طرق تنظيم ممارسة الحريات العامة
باعتبار أن مسؤولية السهر على الحريات العامة وضمانها وحمايتها ملقاة على عاتق الدولة فانه لا مناص من خيارين: الخيار الأَوَّل: يفسح المجال لممارسة الحرية بدون أي شرط أو إجراء مسبق لكن هذا لا يعني أن الحرية مطلقة وأن ممارستها غير خاضعة لأي حد. فالحدود معينة بالقانون ومعلومة مسبقا وتجاوزها يؤدي إلى تسليط الجزاء. إلا أنه وفي صورة تسجيل تجاوزات لحدود الحرية كالاعتداء على حرية الغير، أو عدم احترام القانون، تلجأ الدولة إلى تسليط عقوبات جزائية وتسمى هذه الطريقة النظام الجزائي.فالرقابة في هذا النظام رقابة لاحقة ذات طبيعة قضائية. أما الخيار الثاني: فهو يضع شروطا وإجراءات سابقة لممارسة الحرية. فهذه الأخيرة لا تمارس إلا إثر إجراء رقابة سابقة ذات مرمى وقائي وتسمى هذه الطريقة النظام الوقائي والرقابة رقابة سابقة ذات طبيعة إدارية. والجدير بالذكر أن النظامين يمكن تطبيقهما معا في آن واحد حسب طبيعة الحرية محل التقنين. أما على الصعيد العملي، فان النظامين يؤديان إلى نفس النتائج. فالنظام الجزائي له آثار ردعية تثني عن تجاوز الحدود المقررة. فالهدف هو في آخر المطاف وقائي، واللجوء لإيقاع الجزاء يتعين أن يكون استثنائيا. وفي المقابل فإن النظام الوقائي تترتّب عن عدم احترامه آثار جزائية. واللجوء إلى هذا النظام أو ذاك مسالة تتحكم فيها اعتبارات عديدة على أنها تبقى أنظمة عادية. أما في الحالات غير العادية فهناك نظام استثنائي. أ- النظام الجزائي يتعين بداية عدم التأثر بظاهر العبارة التي قد يفهم منها أن هذا النظام صارم، تعسفي وجائر، يقيد مبدأ الحرية، بل هو أكثر النظم تحررا وأكثرها مطابقة لمستلزمات الحرية. والمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه هذا النظام هو ماجاء على لسان مندوب الحكومة لدى مجلس الدولة الفرنسي كورناي(6) سنة 1917م من كون أن(الحرية تشكل القاعدة والتقييد الإداري الاستثناء)(7). أما من الناحية العملية للنظام الجزائي، فإن اختصاص وضع حدود الحرية وقيود لها يرجع بالنظر إلى المشرّع نفسه الذي يجرم بعض الأفعال ويحجرها بقوانين سابقة الوضع غير رجعية، تعين بوضوح الجزاء المرتقب في حال الإقبال على المخالفة. وهذه الطريقة لها محاسن عديدة منها:
أولا: إعلام الشخص، فقبل ارتكاب الفعل يكون الشخص على علم يقيني بما ينتظره من عقاب. ثانيا: هذا النظام بجنب تدخل الإرادة ولا يجعلها رقيبة على الحرية. فممارسة الحرية غير مشروطة بالقيام بإجراءات إدارية بل تمارس مباشرة مع العلم بأنها مقيدة ولها حدود ثالثا: إذا تم تجاوز الحدود الموضوعة بصفة قانونية فان القاضي الجزائي هو المكلف بملاحظة المخالفة أولاً، وبإيقاع الجزاء ثانياً. رابعا: في تكليف القاضي الجزائي بهذا الدور ضمان للحرية. فالقاضي هو الحارس والحامي الطبيعي للحريات الفردية ولا يقضي إلا إثر محاكمة تكفل فيها جميع الضمانات الإجرائية وهي ضمانات مفقودة أمام الإدارة. خامسا: القاضي الجزائي لا سلطة تقديرية له في التجريم بل إنه خاضع لمبدأ شرعية المخالفات والعقاب ومن الحريات الخاضعة لهذا النظام في النظم الديمقراطية أغلب الحريات الأساسية مثل حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية المسكن