لا يكاد يخلو مقال أو خطاب يتعلّق بمسألة حرّيّة الفرد أو الجماعات دون التّذكير بالمادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر 1948م) والّتي نصّها (يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق). أضف إلى ذلك أنّه كثيرا ما نجد من المسلمين من يرجع أصل هذه المادّة إلى مجرّد اقتباس من المقولة المسندة إلى عمر بن الخطّاب: (متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا). ليس الغرض هنا هو التحقيق في مسألة الإبداع أو الاتّباع، فذلك أمر موكول إلى المغرمين (بفلسفة) تضخيم الأنا وإلى المتيّمين بذكرى ماض قد يكون مجيدا. كما أنّ هناكمقولات أخرى مشهورة، في هذا المجال، بيد أنّ ترديدها دون فهم لا يزيح غموضا ولا يرفع لبسا، مثل: (الحرية تنتهي دائما عندما تبدأ حريات الآخرين). فلئن برزت هذه المقولة مع فلاسفة العقد الاجتماعي في إطار منظومة فكريّة معيّنة، فإنّها تحوّلت الآن إلىشعار شائع الاستخدام إلى درجة أنّه أصبح بمثابة الحكمة أو القاعدة الّتي لا تخلو منها الخطابات السياسية ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، كما أصبحت تلوكها ألسنة العامّة في مقامها وفي غير مقامها. وهكذا اتّخذت صفة البداهة الّتي لا تحتاج إلى أيّ برهان أو إعادة نظر. ففي أتون هذه الجملة التّقريريّة تغيب الأسئلة المتعلقة بماهية الحرّيّة المتحدّث عنها، كما تذهل أمام سلطانها بعض العقول عن التساؤل حول الحدود (المرسومة) بين حرّيّة هذا وحرّيّة ذاك. وبعزل هذه المقولة عن إطار نشأتها والاكتفاء برفعها كشعار، حقّ لنا أن نتساءل عن جدوى إدراجها ضمن البديهيات. فعلى أيّ مفهوم للحرّيّة ترتكز ترديد هذه القاعدة/البداهة؟ فهل يعني ذلك أنّ حرّيّة الفرد تنجم عنها فوضى عامة نتيجة تعارضها مع النظام والأمن وصيانة الحق العام وحقوق الآخرين؟ ثمّ كيف تتحقّق صيانة الدّين أو المصلحة العامّة أو وحدة مجتمع يتألّف من أفراد غير أحرار وغير قادرين على الاختيار واتخاذ القرارات بأنفسهم؟ وما هو رصيد هذا الشعار من الواقعيّة حين نتناول مسألة حرّيّة الاعتقاد وحرّيّة التنقّل وحرّية اختيار الأصدقاء وغيرها من الحرّيات الّتي لا صلة لها بالمساس بحرّيّة الغير؟ ألسنا هنا إزاء حكم معياري لا صلة له بالواقع؟ للإجابة عن هذه الأسئلة ووضعها في إطار الحديث عن الحرّيّات الفرديّة، حريّ بنا أن نعيد النّظر، أوّلا، في بعض المفاهيم المتعلّقة بمسألة الحرّيّة، وهو ما يسمح لنا، ثانيا، برصد نشأة هذا المصطلح وسيرورته عبر التّاريخ؛ لكي نتساءل في نهاية هذه الدّراسة عن مدى مطابقة النّظريّات الّتي تناولت هذا الموضوع بالواقع المعيش. البعد المفاهيمي لمسألة الحرّيات الفرديّة إذا تناولنا مسألة الحرّيات الفرديّة من ناحية نظريّة صرفة، فإنّنا قد نصطدم بكمّ من التّعريفات لا طائل من ورائها سوى رسم جدول يضمّ أسماء الفلاسفة الّذين بحثوا في هذا الموضوع،هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يؤدّي بنا الأمر إلى الاكتفاء برصد تقاطع وتنافر آراء هؤلاء. لا مراء في أنّ الزاوية النّظريّة للمسألة ذات أهميّة بالغة، إذ يعتبر الجانب النّظري أساسا للتّفكير في ما هو عملي. لكنّ حصر المسألة في هذا الجانب يؤدّي بنا حتما إلى الوقوف على ما يجب أن يكون وليس على ما هو كائن بالفعل. ولعلّه من المفيد أن نشير هنا إلى وجود سلسلة من (المبادئ) الّتي تمّ البحث من خلالها في مسألة حرية الإنسان من النّاحية النّظريّة. فهناك البواعث التي تدفع الإنسان إلي ممارسةِ عملٍ معين، ثمّ تليها الإرادة التي تنظر في هذه الدوافع لتقررَ اتّباعها من عدمه، يأتي بعدها القرار الذي يتم بعد أن تنظر الإرادة في الباعث، ثمّ يترجم القرار إلى الفعل الذي يخضع بدوره إلى الظروف والوسائل التي تحيط به عند حدوثه وهكذا...وتخطّيا لهذا الإشكال، يمكننا أن نكتفي ببعض الأمثلة. بادئ ذي بدء، حريّ بنا أن نذكّر بأنّ المفاهيم لا تظهر عادة من عدم، بل تعود إلى بروز ظواهر لغرض الدلالة عليها. وبناء على ذلك فإنّ مفهوم الحرية لم يولد بصورة مستقلة كتعبير يعكس حالة قائمة في الواقع الاجتماعي وإنّما أثير لتمييزه عن حالات مضادّة. وإن لم يكن ذلك كذلك فلا يمكن اعتبار أيّ شخص حرّا إذا كان جميع الناس يشتركون في صفة الحرية. فوفقاً لمعايير الخير والشرّ يعتبر سقراط (ت 399 ق.