مفهوم "الخيانة" بين الأخلاق والقانون
إذا كانت جريمة "الخيانة"، من الجرائم والسلوكيات المرذولة على المستوى الإنسانى والشخصى فى حياتنا عموما، سواء فى صور الخيانات الزوجية، أو خيانة الإمانة، أو حتى خيانة قيم ومعايير الصداقة، فإن العقل القانونى الحديث، قد نقلها من إطارها الشخصى المجرد إى الإطار العام، وذلك بالنص على تجريم بعض تلك الأشكال والممارسات، طالما توافرت شروطها الموضوعية والمتعارف عليها فى علم التجريم والعقاب، وبأركانها المادية والمعنوية.
وقد أفاض رجال الفقة والتشريع والقضاء فى تأصيل بعض هذه الأركان والشروط الواجب توافرها حتى يتحقق لها توصيف الجريمة ويقع بشأنها حكم الجزاء والعقاب.
وقد أنتقل مفهوم "الخيانة" من حقل الخاص إلى حقل العام ومجال السياسة، عبر تاريخ طويل من الجدل والنقاش حول المعنى والشروط الواجب توافرها فى جريمة "الخيانة" فى حقل السياسة، خاصة وأن سلوك المسئولين أو القادة السياسيين ينطوى فى الكثير من الأحيان على استخدام مكثف ومتنوع لأدوات العنف أو القوة سواء فى المجال الداخلى أو حتى فى العلاقات مع الدول الأخرى.
وفى الوقت نفسه فإن هذا الاستخدام للسلطة power يتطلب درجة من الحماية والحصانة حتى يؤدى الفعل دوره فى إدارة شئون المجتمع والدولة ، وهو ما ابتدعته مدرسة القانون اللاتينى ومجلس الدولة الفرنسى فى عهد "نابليون بونابرت" تحت مسمى "نظرية أعمال السيادة" التى تحصن قرارات رئيس الدولة من مجال المساءلة ومن مجال النزاع القضائى فى الكثير من الأحيان.
وقد غالى مجلس الدولة الفرنسى counsel d,etate فى بداية عهده فى إضفاء هذه الحصانة على قرارات "نابليون" خوفا من بطشه، مما أدى لشيوع مفهوم غير صحيح – وفقا لاتجاهات الفقة الدستورى الحديث خاصة فى فرعه الأنجلو – سكسونى – بشأن استحالة محاكمة الرئيس الأعلى للدولة عن كثير من الأخطاء والجرائم التى قد تقع فى عهده ، ويكون مسئولا عنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولعلنا نتذكر ما جرى للرئيس "ريتشارد نيكسون" عام 1974 واستقالته تجنبا لتقديمه للمحاكمة فى جريمة "ووترجيت" الشهيرة، التى يعد الجرم الذى أرتكب فيها لا يشكل واحد على مليون مما يرتكبه رؤساء الجمهوريات والملوك فى بلداننا العربية ومنها مصر طبعا. وكذا ما جرى مع الرئيس "بيل كلينتون" عام 1996 وكاد يعصف بفترة رئاسته بسبب علاقاته الغرامية، وما قيل حول كذبه فى شهادته المسجلة أمام لجنة من أعضاء الكونجرس الأمريكى.
ومن هنا جاء توصيف جريمة "الخيانة العظمى" باعتبارها مجال ونطاق الاتهام الوحيد الذى يمكن أن يوجه إلى رئيس الدولة، والتى ارتبطت فى أذهان عامة الناس بأنها تندرج فى إطار التجسس أو التعاون مع الأعداء، أو نقل معلومات إلى العدو أو الإضرار بمصالح الدولة العليا.
والحقيقة أن الإلتباس الحادث فعلا حول تلك المفاهيم والممارسات السياسية والسلوكية تؤدى إلى التخبط وعدم الوضوح فى توجيه الإتهام مثل:
-تعريف المصالح القومية العليا وما هى الجهات المناط إليها تحديد هذه المصالح.
-التفرقة بين التعاون مع العدو أو توقيع أتفاق سياسى أو معاهدة تنهى حالة الخصومة أو أصل النزاع.