التي لا تحتاج ممارستها القيام بإجراءات، لكن ممارستها بطريقة مخالفة للأمن العام والأخلاق الحميدة يفتح الباب للتتبعات القضائية. على أن النظام الجزائي رغم جعله المشرّع والقاضي رقيبين على ممارسة الحرية -وهذا في حد ذاته ضمان مهم، إذا علمنا أن المشرع والقاضي هما من بين أجهزة الدولة الحليفين الطبيعيين للحرية- إلا أن هذا الضمان قد يكون نسبيا، فالمشرّع هو في الواقع أغلبية سياسية أو حزب سياسي يملك الأغلبية في البرلمان ولا يمثل أحيانا إلا أقلية في الرأي العام. من أجل هذا لم تعد القاعدة القانونية تعبر عن الإرادة القومية التي لا يأتيها -حسب جنا جاك روسو- الباطل والتي لا تخطأ، بل أصبحت في الواقع إرادة فئة سياسية معينة لها نظرة خاصة للصالح العام وقد تنحرف بالسلطة التشريعية. ولذلك فلا مناص من إخضاعها لرقابة قضائية تسهر على مطابقة القوانين للدستور واحترامها للحريات وحقوق المواطنين. ويمكن تقديم احترازات أخرى حول النظام الزجري. فكما تقدم من ميزات هذا النظام تكليفه القضاء بمراقبة شرعية ممارسة الحرية. إلا أن هذه الميزة قد تنقلب مصيبة إذا لم يكن القضاء يتمتع باستقلالية فعلية ويمكن استخدامه لمآرب سياسية ولخنق الحريات والجور. من ناحية أخرى نلاحظ أن تحرر النظام الزجري يكون اشمل عندما تكون القيود من مشمولات القانون الجنائي العام ولا من مشمولات القانون الجنائي الخاص ففي هذه الحالة الأخيرة تكثر القيود والعقاب يكون أكثر قسوة. أخيرا لا بد من الإشارة إلى أن تحرر النظام الجزائي مرتبط إلى حد بعيد بمدى دقة تعريف المخالفة وتقييد السلطة التقديرية للقاضي وكذلك بالمحكمة المختصة التي يتعين أن تكون محكمة حق عام لا محكمة استثنائية لا ضمانات إجرائية أمامها. ب- النظام الوقائي يتضمن النظام الوقائي تحديدا وتقييدا مسبقين للحرية العامة من ذلك أن ممارسة الحرية مشروط بتدخل مبدئي لإدارة من اجل هذا فان النظام الوقائي يدخل في نطاق الشرطة الإدارية. وفي نطاق هذا النظام يمكن للإدارة الالتجاء إلى ثلاثة طرق: الإعلام المسبق، أو الترخيص المسبق، أو التحجير. 1- الإعلام المسبق الإجراء: يتعين على الشخص الذي ينوي ممارسة حرية ما إعلام السلطة العمومية قبل القيام بالنشاط المزمع عن طريق تصريح يوضح فيه موضوع وكيفية القيام بهذا النشاط. والمراد من القيام بهذا الإجراء هو إعلام الإدارة وتوفير إمكانيات المراقبة والحماية والوقاية أو حتى التحجير لها. ودور الإدارة في هذه الحالة دور تسجيلي لا غير، فهي تتلقى خبرا لا غير ولا يمكنها إجراء مراقبة ملائمة. فالإدارة لا تملك سلطة قرار بل هي تسجل الإعلام وتراقب توفر جميع الشروط المنصوص عليها في القانون وتسلم مقابل ذلك وصلا. والسؤال المطروح هو الآتي: هل إن الإدارة مجبرة قانونا على تسليم الوصل، ومعنى ذلك هل أن سلطتها مقيدة أم هل هي بالعكس سلطة تقديرية تمكن الإدارة من رفض تسليم الوصل أي الاعتراض وقائيا على ممارسة الفرد لحريته. في فرنسا طرح هذا الإشكال سنة 1971م فقد كونت الفيلسوفة سيمون دي بوفوار(8)والسيد ميشال ليريس(9)جمعية أطلقا عليها اسمّأصدقاء قضية الشعب)(10) إلا أن عميد الشرطة بناء على تعليمات من وزير الداخلية رفض تسليم الوصل بدعوى أن الجمعية مدمرة تتعاطى نشاطا إرهابيا. أمام