م) أنّ الحرية تقوم على فعل الأفضل. فهي تعني إذن قدرة الإنسان على تحديد تصرّفاته بنفسه تبعاً للرّؤية الّتي يتبنّاها فيختار بين الأخلاقي واللاّأخلاقي. وهو أمر غير مستطال إلاّ بالمعرفة والعلم فهما كفيلان بمنح القدرة على التمييز والاختيار، في حين يبقى الجهل مناقضا لما يتطلبه العقل ورديفا للعبوديّة. فالإنسان –حسب سقراط- (ليسشريرا بطبعه بل ينجم الشرّ عن نقص لديه في المعرفة. فالمعرفةطريق يؤدّي إلى الحقيقة، والحقيقة سيدة مطلقة تأبى لمن وصل إليها أن يعودإلى عبودية الأهواء والنزوات)(1). وانطلاقا من تقسيم الوجود الإنساني إلى وجود حقيقي، في عالم المُثُل حيث عرفت روح الإنسان كنه الحقائق، ووجود وهمي، في العالم الأرضي، يرى أفلاطون (ت 347 ق. م) أنّ الحرية (هي انطلاقة الإنسان نحو كماله دون عوائق أو حواجز مرتبطة بشوائب الأرض والجسد)(2)، وأنّ النفس -بحكمةالنظر والتأمل في الحقائق الأبدية- (تستطيع أن تنفصل عن الجسم وترتقي نحو الوجود المطلق)(3). ولا يتأتّى ذلك -حسب رأيه- إلاّ لمن كان حرا بحكم متابعته الحكمة. من خلال هذين التّعريفين، نشير إلى أنّ الحريّة كما يراها كلّ من سقراط وأفلاطون مرتبطة بمرحلة متطورةفي سلوك الإنسان يعسر أن يوجد من يرتقي إليها فضلا عن كون هذين التّعريفين لا يخلوان من تبنّ لنخبويّة سائدة في المجتمع اليوناني القديم (سنعود إلى تفصيل هذه المسألة). أمّا أرسطو (ت322 ق.م) فإنّه يعتبر التأمّل أعلى صورةللنشاط العقلي وبالتالي ضامنا للحرية(4)، وبذلك فإنّ فئة معيّنة كذلك هي التي تختصّ بهذه الطّاقة المحرّرة. وطبقا لمنطق المقابلة بين الشيء ونقيضه تذهب المدرسة الأبيقوريّة(5) إلى أنّ العبوديّة ناتجة عن الانصياع إلى فكرة تدخلالآلهة في شؤون العالم وبالتّالي فهي مرتبطة بالجهل والخرافات. أمّا الحرّية فإنّها تخصّ الإنسان المتحرّر من مخافة الآلهة والباحث عن السعادة الّتي لا مجال لبلوغها إلاّ عن طريق الاستجابة إلى الرّغبات. فالإنسان الحرّ إذن هو الّذي يسعى إلى تحقيق رغباته الطبيعية باعتبارها ضرورية للمحافظة على صحة الجسم وعلىطمأنينة النفس. من خلال هذه التّعريفات يظلّ مفهوم الحرية معياريّا ومطلقا شأنه شأن ما يقابلها من التّعريفات المتعلّقة بانعدام الحرّيّة. كما نلاحظ أنّ هذه المقولات أحاديّة المنحى إذ تختصّ الحرّية إمّا بالمفكّر دون الجاهل أو بالمنقاد إلى القدر دون غيره أو بالمستجيب إلى الشهوات دون العازف عنها. وهو ما يفسّر -إلى حدّ ما- الخلط بين مفهومي الحرّيّة والتّحرّر. فإذا كانت فكرة الحرية مسألة ميتافيزيقية كماذهب إليه كلّ من هوبز(1588-1679) وروسّو (1712-1778)، وإذا كان شأنها شأن الكثير من الكلمات الملتبسة التي تختلف معانيها عند الناس، فإنّ التّحرّر يرتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على اتخاذ قرارٍ بعينه بعد الاختيار بين قرارات متعددة. وبناء على ذلك يرتبط التحرّر بالوعي وبالإرادة. فالفعل الّذي لا أثر فيه للوعي أو للإرادة يعطي صورة واهمة للحرية. ومن ثمّ فإنّه كلّما تطوّر وعي الإنسان وكلّما ازدادت لديه القدرة على التمييز والاختيار، كلّما ازداد تحرّره. فبقدر ما يظلّ مفهوم الحرّيّة مبحثا مثاليّا، بقدر ما يمثّل الفعل التحرّري سيرورة دائمة وعمليّة عود على بدء يكون فيها الفرد ضامنا فاعلا للانعتاق من كلّ القيود الّتي ما فتئت تعوق حركته نحو حرّيّة يتوق إليها. وبذلك يتميز مبحث التحرر بمحاولة تخطي كل ما يكبّل إرادة الإنسان ويمنعه من التعبير عن ذاته، بوصفه كائنا اجتماعيا ثقافيا وليس كائنا طبيعيا. وهو ما يجعلنا ندرك تقاطع أهداف التحرر رغم تعدّد مستوياته. فقد ربط (قاليلي) تحرر الإنسان بتحرير العقل، وذلك بإبراز سلبيات التفسير الأسطوري وإخضاع وجود الكون إلى تفسيرات تعتمد الرياضيات والفيزياء أساسا. أما هيجل، فإنه يهدف -في إطار فلسفة التاريخ- إلى تحرير العقل المستلب(6). كما استثمرت الفلسفة الماركسية الديالكتيك الهيجلي للتّركيز على تحرير الطّبقة الشّغيلة من هيمنة الاقتصاد الرّأسمالي(7). في حين يحصر (نيتشه) التحرر في القطع مع الميتافيزيقيا وإعلان (موت الإله)(8). وعبر صراع (الأنا الأعلى) و(الرغبات المكبوتة) يرى (فرويد) أنّ التحرر يبدأ من المستوى الداخلي للفرد(9). كما يلحّ معظم علماء الاجتماع على اعتبار التحرر مصطلحا اجتماعيا، يتناول مشاكل التخلف والتبعية ويطرح سبل تجاوز هذه الوضعية بالاعتماد على إرادة الشعوب التي تحاول القطع مع أسباب