-التجسس مع دولة معادية أو خلق قنوات سرية بمعرفة الجهات المختصة وتحت إشرافها .. الخ.
وهذه كلها معانى ومفاهيم غامضة وملتبسة، بحيث لا تصمد بعض دعائمها أمام مقصلة الاتهام. وإلا فكيف نقيم إقدام الرئيس السابق "أنور السادات" على زيارة إسرائيل فى نوفمبر من عام 1977، وقبلها بشهور طويلة يجرى محادثات سرية مع قادتها فى المغرب، ونحن ما زلنا فى حالة حرب معها، وتقوم قواتها باحتلال الأراضى المصرية والعربية، أليس ذلك بالمعنى الدستورى المجرد يندرج فى توصيف "الخيانة العظمى"، ولكنه بالمعنى السياسى قد خلع عليه توصيفات "بطولية" من أعضاء مجلس الشعب المنتمين للحزب الحاكم ومن بعض قطاعات السكان فى ذلك الحين.
وكذلك كيف نصف قيام السادات بالاتصال السرى بوزير الخارجية الأمريكى "هنرى كيسنجر" وإرساله رسالته الشهيره إليه يوم الأحد 7 أكتوبر عام 1973، وفى أثناء إدارة العمليات الحربية، والتى يخطره فيها – وكذلك يخطر إسرائيل عبر كيسنجر – بأنه لا ينوى (توسيع نطاق الحرب ..!!) وهو ما كان يجرى التأكد منه من جانب إسرائيل والولايات المتحدة لحظة بلحظة من خلال الطلعات الجوية والأقمار الصناعية الاستطلاعية، ألا يندرج ذلك فى توصيف جريمة نقل معلومات والتخابر مع العدو، وكشف نوايا القيادة السياسية والعسكرية المصرية تجاه خط سير العمليات واتجاهاتها.
وبرغم ذلك لم يقدم السادات للمحاكمة بتهمة "الخيانة العظمى"، بل وجد بعض العملاء والساقطين فكريا من أمثال مديرى بعض مراكز الأبحاث المشبوهة فى بعض الصحف المصرية الصحفيين الذين خلعو
ا على الرجل صفات الدهاء والعبقرية والذكاء بمثل هذه التصرفات .. !!
أذن فى هذه المنطقة الرمادية بين السياسة والقانون ، غالبا ما تتوه الحقيقة ، وتغيب المسئولية الجنائية والدستورية تحت زعم "أعمال السيادة" أو متطلبات السياسة والمصلحة العليا.
الدعائم الدستورية لجريمة "الخيانة العظمى"
كيف نقيم أذن دعائم ارتكاب جريمة "الخيانة العظمى" على أساس من الدستور والقانون؟ وما هى أركانها المادية والمعنوية؟
فإذا كان من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – إقامة دعوى "الخيانة العظمى" على رئيس الدولة فى بلد ما استنادا على تقييم لبعض سياساته المتبعة، نظرا لتواضع مستوى الوعى السياسى العام، وتضاؤل نسب المشاركة السياسية، وتواضع الاهتمام بالقضايا العامة لدى القطاع الأوسع فى البلاد، فإنه يمكن من ناحية أخرى تأسيس دعائم الاتهام على مرتكزين أساسيين يتوافر فى حال وجودهما أركان المسئولية الجنائية لجريمة "الخيانة العظمى" بشقيها المادى والمعنوى وهما:
الأول: مدى التزامه نصا وروحا بالقسم الدستورى الذى تولى على أساسه مسئولية المنصب.
الثانى: ارتكابه فعل أو عمل من شأنه إنكار العدالة أو تعويق تحقيقها.
وفى حالتنا المصرية سوف نعتمد على ما توفره المادتين (79) و (85) من الدستور المصرى باعتبارهما مرتكزا لهذه المسئولية السياسية والجنائية لجريمة "الخيانة العظمى" فى حق الرئيس الحالى محمد حسنى مبارك.
ووفقا لنص المادة (79) فإن ( يؤدى الرئيس أمام مجلس الشعب قبل أن يباشر مهام منصبه اليمين الآتية: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصا على النظام الجمهورى ، وأن أحترم الدستور والقانون ، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه ").