هذا الرفض رفع المعنيان بالأمر القضية أمام المحكمة الإدارية بباريس، إلا أن هذه الأخيرة رفضت طلب تأجيل التنفيذ وأقر مجلس الدولة هذا الرفض استئنافيا بقرار صادر في 21 أكتوبر 1970م. إلا أن أصل الدعوى لم يقع التطرق إليها، إذ تعلق الأمر بطلب في تأجيل التنفيذ فقط وخلص مجلس الدولة إلى أن القرار المنتقد لا يتسبب في نتائج يستحيل تداركها. وفي مرحلة ثانية طرح أصل القضية وكان الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بباريس واضحا. فالإدارة -أمام إعلام مستوف لجميع الشروط القانونية- ليس لها إلا تسجل القيام بالإجراء وتسليم الوصول القانونية. فسلطتها إذا سلطة مقيدة. أمام هذا الموقف المبدئي للقضاء الإداري تقدمت الحكومة بمشروع قانون للجمعية الوطنية يرخص بمقتضاه للسلطة الإدارية تأجيل تسليم الوصل حتى إحالة المسالة على القضاء. إلا أن رئيس مجلس الشيوخ أحال القانون على المجلس الدستوري الذي قرر في 16 جويلية 1971م أن بعض مقتضيات القانون مخالفة للدستور وأن التنقيحات المدخلة على قانون 1901 مخلفة للمبادئ الأساسية التي ضمنتها قوانين الجمهورية. ب- الترخيص المسبق الترخيص المسبق هو أكثر الطرق صرامة(11). فممارسة الحرية غير ممكنة ما لم ترخص الإدارة في ذلك.وتؤدي ممارسة الحرية بدون رخصة الإدارة إلى تتبعات عدلية. ويمكن أن يؤدي هذا النظام إلى نسف الحرية من الأساس وإلى انعدامها أصلا. إلا أن صرامة النظام تختلف باختلاف السلطة المخولة للإدارة. ففي بعض الحالات تكون سلطة الإدارة سلطة شبه مقيدة وخاضعة لشروط دقيقة. وهذا النظام أكثر تحرّرا، مثال ذلك تسليم رخصة السياقة، فكل شخص يمر بامتحان لفحص مؤهلاته في السياقة وإذا اعتبر أهلا فإنة الإدارة مجبرة على تسليمه رخصة السياقة، ونفس الشيء بالنسبة لرخصة البناء، إذ الإدارة ملزمة بتسليمها إذا كان البناء المقترح مطابقا للمواصفات الإدارية. لكن السلطة التي تتمتع بها الإدارة تكون عريضة في أغلب الحالات حيث يمكنها تسليم أو عدم تسليم الرخصة وتتمتع بسلطة تقدير الملائمة وقد تضبط هذه السلطة شيئا ما والأمثلة عن هذه الحالات عديدة: (مثلا عرض الأشرطة السينمائية للعموم رهين الحصول على تأشيرة عرض قد تكون مشفوعة بشروط تتعلق مثلا بسن المشاهدين). وفي بعض الحالات يعتبر ملازمة الإدارة الصمت مدّة زمنية معينة ترخيصا لممارسة الحرية، أما رفضها فيتعين أن يكون صريحا ومعللا ويمكن الطعن فيه. ج- التحجير الوقائـي تتمتع السلطات العمومية بحق تحجير ممارسة نشاط ما إذا كان النظام العام مهدّدا ولو كان الإخلال بالنظام العام محتملا فحسب، وإمكانية لجوء الإدارة للمنع يكون أحيانا منصوص عليه صراحة من ذلك مثلا ما يتعلق بالاجتماعات العامة والمظاهرات والتجمهر حيث يمكن للسلطات المسئولة منع كل اجتماع عام من شأنه الإخلال بالأمن والنظام العام. وتجدر الإشارة أن لجوء الإدارة للمنع الوقائي ممكن حتى في غياب نصّ خاص يجيزه وتتمتع به جميع السلطات المسئولة عن حفظ النظام العام إزاء جميع الحريات على أساس مشمولات الشرطة الإدارية العامة. (انظر مجلس الدولة الفرنسي 18 ماي 1933م). د ـ النظام القانوني للحريات العامة في الحالات الاستثنائية يسلم الفقهاء وفقه القضاء أن النظام القانوني للحريات