تهميشها. أما محور اهتمام الفلسفة السياسيّة، فيتمثل أساسا في التحرّر من ضغط الأنظمة الاستبداديّة. فانعدام العدالة وممارسة الاستبداد وإشاعة الظّلم والحرمان من ممارسة الحقوق الطّبيعية، كلّها عوامل تجعل الإنسان يحسّ بأنّ الأسر يحيط به من كلّ جانب. لكنّ هذه التّعريفات -مع ما تحتويه من تقاطع وتنافر- تظلّ منقوصة إذا لم نعد إلى البدايات الأولى لظهور هذه المفاهيم وتقصّي أسباب إثارتها ورصد سيرورتها عبر التاريخ. الحرّيات الفرديّة بين فكّي الملكيّة الخاصّة ومخالب السّلطة الدّينيّة لئن لا يزال البعض يعتقد أنّ الإنسان (البدائي) كان يعيش حياة البساطة والحرّيّة المطلقة، فإنّ هذا الاعتقاد لا يعدو أن يكون مجرّد فكرة لا تخلو من (رومانسيّة) ناتجة عن تصوّرات افترضها الخيال لتحديد بداية الاجتماع البشري. ذلك أنّ الإنسان -حتّى قبل تمدّنه- ينتمي على الأقلّ إلى مؤسّسة العائلة الّتي ينحدر منها ويلتزم -طوعا أو كرها- بما يمليه هذا الانتماء. فالاجتماع البشري لم يكن طفرة أو وليد الصدفة بل كان نتاجا لحاجته الفطريّة إلى الحياة ضمن المجموعة، وهو ما يفسّر قول ابن خلدون: (الإنسان مدنيّ بالطبع)(10). فلا يمكن الحديث إذن عن حرّيّة طبيعيّة أو فرديّة لإنسان منعزل لا تربطه صلة بأخيه الإنسان. ولعلّه من المفيد هنا أن نبرز أهميّة الرّجوع إلى أمثلة من تاريخ الحضارات القديمة محاولة منّا إلى تقصّي مواطن القطيعة والتّواصل بين القديم والحديث.فقد سجل التاريخ أنّ مفهوم الحريّة في الحضارات القديمة المعروفة كالبابلية واليونانية مرتبط بنقيضه،أي العبوديّة. فما هي أسباب هذا التّصنيف المبكّر للفئات البشريّة؟ وما هي حظوظ حضور صورة الإنسان/الفرد في تلك العصور؟ إذا بحثنا عن الأسباب التي كانت وراء التغييب المبكّر لحرّيّة الإنسان/الفرد، نذكر عاملين أساسيين: ظهور الملكيّة الخاصّة واستعمال الدّين لتبرير استعباد الإنسان. فمع اكتشاف الزّراعة وحيازة الأراضي ومحاولة الاستئثار بمنابع المياه، ظهرت الملكيّة الخاصّة ونشأت معها نزعات الجشع والمنافسة وعدم المساواة. فانقسم النّاس إلى أصحاب أملاك وإلى عمّال لديهم. وحينئذ أدرك أصحاب الأملاك ضرورة (تأصيل السّلوك الاستيلائي) بإحداث قوانين تكرّس اللاّ مساواة وتدعّم هيكلة المجتمع. وكان لظهور السّلطة الدّينيّة دورا بالغا في بداية مأسسة الاجتماع البشري وتغييب أهميّة القدرات الفرديّة الكفيلة بصيانة خصوصيات وخيارات الشّخص. فتبعا لتفاوت الثروات، ينقسم مجتمع بلاد الرافدينإلى ثلاث طبقات دون أن يشمل هذا التقسيم طبقة الملوك ورجال الدين، فهؤلاء يمثلون الطبقة الحاكمة التي تحتل القمة. تتسنّم طبقة الملاّك الزراعيّين وكبار التجار أعلى السّلّم الاجتماعي، تليها الطبقة المتوسطة المتكوّنة من أنصاف الأحرار من العمّال ومن ذوي الدّخل المحدود مثل صغار الجنود. وفي أسفل السّلّم نجد طبقة الأرقاء الّتي تمثّل نتاجا للصّراع من أجل المحافظة على الملكيّة الخاصّة أو الرّغبة في توسيعها. فلئن كانت الحروب أهم أسباب الرّقّ - كما هو الحال في غالبية المجتمعات القديمة - فإنّ الفقر والحاجة إلى المال يضطرّان بعض الآباء إلى بيع أولادهم. كما أنّ عدم الوفاء بالدَيْن يمثّل سببا آخر من أسباب الرق. فإذا حل موعد استحقاق الدَيْن ولم يقم المدين بالسداد يصبح عبدا لدائنه كما أنّ للدّائن الحقّ في أن يبيع زوجة المدين وأولاده كعبيد لمدة معلومة حددها قانون حمو رابي بثلاث سنوات(11). ووفقا لمقاييس الثروة وعراقة النّسب،ارتبطت الحريّة عند اليونان بالمواطنة الّتي يختصّ بها عدد قليل من المتساكنين والّتي تخضع إلى شروط تجعلها صعبة المنال.فحسب (تقاليد) مدينة أثينا، يعتبر مواطنا من كان مالكا ملكيّة تامّة لعقارات لا يشاركه فيها أحد، كما يجب أن يكون ابنا لأب مواطن ولأمّ يكون أبوها مواطنا. وتبعا لهذه الشّروط، لا تعتبر المرأة مواطنة كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الغريب - أي الأجنبي عن المدينة الّتي يقطنها- كما هو الشأن بالنّسبةإلى العبد الذي يعتبر بمثابة الآلة. وفي نفس هذا الإطار يذهب أرسطو إلى الاعتقاد بأنّ الطّبيعة هي الّتي أرادت أن يكون النشاط الفكري امتيازا يختصّ به المواطن الحرّ في حين يكون العمل البدني منافيا لكرامة الحرّ فيبقى من مشمولات العبد(12). ولم تقتصر ممارسة الاستحواذ على ما هو مادّيّ فحسب، بل امتدّت إلى مشاعر النّاس وإلى