أذن فإن رئيس الجمهورية، وقبل أن يباشر مهامه الدستورية، ينبغى أن يؤدى هذا اليمين القانونية التى تتضمن التزاما دستوريا وقانونيا بالواجبات الأربعة الآتية:
1- أن يحافظ مخلصا على النظام الجمهورى.
2- أن يحترم الدستور والقانون.
3- أن يراعى مصالح الشعب رعاية كاملة.
4- أن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.
وتضيف المادة (85) واجبين إضافيين على عاتق رئيس الجمهورية حيث تنص على ( يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بارتكاب جريمة جنائية بناء على اقتراح مقدم من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثى أعضاء المجلس، ويقف رئيس الجمهورية عن عمله بمجرد صدور قرار الاتهام ، ويتولى نائب رئيس الجمهورية الرئاسة مؤقتا لحين الفصل فى الاتهام، وتكون محاكمة رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة ينظم القانون تشكيلها وإجراءات المحاكمة أمامها ويحدد العقاب ,وإذا حكم بإدانته أعفى من منصبه مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخرى ).
ومن ثم فقد أضافت هذه المادة وألزمت رئيس الجمهورية بواجبين إضافيين هما:
5- أن يعين نائبا لرئيس الجمهورية ليتولى الحكم أثناء محاكمة الرئيس.
6- أن يعمل على إصدار قانون محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء ونظم تشكيلها والإجراءات المتبعة أمامها .. الخ.
والسؤال الآن … من أين تنشأ أركان المخالفة وتقوم أركان جريمة "الخيانة العظمى" فى حق الرئيس الحالى؟
لقد استقرت الدول والحكومات المتحضرة على آليات فى العمل السياسى – المرن بطبعه وضروراته – تتواءم وتتناسب مع الأطر الدستورية والقانونية – البطيئة التغير بطبيعتها – وألا تحولت السياسة وأفعال رجال السياسة وقراراتهم، إلى أهواء شخصية ومزاجية، تهدف إلى خدمة جماعة، أو جماعات دون بقية الفئات، وهو ما يعد انقلابا على الدستور والقانون
هذا التوازن المطلوب بين السياسة وتغيراتها، والقانون وقيوده هو الذى يحفظ للمجتمعات المتحضرة تماسكها، ويضمن لها آليات مؤسسية لعملية اتخاذ القرارات أو صنع السياسات، وهو ما يطلق عليه بحق "دولة القانون" أو "دولة المؤسسات"، نقيضا لدولة الفرد الواحد أو العائلة الواحدة أو الجماعة الواحدة.
فى حالتنا المصرية خرج القرار السياسى فى الكثير من الأحيان عن الإطار الدستورى أو القانونى الحافظ له ، فأصبح يعبر عن رغبات شخص الرئيس أو عائلته أو الحلقات الضيقة المحيطة به من رجال مال وأعمال أو عسكريين، سواء كان ذلك فى قرارات سياسية تؤثر على مستقبل البلد وتحالفاته الإقليمية والدولية، أو فى صورة قرارات اقتصادية تنعكس على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية المباشرة لقطاعات واسعة من السكان.
وبالنظر لغياب آلية سياسية ديموقراطية حقيقية ترتب حسابا سياسيا للرئيس والحزب المنتمى إليه من قبيل:
-غياب انتخابات نزيهة وشفافة وتحت إشراف حقيقى وكامل من القضاء المصرى ومنظمات المجتمع المدنى المحلية والدولية.
-وبالتالى غياب وانعدام أى فرصة للتداول السلمى للسلطة.
-وبالمقابل زاد استخدام النظام لوسائل القمع والتعذيب الوحشى داخل السجون وفى أقسام الشرطة ضد المعارضين وكذا آحاد الناس.
كل هذا أدى عمليا إلى انعدام فرص المحاسبة السياسية لسياسات الرئيس، والمتمثلة فى إمكانية تغيير الحكومة والنظام عبر "صناديق الانتخابات"، فلم يبق للناس سوى إجراء هذه المحاكمة للرئيس وسياساته على أرض النص الدستورى ذاته وفى الأطر القانونية الملزمة.