الباطل. فلو ادعى أحدهما فسـاد العقد والآخر فساده فالقول لمدعي الصحة()، ومثال ذلك إذا اختلـف البائـع والمشتري، فقال البائع للمشتري: بعتك بخمر، أو خيار مجهول، فقال المشتري: بل بعتني بنقد معلوم، أو خيار ثلاث، فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه؛ لأن ظهور تعاطي المسلم الصحيح أكثر من تعاطيه للفاسد().
وقيد بعض الفقهاء هذه القاعدة بالعقود التي لم يغلب فيها الفساد، أما العقود التي يغلب فيها الفساد فالأصل فيها عدم الصحة().
هـذا ولا تشمل هذه القاعدة العقـد الباطل عند الحنفية الذي يعرفونه بأنه: ما لم يكن مشروعاً بأصله()، إذا الأصل في العقد البطلان؛ لأن الباطل معدوم شرعاً، و"الأصل العدم"، وبنـاء عليه إذا اختلف المتعاقدان في صحة العقد وبطلانه، أحدهما يدعي صحته، والآخر يدعي بطلانه، فالقول لمن يدعي البطلان، وعلى مدعي الصحة البينة والبرهان().