معتقداتهم. فإذا اعتبرنا أنّ عدم القدرة على سبر أغوار الطبيعة وما وراءها قد دفع الإنسان إلى الخضوع إلى ما تمليه آلهة قد خلقها مخياله وجسّدها بنفسه في أصنام صنعتها يداه، فإنّ ظهور طبقة رجال الدين والسحرة يمثّل أولى الخطوات نحو مأسسة الدّين وإرساء الوساطة بين الإنسان ومعبوده وبالتّالي تغييب استقلاليّة الفرد ومحو حرّيته الطّبيعيّة. ولم يكن رجال الدّين وحدهم يلعبون دور الوساطة هذا، بل شاركهم في ذلك رجال السّياسة أيضا. فلا غرابة إذن حين نجد كلاّ من المعبد والقصر يقرّران معا واجبات الإنسان المتلخّصة أساسا في خدمة السّلطتين. والجدير بالذّكر أنّ احترام الناس لما سمّي بالواجبات لا يعدّ خوفا من الجزاء المقرر الّذي تنصّ عليه هذه القوانين، وإنمّا لاعتقادهم أنّها إمّا صادرة عن الآلهة أو رضوخا منهم لأوامر الملوك بحكم صلتهم المباشرة بهذه الآلهة. فإذا كان الاعتقاد السّائد في بلاد الرّافدين أنّ الإله (شمش) هو الّذي ألهم حمّورابي صياغة أوّل قانون مكتوب عرفته البشريّة، فإنّ الإله (زوس) -المتربّع على قمّة الألمب- يعتبر ربّ الأرباب ومصدر تشريعات اليونان القديمة. وخلافا للفراعنة -حيث كان الملك نفسه هو الإله- فإنّ الماسك بزمام السّلطة السّياسيّة في بلاد ما بين النهرين يمثّل الوسيط بين الآلهة والناس. وبحكم هذه الوساطة، فهو القاضي الأعلى، وهو من تجب طاعته على الجميع إذ أنّ مسؤوليته مباشرة أمام الآلهة الّتي لا ينال رضاءها من تصرّف ضدّ ما يمليه الملك. وهكذا فإنّ بين الثّروة والعراقة علاقة وثيقة دعّمتها المعابد الّتي لعبت دورا مهمّا في الحياة الاقتصادية للبلاد، حيث كانت للآلهة أملاكها الخاصة وعبيدها ومخازن غلالها. وقد تكونت هذه الأملاك مِمَّا كان يقتطعه كبار الملاك للمعابد أو ما يقدّم إليها من هبات طلبا لرضاء الآلهة أو رغبة في الوجاهة. ولا يختلف الأمر كثيرا عند اليونان حيث تعتمد المدينة في وحدتها و(انسجام) أعضائها، إلى حدّ كبير، على الطقوس والشعائر الدينية. ويعتبر الملك رئيسا دينيّا يقدم باسم الشعب القرابين للالهة ويشرف بنفسه على إقامة الطقوس والمراسم الدينية. وبهذه الطّريقة، يكون هو صلة الوصل بين الشعب والالهة. وكانت هذه القداسة الّتي (وهبتها) الآلهة للملك وراء احتكاره لجميع السّلطات. فالملك هو المشرّع وهو الذي يفصل الخلافات الناشبة بين رعاياه وهو القاضي بالأحكام كلها وصاحب السلطة العسكرية. وبما أنّ هذه الصلاحيات مستمدّة من زوس، فأنّى للفرد أن يتمرّد على أيّ حكم من الأحكام؟ وأنّى له أن يميّز بين العادل منها والجائر؟ وأنّى له أن يخالف أمرا دبّرته الآلهة صغارا كانوا أم كبارا؟ ولعلّنا نجد إجابة عن هذه التّساؤلات عند الرّواقيين(13). إذ يرتبط مفهوم الحرية حسب هذا المذهب الفلسفي بالمبدأ الإلهي الذي يعتبر قوام حقيقة العالم ومصدر (القانون) الّذي لا يمكن خرقه. ويتمثّل هذا القانون في ما يسمّى القدر الّذي يعرّفه زينون بقوله: (إن القدر هو العقل الكلي من حيث أنه علّة الأشياء كلها، ومن حيث أنه يحدث الترابط بين العلل الجزئية كلها وهذا الترابط يتحكم بالحاضر والماضي والمستقبل)(14). ومن ثمّ فإنّ الحرية الفرديّة لا تتجاوز كونها رضوخا إلى القدر. ولم تشذّ حضارة الرومان عن الحضارتين الآنفتي الذّكر في النّظر إلى الدولة باعتبارها كيانا مقدّسا لا يجوز محاسبتها. ولا تختلف عنهما كذلك في هيكلة المجتمع استنادا إلى عراقة النّسب والثّروة. فإذا كان العبيد يوجدون في أسفل السّلّم الاجتماعي -هذا إن لم نأخذ بعين الاعتبار أنّهم من الأملاك- فإنّ المواطنين الأحرار ينقسمون إلى أربع طبقات: طبقة النبلاء وهم كبار الملاّك بحكم انحدارهم من سلالة الآلهة، وطبقة صغار ملاك الأراضي ثمّ طبقة الصناع وهم الذين يعملون في (ورشاتهم) الخاصّة ثمّ طبقة الفقراء المتألّفة من العاملين في المهن اليدوية من زراعة وصناعة. ويمكننا إجمال نتائج تغييب الحريات الفرديّة،خلال العصور القديمة، في مسائل ثلاث وهي اللاّمساواة والتقيّد بما يفرضه العرف الاجتماعي السّائد وشعور الإنسان بأنّه دائم الحاجة إلى قوّة خارجيّة تضمن حمايته. فإذا كانت الثروة وعراقة النّسب أساسا ينبني عليه التقسيم الهرمي للمجتمع، فإنّ صورة الإنسان/ الفرد مغيّبة نظرا لتبعيّة يفرضها انتماؤه إلى الطّبقة الاجتماعية وتظلّ هويّته تابعة لها وحرّيته مقيّدة بما يفرضه هذا الانتماء القسري من أعراف وقوانين. وبقي