العامة قابل لتنفيذ خارق للقانون العام في حالات إستشنائية. والهدف من وضع القيود هو الحفاظ على أمن عام تدهور بصفة خطيرة وذلك بمضاعفة وسائل الزجر التي هي عادة بين أيدي السلط العمومية. ففي صورة حدوث أزمة حادة وخطيرة، ينعين على الدولة وأجهزتها المحافظة على السير العادي للمرافق العمومية أو إعادتها إلى سيرها العادي إن هي تعطلت. كما إن الإدارة مطالبة بضمان أمن الأفراد في أشخاصهم وأموالهم. وتختلف هذه القيود باختلاف الحالة وباختلاف السند القانوني الذي تقوم عليه. فمنها ما يستند لنص الدستوري (حالة الاستثناء) ومنها ما يستند لنص التشريعي (حالة الحصار وحالة الطوارئ) ومنها ما يستند لفقه القضاء (نظرية الظروف الإستثنائية). أ - القيود المؤسسة على الدستور (حالة الاستثناء) تخول بعض الدساتير لأعلى هرم السلطة ممارسة ما يمكن نعنه (بدكتاتورية دستورية)، إذ تمكنه في حالة خطر داهم مهدد لكيان الجمهورية وأمن البلاد واستقلالها بحيث يتعذر السير العادي لدواليب الدولة اتخاذ ما تحتمه الظروف من تدابير استثنائية. والهدف الأساسي لهذه المادة هو تجنب شلل السلط العمومية (مثل عدم إمكانية جمع مجلس النواب مثلا). وأوضح مثال في هذا الصدد هو المادة 16 من الدستور الفرنسي لسنة 1958م. فبمقتضى هذا النص يجمع الرئيس مؤقتا جميع السلطات أي السلطتين الترتيبية والتشريعية. ولإعلان حالة الظروف الاستثنائية لابد من توافر شروط موضوعية، ونعني بها وجود تهديد أو خطر يمس بسلامة الدولة ويمنع السير المنتظم للسلطات الدستورية، وشروط شكلية إذ يتعين على الرئيس قبل اللجوء للمادة 16 استشارة رؤساء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، والوزير الأول والمجلس الدستوري(12) إضافة إلى إعلام الأمة. ويتعين عليه أيضا استشارة المجلس الدستوري في كل الإجراءات التي يتخذها واستمرار البرلمان منعقدا. ومن آثار هذا النص الدستوري على الحريات العامة، تخويله لرئيس الجمهورية تعليق تدخل السلطة التشريعية لضبط النظام القانوني لممارسة الحريات. ومن ناحية أخرى ينتج عن هذا النص امتداد لسلطات الرئيس في ميدان الشرطة الإدارية. على أن الإجراءات المتخذة خلال فترة حالة الاستثناء تقع تخت طائلة الرقابة القضائية. فإذا كان قرار رئيس الجمهورية باستخدام المادة 16 محصنا ضد كل رقابة، باعتباره عملا سياديا، فإن الإجراءات المتخذة خلال فترة حالة الاستثناء إذا كانت تدخل في مجال السلطة الترتيبية قابلة للطعن بتجاوز السلطة(13). ومنذ صدور الدستور سنة 1958م، لجأ رئيس الجمهورية مرة واحدة لحالة الاستثناء، وكان ذلك في 1962م، تبعا للوضع السائد بالجزائر. ب - القيود المترتبة عن إعلان الطوارئ تعرف حالة الطوارئ تقليديا بكونها نظاما يقيد الحريات العامة يمكن تطبيقه بقانون على كامل تراب الوطن أو على بعضه فحسب ويمتاز بتوسيع في الصلاحيات العادية للشرطة المخولة للسلطات المدنية. والتدابير التي يمكن للسلطة الإدارية اللجوء إليها في حالة الطوارئ تتعلق أيضا بتضييق نطاق ممارسة الحريات، والاختلاف بين حالة الطوارئ وحالة الاستثناء يمكن في العناصر التالية. فإن كان لحالة الاستثناء سند دستوري وينتج عنها تعليق النظام الدستوري، فإن لحالة الطوارئ سند تشريعي وينتج عنها تعليق النظام