تعريف النّظم الديمقراطيّة
يُقصد بالنّظم الديمقراطية، الدّول التي اختارت منهاجا ونموذجا لممارسة الحكم فيها الديمقراطية، فجعلت منها المبدأ الدستوري الأساس الذي تسير وفقه السلطات السياسية والذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم أي بين السلطة السياسية المحتكرة للقوة العامة والمواطنين الخاضعين لها. والديمقراطية التي تعنينا هي الديمقراطية الليبرالية (التحررية) أو ما عبّر عنها أيضا بالديمقراطية الغربية في مقابل الديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية الشرقية أو أيضا الديمقراطية الاشتراكية التي أفل نجمها في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وكانت سائدة في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والوسطى والتي ما زالت قائمة الذات في بعض الدول مثل كوبا وكوريا الشمالية وفييتنام والصين الشعبية ولم بدرجة أقل. على أن الديمقراطية الشعبية -منذ انهيار الإمبراطورية السوفييتية- لم تعد تنافس الديمقراطية الليبيرالية وصارت هذه الأخيرة سائدة بل صارت المرجع حتى في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامّة للأمم المتحدة، ناهيك أن لفظ الديمقراطية وحده، أي غير متبوع بنعت آخر، أصبح يدل على الديمقراطية الليبيرالية. وفي هذا السياق كتب، منذ سنة 1973م، الكاتب الإيطالي جيوباني سارطوري: (لم أتحدث إلا عن الديمقراطية الغربية، ذلك أنه من وجة نظري لا يوجد غيرها ولا أظن أنه يمكن الاكتفاء باسم لإضفاء صفة الديمقراطية)(2). وتقوم الديمقراطية حول مفهوم الحرية، وما نعتها بكونها ليبيرالية إلا رمز لفكرة الحرية. فلفظ ليبيرالية مشتق من لفظ الحرية باللغة الفرنسية وباللغة الإنجليزية. وقد عبّر عن هذا المعنى أحد أكبر منظري الديمقراطية وهو الفرنسي ألكسيس دي توكفيل مؤلف الكتاب الشهير (الديمقراطية في أمريكا)، عندما كتب: (إن عبارات الديمقراطية والحكومة الديمقراطية تعني شيئا واحدا إذا أخذنا بعين الاعتبار المعنى الحقيقي للألفاظ: إنها الحكومة التي يأخذ فيها الشعب قسطا كبيرا، فمعناها متصل اتصالا لصيقا بفكرة الحرية السياسية)(3). فما هي شروط وجود نظام ديمقراطي وما هي قواعد تنظيم السلطات فيه؟ أ – شروط وجود النظام الديمقراطي لا بدّ لوجود نظام ديمقراطي من توفر عدد من الشروط، يمكن حصرها في ثلاثة وهي شروط اقتصادية وشروط سياسية وشروط اجتماعية. 1– الشرط الاقتصادي مثلما تقدم، يتمحور النظام الديمقراطي حول فكرة الحرية ولا بدّ من ضمان هذه الحرية وحمايتها على جميع الأصعدة بما فيها الاقتصاد. لذلك فإن من شروط استتباب النظام الديمقراطي تحقيق الليبرالية الاقتصادية (أو التحرر الاقتصادي)، أي حرية المؤسسات الصناعية وحرية التبادل التجاري. فاقتصاد السوق من مستلزمات الديمقراطية وتاريخيا اقترن تطور النظم الديمقراطية بتطور نظام السوق ونظام المنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين. على أن اقتصاد السوق الكامل لا وجود له في الواقع كما إن الديمقراطية الكاملة لا وجود لها. فتدخل الدّولة لا مناص منه، لكنه تدخل الهدف منه تعديل المنافسة وتجنب وجود الاحتكار وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية لتجنب الصراع الطبقي. 2– الشروط السياسية إذا كانت الحرية أساس العلاقات الاقتصادية في النظم الديمقراطية، فمن باب أولى وأحرى أن تكون هي مدار العلاقات السياسية. فعلى الصعيد السياسي لا يمكن الحديث عن ديمقراطية بدون تعددية سياسية من ناحية وبدون تحرر سياسي من جهة أخرى. فالديمقراطية تفترض الاختيار بين العديد من الرؤى والنظريات وحق كل فرد في تقرير مصيره بنفسه دون وصاية ولا إكراه. وعلى هذا الأساس فإن الديمقراطيات تتميز بنسبية الحقيقة ولا يمكن لأي كان الادعاء بأن تصوره السياسي هو الحقيقة وأن كل ما خالف ذلك باطل وخطأ. ويستنتج من هذا المنطلق الإبستمولوجي، أنه لا وجود لفكر رسمي أو لإيديولوجيا رسمية لا يمكن الزيغ عنها وأن حرية تكوين ونشاط التجمعات السياسية مسموح به دون قيد ولا شرط. بل أكثر من ذلك، إذ يجب التعبير والإفصاح عن جميع الآراء والنظريات ويتعين على الدولة أن توفر لأصحابها وأنصارها وكل من أراد الإصغاء لها الظروف المثلى لبسطها وشرحها والدعوة لمناصرتها. وهذه التعددية الفكرية لا بد أن تترجم على جميع الواجهات: النقابية والفنية والدينية والتربوية والفلسفية الخ، فلا وجود لحقيقة رسمية، بل توجد أغلبية مؤقتة. فالتعددية إذا تفترض المساواة بين الأفكار مهما كانت طبيعتها وهذا يؤدي إلى مبدأ جوهري في كل نظام ديمقراطي وهو مبدأ حياد الدولة. فالدولة باعتبارها الإطار الذي يجمع الكافة مكلفة بحماية التعددية وتوفير الضمانات لممارستها وقد نتج عن هذا عدد من الحريات العامة نتعرض لها فيما بعد. كما إن الديمقراطية تفترض التحرر السياسي أو الليبرالية السياسية، وهي عبارة عن موقف سياسي الهدف منه الوقوف في وجه جميع أشكال الإكراه والإجبار. وقد ظهرت نظرية التحرر السياسي كردة فعل ضد النظام القديم الاستبدادي السائد في بريطانيا وفرنسا ووجّهت النقد أساسا للإكراه الديني. فالليبراليون، وعلى رأسهم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، ينادون بفكّ الارتباط بين الكنيسة والدولة ويدافعون خاصة عن حرية التعبير. من خلال ما تقدم يتبيّن لنا أن التحرر السياسي يقوم على مبدأ جوهري هو القيمة المطلقة للكائن الفردي. وتترجم هذه القيمة على المستوى السياسي بثلاثة ثوابت: - مشاركة جميع المواطنين في ممارسة السلطة (حق الانتخاب). - الاعتراف بالحريات (الأمن الفردي، حرية المعتقد، حرية عقد الاجتماعات، حرية تكوين الجمعيات... الخ). - المساواة (المساواة القانونية). 3– الشروط الاجتماعية زيادة على الشروط الآنفة الذكر، لا بدّ -لاستتباب النظام الديمقراطي وديمومته- من توفر عدد من الشروط الاجتماعية، أي من الشروط التي تتعلق بالمجتمع المدني وبالعلاقات بين الأفراد والمجموعات داخل المجتمع. فالليبرالية لا تنفي التركيبة الطبقية للمجتمع ولا تعترف بتصارع الطبقات، على أنه يتعين على الدولة أن تحافظ على مستوى مقبول من الاختلافات الطبقية وأن تسعى؛ لأنّ تكون الطبقة الوسطى طبقة الأكثرية. فمن مهام الدولة التقليص من الفروق الاجتماعية.