الأمر على حاله في فترة العصور الوسطى، فتواصل تقديس الحكام حيث استمدّوا مكانتهم من ترويجهم لفكرة أنهم ظل الله على الأرض وأنّ سلطتهم متأتية من الله مباشرة. وهو ما كان له الأثر المباشر في جعل سلطان الحاكم مطلقا دون حدود أو ضوابط. وهكذا ظلّت حرّيّة الإنسان/الفرد كما كانت عليه في العصور الغابرة. وممّا زاد الأمر تعقيدا هو بروز الكنيسة في ثوب المالك المتحكّم في أموال النّاس وعقائدهم. إذ شهد العالم الغربي، خلال هذه الحقبة التّاريخيّة، اختلاطا كبيرا في الاختصاصات وفي امّحاء الحدود بين الدّيني والسّياسي. فلم يعد ما لله منفصلا عمّا لقيصر(15)، بل أصبح ما لله خاضعا لإرادة التّاج والكنيسة معا، وأصبح ما لقيصر متنازعا فيه بين السّلطتين. ودون أن ننفي حركة المدّ والجزر بين الدّيني والسّياسي في تحلفاتهما أحيانا وصراعهما أحيانا أخرى، فإنّ الإنسان/الفرد أصبح خاضعا إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي أُطلق عليه اسم (النظام الإقطاعي) بمقتضاه يتمّ توزيع الأراضي في المملكة الإقطاعية على الأمراء من قبل الملك في شكل إقطاعات مقابل التزامات مالية. ويقسم الأمير بدوره المقاطعة إلى إقطاعات أصغر مساحة بين أفراد طبقة السّادة الإقطاعيين نظير التزامات يتكفّلون بها. ويتفنّن هؤلاء في استغلال الفلاحين الذين يرتبطون بالأرض ويعتبرون جزءا منها ويخضعون لإرادة هؤلاء السادة الإقطاعيين(16). ولمّا كان الحرص على الثروة والسّلطة معا من مميّزات عصر الإقطاع في أوروبا، فإنّ حرية الفكر تعتبر من أخطر الوسائل المهدّدة للنّظام القائم. وهو ما جعل الكنيسة تشدّد الخناق على كل من يخالف معتقداتها أو ينتقد تبنّيها للمنهج الاقتصادي المرتكز على مبدإ الإقصاء. ففي القرن الثالث عشر، أقيمت مؤسسة للشرطة وللقضاء لتصفية الهراطقة، كما كانت (محاكم التفتيش) سلاحا مرفوعا في وجه الحركة المعادية للإقطاعية وضد سائر أشكال الفكر المعادي لما رسمته الكنيسة(17). فلمّا صنف كوبرنيكوس (1473- (1543 كتابا في حركة الأرض ومركزية الشمس، صدر الحكم بتكفيره وتكفير من يقرأ الكتاب. وكان ذلك مصير جاليلي (1564- (1642 حين أيّد ما اكتشفه كوبرنيكوس وحين دافع عن فكرته المتعلّقة بدوران الأرض، إذ تمّ تكفيره ثمّ مات في السجن(18). وهكذا ظلت الهوة تتعمق شيئاً فشيئاً بين الكنيسة والمجتمع في الوقت الذي تزداد فيه علاقة رجال الدين بالسلطة الزمنية متانة أصبح بمقتضاها الهجوم على الإقطاع هجوما على الدّين. وظلّ الأمر على حاله حتى بعد عصر الإصلاح الديني الذي مهّد له كلّ من هاوس(19) (1369 1415- وجيروم(20) (1360-1416) وبلغت مداها مع لوثـر (1483-1546 وكالفن (1509-1564. وظلّت أغلب الأوساط الكنسية تعتبر كل رأي مخالف، انتهاكا لقدسية الوحي وتآمرا على اللّه. مِمَّا جعل بعض المفكرين ينكرون الدين في مجمله. فتعرضت المسيحية إلى هجومات شديدة بلغت مداها مع الثورة الفرنسية (1789) ولعلّ فولتر (1694-1778 يعدّ من أكبر المفكّرين انتقادا للأديان باعتبارها ترتكز على الخديعة(21). ولمّا كان الدّين حليفا للاستبداد باسم القدر الإلهي، أصبح نفور الناس منه أمراً مألوفا راجت معه فلسفة موت الإله الّتي أكد نيتشه 1844-1900) على أهميتها في تحرير الإنسان من الخرافة ومن الجهل(22). ولعل هذا معنى ما انتهى إليه ماكيافيللي حين قال: (نحن مدينون للكنيسة بما صرنا إليه من إلحاد)(23). وهكذا أصبح التّحرّر مرتبطا بمدى تخلّص الإنسان من المعتقدات الدّينيّة. وقد دعّم انتشار الفلسفة الماركسية الجرأة لدى الكثيرين على نقد الدين أو أشكال فهم تعاليمه وتطبيقها. ومن هذا المنطلق تتحقّق حرّية الفرد عبر تجاوز أوهامه وعبر تكييفه لواقعه بصفته إنسانا (وعندها يتحول نقد السماء إلى نقد الأرض ونقد الدين إلى نقد الحقوق ونقد اللاهوت إلى نقد السياسية)(24). ولم تحدث (الثورة الصناعية)(25)، الّتي شهدتها أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تغييرا يذكر في ما يخصّ الحرّيات الفرديّة. فرغم أهميّة هذه الثورة -الّتي انطلقت من إنجلترا لتنتشر في بقية دول أوروبا الغربية- فإنّها قضت شيئا فشيئا على العمل اليدوي وتلاشت معها حرّية الفرد في كسب معاشه، فتراجعت المعامل الحرفية الصغيرة والصناعات المنزلية لتحل محلها المصانع الضخمة بآلياتها وعدد عمالها. ونتيجة لهذا الانتشار الكبير للصناعة برزت طبقة عمّالية تشتغل في ظروف قاسية مثل طول ساعات العمل مقابل الأجر الزهيد. وبذلك ازداد تهميش صورة الإنسان/الفرد استفحالا. ولئن كان لها الفضل في الازدهار الاقتصادي، فإنّ استغلال الثّورة الصّناعيّة استغلالا خاطئاً كان وراء اغتراب الإنسان الّذي أصبح -أكثر من أيّ وقت مضى- متماهيا مع الآلة. الحرّيات الفرديّة بين سلطة القانون وقانون السّلطة لئن كان لمصطلح العقد الاجتماعي وجود كامنا فيالفكر الإنساني منذ القدم، فإنّ بداية دراسته وبلورته في شكل (نظرية علمية) كانت في القرن السابع والثامن عشر.