التشريعي فقط، فلا ينتج عنها مثلا تغيير في توزيع السلطة التشريعية والسلطة الترتيبية مثل ما هو الشأن بالنسبة لحالة الاستثناء. من جهة أخرى فإن التدابير المتخذة على أساس حالة الاستثناء تعتبر أعمالا سيادية وهي لا تخضع إذا لرقابة القاضي الإداري في حين أن القرارات التي تتخذ بناء على حالة الطوارئ هي مقررات إدارية خاضعة للرقابة القضائية. إلا أن سلطة القاضي إزاءها أقل من سلطته أثناء الظروف العادية. ج - القيود المترتبة عن حالة الحصار تمتاز حالة الحصار بكونها نظاما قانونيا تعطّل بمقتضاه الحريات العامة الأساسية وتسند للسلطة العسكرية صلاحيات خاصة. كما تؤدي حالة الحصار إلى توسعة مشمولات المحاكم العسكرية. د - القيود المترتبة عن نظرية الظروف الاستثنائية برزت نظرية الظروف الاستثنائية للوجود في مطلع القرن 20 في فقه قضاء مجلس الدولة الفرنسي. والغاية من هذه النظرية التقليل من أثار مخالفة الشرعية وذلك بإضفاء الشرعية على أعمال مخالفة للقانون أو بالتخفيف من الآثار المترتبة عن مخالفة الشرعية. وفي هذا الصدد نلاحظ أن الظروف الاستثنائية لا تعفي الإدارة نهائيا من احترام الشرعية، بل إن جميع القرارات تبقى قابلة للطعن بتجاوز السلطة ويجتهد القاضي لتقدير مدى الملائمة والتناسب بين القرار وخطورة الموقف. هذا وقد عرفت هذه النظرية تطورات، ففي أول الأمر عرفت باسم نظرية الطوارئ (انظر قرار محكمة النزاعات المؤرخ في 2 ديسمبر 1902م) حيث قررت المحكمة إن الإدارة بإمكانها التنفيذ القهري في حالة الطوارئ. وفي مرحلة ثانية اختلطت نظرية الظروف الاستثنائية بنظرية سلطات الحرب (انظر مجلس الدولة 28 جوان 1918م). أما على صعيد الحريات العامة عرفت نظرية الظروف الاستثنائية تطبيقات عديدة، فالاعتداء المادي الذي هو عادة من اختصاص القضاء العدلي تنزع منه الظروف الاستثنائية الطابع الاعتباطي ويصبح عملا غير شرعي فحسب يخاضع لرقابة القضاء الإداري. وقد أقرت محكمة النزاعات بفرنسا هذا الحل في قرارها المؤرخ في 27 مارس 1958م حيث لم تعتبر إيقافا احتياطيا من أنظار محاكم الحق العام ولم تكيفه بكونه اعتداء مادي. وهكذا رغم ما تمثله الظروف الاستثنائية من خطر على الحريات العامة فإن إمكانيات المراقبة تتقلص كثيرا بل وتنعدم في بعض الأحيان. في نهاية هذا العرض الموجز لنظرية الحريات العامة في النظم الديمقراطية، وقد اعتمدنا بالأساس على النظام الفرنسي، مهد نظرية حقوق الإنسان والحريات العامة، نظرا لثراء فقهه وقضاءه في هذا الميدان، يتبين لنا أن الديمقراطية وحقوق الإنسان شقيقان ملتصقان لا يستقيم قيام أحدهما بدون الآخر. فكلما تعززت الديمقراطية تعززت الحريات وكلما تعززت الحريات تعززت الديمقراطية. على أن الحفاظ على الحريات والدفاع عنها تبقى مسألة مطروحة على الدوام حتى في أكثر الدول رسوخا في الديمقراطية. فالحرية مهددة دائما والتهديدات المحدقة بها تجدد كل يوم بفعل تطور التقنيات وبفعل الرهانات التي يتعين على الدول مجابهتها للدفاع عن أمنها واستقرارها. لذلك فإن المعادلة بين الحرية والسلطة محل تساؤل دائم ويبقى للمجتمع المدني والقوات الضاغطة مثل الصحافة دور هام لإحاطة الحرية بسور دفاعي ناجع قد تتجاوز أحيانا نجاعته نجاعة الآليات القانونية.