فقد دعا بعض المفكّرين خلال هذين القرنين إلى إقامة نموذج جديد للنّظام الاجتماعييقوم على فكرة عقد يضمن حرّية الفرد وأمنه واسقراره وهو ما يعرف باسم (العقد الاجتماعي). ومن أبرز مفكري هذه النظرية توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704) وجان جاك روسو (1712-1778) ومونتيسكيو (1689-1755) وفولتير (1694-1778). لعبت فلسفة هوبز دورا مهمّا في مناهضة فكرة المصدر الإلهي للسلطة، تلك الفكرة الّتي (قنّنت) ممارسة المظالم والاستبداد باسم الدين. ويميّز هوبز بين الحرية الطبيعية والحرية المدنيّة. ففي الحالة الأولى يرى أنّ حرّية الفرد مطلقة لا حدود لممارستها إذ أنّ النّاس ولدوا متساوين وأحرارا ولهم حقوق لا يمكن التّنازل عنها فهي (حقوق موجودة لدى كل إنسان بالطبيعة وتتمثل هذه الحقوق في حق البقاء وحق المحافظة على الذات، وحق استخدام كافة الوسائل الضرورية التي تكفل تحقيق هذه الغاية)(26).لكن هذا النّوع من الحرية غير مجد حسب هوبز؛ لأنّه بقدر ما يضمن للفرد الحق في ممارسة الحرية بشكل مطلق بقدر ما يمنح للآخرين الحق في التعدّي على هذه الحرية، لذلك يدعم الحالة الثانية، أي الحرية المدنيّة المحمية بالقانون. واعتقادا منه أنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأنّ نوازع الأفراد أنانية بطبيعتها ميّالة إلى الشر والعدوان، يرى هوبز أنّ السّلطة – معتدلة كانت أم مطلقة - هي وحدها الكفيلة بالوقوف حائلا دون تصادم مصالح الأفراد النّاتجة عن حبّ الذّات والأنانيّة. وأمام هذه السّلطة لا بدّ أن يخضع الفرد إلى ما تمليه الدّولة ولا مفرّ له من التنازل، طوعا أو كرها، عن إرادته وحريته من أجل وحدة المجتمع وأمنه. فطالما كانت الأنانية تمتلك البشر فلا بد من رادع يضمن الطمأنينة لدى الأفراد ويسهر على تحقيق الأمن في المجتمع. ويستلزم هذا الرّادع تأسيس هيئة سياسية تقوم على سلطة واحدة لا تتجزّأ، تكون تحت قيادة أمير من حقّه أن يمارس الاستبداد بحكم ضرورة حماية الفرد من أنانيّته ومن أنانيّة الآخرين المتربصين به. ومن ثمّ يكون تحقيق الأمن مبرّرا لإرساء الحكم الفردي المطلق دون وجود لأيّ من الالتزامات على الحاكم تجاه الأفراد، فيتماهى حينئذ التّسلّط والسّلطة. أمّا جون لوكفإنّه يرىأنّ قدرة الإنسان تمثّل محور حرّيته، إذ (ترتكز الحريّة على قدرة المرء على القيام بفعل ما أو الإمساك عنه) وذلك في إطار قانون يكون الهدف منه تنظيم العلاقات الاجتماعية دون تقييد لحرّيّة الفرد. ولئن كان التنظيم في أحد أوجهه يتطلب تقييدبعض الحريات في سبيل المصلحة العامة، فإنّه يختلف مع هوبز بخصوص إطلاقيّة السّلطة. وهو ما جعل لوك يرى أنّ الحرّية لا تعني أن يفعل الإنسان كلّ ما يريده ويرضاه بل تعني الالتزام بنوع من العقد الاجتماعي يحمي الأفراد من الصّراع النّاتج عن تصادم المصالح. فالحرية ليست سلطة بل هي علاقة اجتماعية. ويكون القانون في هذه الحالة ضامنا لعدم الإعتداء على خصوصيات الفرد فينظر إليه المواطن نظرة عقلانيّة ويتقبّله بشكل طبيعي. وحسب لوك لا وجود للحرية في غياب القانون ولا وجود لدولة قويّة في غياب قوانين معروفة من قبل الجميع حيث لا يعذر جاهلها بجهله أو بتجاهله لها. كما يجب أن تكون هذه القوانين مستقرّة وغير خاضعة للتّغيير بتبدّل الأحوال وبالنزوع إلى الأهواء. وإذا اسوجب الأمر فإنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بالتّأنّي وبطول الوقت؛ لأنّ تغييرها باستمرار لا يمكّن الفرد من استيعابها ومن إدراك حدود حرّيته. وهكذا يمكن القول إنّ حكومة لوك هي حكومة قوانين وليست حكومة أشخاص وهو ما جعله يعتبر القانون مبدأ دستوريّا بمقتضاه تكون السلطة التشريعية -بصفتها سلطة عليا اختارها الشعب- منفصلة عن السلطة التنفيذية. وفي نفس هذا الإطار -أي ارتباط الحرّية بوجود دولة القانون- يرىمونتسكيو أنّ الحرية تتمثّل في قدرة المرء على ان يعمل ما تمليه إرادته لكن وفقا لما تنصّ عليه القوانين العادلة، فإذا عمل الفرد – حاكما كان أو محكوما- بما ينهى عنه هذا القانون، كان لغيره نفس هذا الحق وبذلك تتلاشى الحرية. وهو ما عبّر عنه حين قال بالنظام السياسي الديمقراطي الذي يسمح للأفراد بالقيام بما يريدون في ظل شروط يضعها القانون، فالقوانين هي التي تنظم العلاقات داخل المجتمع وتضمن الحريات، وهذا النمط من الحرية يوجد داخل الحكومات المعتدلة التي تقوم على نظام جمهوري. ولضمان الحرّيات الفرديّة وفقا لم يقتضيه القانون، ركّز مونتسكيو على ضرورة تنظيم السلط، بحيث تراقب السلطة التشريعية السلطة التنفيذية على ألاّ تكون لهذه الأخيرة نفوذا على السلطة القضائية. ورغم أهمية فصل السّلط فإنّ مركزيّة الدّولة الممثلة في الحاكم تؤدّي إلى احتكار هذا الأخير لكلّ السّلط، فإليه يعود وضع القوانين والمعاقبة على الجرائم وإعلان الحرب. وهي تقريبا نفس الفكرة الّتي يدعو إليها فولتير حين أبرز أهميّة وجود مستبدّ مستنير يحرص -منفردا- على الحكم لصالح الشعب دون أن يشترك هذا الأخير في حكم نفسه بنفسه. ولعلّ إيلاء الأهميّة الكبرى للطّبقة البرجوازيّة المتعلّمة وازدراء طبقة الفقراء المؤلّفة من الجهلة هو الّذي جعل فولتير ينظّر إلى احتكار السلطة من قبل حاكم يؤمن بأفكار فلسفية. وترتكز مسألة الحرّية عند جون جاكروسو على مبدأ الحرّيّة الشّخصيّة الّتي تتمثّل في عدم الخضوع لإرادة شخص آخر. وهو ما يفضي إلى إبرام العقد الاجتماعي يبرم يشترك فيه أفراد المجتمع دون تدخّل من الحاكم. وهو ما يؤدّي إلى ظهور (الإرادة العامة) للأمّة التي تصبح مصدر السلطات. لكنّنا نتساءل حول مصداقيّة هذه الإرادة العامّة التي يتمّ باسمها طغيان الأغلبيّة على حساب الأقلّيّة وبالتّالي تتحوّل الحرّيّة الفرديّة إلى مجرّد وهم. ومن خلال عرض هذه الآراء الدّاعية إلى عقد اجتماعي يقوم أساساً على مبدئي ضمان حرية الفرد ومقاومة السلطة المطلقة واستبداد الأمراء والملوك، نلاحظ أنّها استخدمت أحيانا بشكل مغاير يبرّر إقامة أنظمة الحكم الاستبدادي. لكن رغم اختلافها، فإن هذه النظريات يرجع إليها الفضل في معارضتها لمسألة الحق الإلهي الذي استند إليه الملوك والأباطرة في حكمهم شعوب العالم. كما كانت محفزاً وملهماً لكثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والسياسية التي مثّلت بداية اختمار فكرة الدساتير الحديثة كما كانت مصدر إلهام للثّورتين الأمريكية (1776) والفرنسية (1789) ومؤشراً لبداية النّهاية للحكومات المطلقة التي ظلت تهيمن على مقاليد الأمور في أوربا طيلة قرون من الاستبداد إمّا بالاستناد إلى دعم الكنيسة أو بقوة طغيانها المدني وحده. مواثيق حقوق الإنسان بين النّظريّة والتّطبيق تعبر وثيقة (العهد العظيم)، الّتي أصدرها جون هنري الثاني ملك إنجلترا سنة 1215م، من أوائل البيانات الّتي أكّدت على مبدإ سيادة الدستور. فقد لعب هذا (العهد) دورا تنظيميّا يتماشى مع الفضاء الزّماني والمكاني الّذي شهد نشأته إلاّ أنّ الكثير من موادّه كانت مكرّسة لحماية (حقوق) الإقطاعيين ومؤمّنة لامتيازات الكنيسة دون تغيير يذكر في ما يخصّ الحرّيات الفرديّة. وبتقادم عهد هذا (العهد) مع بروز فلسفات العقد الاجتماعي، رفع نواب برلمان إنجلترا للملك سنة 1628م (عريضة الحقوق)، يمكن إجمال محتواها في بعض النقاط الأساسية المرتبطة بالحريات الفردية: احترام الحرية الشخصية وحفظها ومنع التوقيف التعسفي بدون محاكمة والكفّ عن فرض ضرائب إضافيّة تثقل كاهل الفرد. كما عرفت دولة فيرجينيا الأمريكية في 12 يونيو 1776م (إعلان الحقوق) الذي تلاه إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية في 4 يوليو 1776م. وقد أكّد هذا (الإعلان) على الحريات الشخصية والسياسية ومن أهمها المساواة بين المواطنين وإلغاء العقوبات الجسديّة. لكنّ (إعلان حقوق الإنسان والمواطن)، الّذي عرفته فرنسا سنة 1789م، يظلّ أشهر بيان ينادي بوجوب صيانة الحرّيات الفرديّة. فقد تجاوز حدود موطن ولادته كي يتّخذ كمرجع من أهمّ المراجع في مجال الحرّيات والحقوق الفرديّة منها والجماعيّة. فهو نتاج لقناعة مفادها أنّ عدم احترام حقوق الإنسان والتآمر على حرّيته يمثّلان أهمّ مصادر شقاء المجتمعات. كما مثّل هذا الإعلان تأكيدا لأفكار فلاسفة الأنوار الّتي أكّدت بالخصوص على مبدأ الالتزام بالمراقبة الدّائمة لأعمال السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة. لكنّ صدور هذه المواثيق لم يمنع الدّول الّتي رفعت لواءها من استعمار البلدان الضعيفة كما لم تحدّ من التوتّر الّذي ساد العالم منذ بداية القرن العشرين مِمَّا تسبّب في قيام حربين عالميّتين. نتيجة لهاتين الحربين، استقرت أوضاع جديدة شهد معها العالم انهيارا على كل المستويات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيميّة. مِمَّا خلّف لدى الإنسان مشاعر حادة وحيرة كان منبعها ما آلت إليه البشرية من تجاوز لمقتضيات الضمير الإنساني ومن تجاهل لما نصّت عليه اللّوائح والقوانين الدّوليّة. وهوما دفع إلى الشك في كل القيم وإلى استنباط مذاهب جديدة تقوم على التأمل الحادّ. فعلى المستوى الفكري، نذكر انتشار النزعة الوجودية في الأدب، ولعل جون بول سار تر (1905-1980) يعدّ أبعد الوجوديين صوتا في هذا المجال. فقد أعطى هذا الفيلسوف تعريفا للحرّيّة يجعلها متماهية مع ذات الإنسان. فالإنسان، في رأيه، ليس حرا فقط بل هو الحرية نفسها. فالحرية ليست صفة تضاف إلى الطبيعة الإنسانية، وليست خاصية من خصائصها بل هي نسيج الوجود الإنساني. فالفرد قادر على صنع ماهيته حسب إرادته الحرة، دون أن تكون لظروف خارجية أو لأيّة قوة تأثيرا على حريته. لذلك اعتبر أنّ القيم الأخلاقية المتوارثة تمثّل عطالة للفكر باعتبارها لا تكتسي صفة اليقين، ودعا الإنسان إلى التّحرّر منها (حتّى يلقي عن كاهله أوزارا ثقيلة تحول بينه وبين فهم ذاته وتجعله عبدا لما هو خارج عن دائرته)(27). وهكذا عادت إلى السّطح فلسفة موت الإله الّتي يعتبر فريدريك نيتشة (1844-1900) من أهمّ الدّاعين إليها. فهو يرى أنّ حياة الإنسان تصير إرتكاسيّة حين يهيمن عليها التعلق بأوهام تقدم ذاتها في صورة قيم ومثل عليا يتخذها البعض كأقنعة وكمبرّرات للهروب من واقعهم. ويعتبر نيتشة أنّ الدّين أكبر الأوهام المسيطرة على الضّعفاء الّذين لا يستحقّون الشّفقة بل الموت(28). ومحاولة منها لجبر ما دمّرته هاتان الحربان اللّتان كانتا سببا ونتيجة لتجاهل حقوق الإنسان وللازدراء بحرّيته سواء على المستوى الدّاخلي في بلده أو على مستوى العلاقات الدّوليّة، سعت منظّمة الأمم المتّحدة إلى معالجة هذه المسألة على مستوى أمميّ ترجمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصّادر في العاشر من ديسمبر 1948م.ومن أهمّ النّقاط الّتي ركّز عليها هذا الإعلان فيما يخصّ الحرّيّات الفرديّة نذكر: حرّيّة الفكر والتعبير والإعلام والعقيدة وهي حقوق حيوية لا يجوز مصادرتها أو التحكم فيها. بقي أنّ احترام هذه الحقوق مازال في بعض بلدان العالم مطلبا عسير المنال. ذلك أنّ الحريات قد انحصرت عمليا في نطاق المؤسسات التي تمثل شخصية اعتبارية ولم تعنَ بالفرد. ولئن كان ذلك ناتجا عن استبداد بعض الحكومات فإنّ الأمر يبدو غريبا حين تصادر الحريات من قبل نشطاء المجتمع المدني من حقوقيين ورؤساء أحزاب ونقابيين. فتحت اسم صيانة روح المجموعة ونبذ الفردانية، فإنّ الحرّيات الفرديّة ظلّت مغيّبة. ومن نافل القول أن نؤكّد في هذا السّياق على خطورة أدلجة أيّ فكر فلسفي أو سياسي أو عقدي على حرّيّة الفرد. إذ أنّ الأيديوجيا تملي على أتباعها والمنتصرين إليها نمطا سلوكيّا يعطّل العقل عن إدراك الواقع فيصبح الفرد رهين ما يملى عليه. فإذا كان الفكر يقوم على قيمة العقل والحرية ويسعى إلى التنوير والتوعية وتربية الفرد على حرّية الاختيار، فإنّ الأيديولوجيا تعني الانحياز والتمويه والتبرير والبحث عن الأتباع. ففي الأيديولوجيا يسند المرء رأسه إلى مخدّات الحلم مستسلما إلى أصحاب الأمر من المحتكرين لاتّخاذ القرارات عوضا عنه وبالرّغم منه بما أنّ مصلحة المؤسّسة أو الجمعيّة أو الحزب أو النّقابة اقتضت ذلك. وقد سلكت أدلجة الدّين نفس هذا المسلك إذ أعطت الحركات الدّينيّة ذات البعد الأيديولوجي لنفسهـا سلطة مراقبة ضمائر النّاس وعقولهم وبالتّالي (حقّا) على حرّيتهم. وهكذا يظلّ الفرد ضحية للماسك أو المتمسّك بالسلطة – سياسيّة كانت أم نقابيّة - الذي يستعمل سلاح التّخوين لقمع حرية التّفكير وتحت رحمة من يرى في نفسه حاميا للدّين والذي يستعمل سلاح التّكفير رافضا بذلك رفضا تامّا الوظيفة النّقديّة للفكر ومعطيا لنفسه حق البتّ في ما هو مطابق للتّعاليم الإلهيّة وما هو مناف لها.
محسن اسماعيل