السوابق التاريخية في تقرير المسؤولية الجنائية الدولية للفرد
لم يتخذ فقه القانون الدولي موقفاً واحداً من امكانية مساءلة الفرد جنائياً على الصعيد الدولي فقد ظهرت اتجاهات فقهيه عدة.
الاتجاه الاول: ذهب هذا الاتجاه الى ان الدولة وحدها المسؤولية عن الجرائم الدولية، على اعتبار ان المفهوم التقليدي للقانون الدولي يعتبر الدولة الشخص الوحيد للقانون الدولي. وهو مذهب الدفاع في محاكمات نورمبرغ حيث استند في بعض دفوعه الى مسؤولية الدولة عن الجرائم المرتكبة ,ففي قضية محاكمة مجموعة من المتهمين النازيين حين بدأت المحاكمة، صرح جميع المتهمين بأنهم غير مذنبين، وطالب الدفاع عنهم بعدم مساءلتهم جزائيا، وكان مرتكز دفاعهم، هو أن القانون في الحالة الراهنة، يستند على مبدأ مقرر، هو أن الدولة صاحبة السيادة هي وحدها المسؤلة، أما الفرد فإنه لا يمكن أن يكون مسئولا، حسب قواعد القانون الدولي
الاتجاه الثاني: ينادي انصار هذا الاتجاه بالمسؤولية الجنائية المزدوجة لكل من الدولة والفرد لان الدولة والافراد الذين يتصرفون باسمها يتحملون المسؤولية الجنائية عن مخالفات القانون الدولي، والمسؤولية الفردية في ظل القانون الدولي يمكن ان تنشأ نتيجة لارتكاب جريمة بصورة مباشرة أو نتيجة للتحريض على ارتكابها أو لجرائم اقترفها اشخاص خاضعون لسلطة آمره.
الاتجاه الثالث: ذهب هذا الاتجاه الى القول بان الجرائم الدولية لا يمكن ان ترتكب الا من قبل شخص طبيعي وبالتالي هو المحل الوحيد للمسؤولية الجنائية. وقد كرست المعاهدات الدولية مبدأ مسؤولية الفرد امام القانون الدولي الجنائي. ومن ذلك ما نصت عليه المادة (227) من معاهدة فرساي 1919 م التي جعلت امبراطور المانيا غليوم الثاني بصفته الشخصية مسؤولاً عن الجرائم التي ارتكبتها المانيا ولحسابها في الحرب العالمية الاولى.
وقد استند ممثل الادعاء الأمريكي في محكمة نورمبرغ الى هذا الاتجاه حيث قرر بأن (( المتصور بأن الدولة قد ترتكب جرائم هو من قبيل الوهم أو الخيال، فالجرائم ترتكب دائما من الأشخاص الطبيعيين فقط، بينما الصحيح أن يستخدم الوهم أو الخيال في مسؤولية دولة أو مجتمع في سبيل فرض مسؤولية مشتركة أو جماعية ... وأن أيا من المتهمين المحالين للمحاكمة لا يمكنه أن يحتمي خلف أوامر رؤسائه ولا خلف الفقه الذي يعتبر هذه الجرائم (( أعمال دولة )) وأن الأوامر المتلقاة كانت واضحة عدم المشروعية او الأعمال المرتكبة عليها شنيعة ووحشية وأن المقول بها لا يمكن أن تنشئ حتى ظرفا مخففا )) .
كما رد جانب الاتهام على هذه الدفوع، بلسان النائب العام البريطاني شو كروس في مطالعته الختامية، حين بحث مسئولية المتهمين بصورة إنفرادية، فقال إن المبدأ – مبدأ حصر المسئولية في الدولة وعدم مسؤولية المتهمين الأفراد لم يكن مقبولا في القانون الدولي، وذكر بأن هناك جرائم يسأل عنها الأفراد مباشرة، بحسب هذا القانون، كجرائم القرصنة، وكسر طوق الحصار والتجسس وجرائم الحرب . أما بالنسبة للجرائم الواردة في نظام محكمة نورمبرغ، فقال ( لا يوجد مجال آخر يجب التأكيد فيه بأن حقوق الدول وواجباتها هي حقوق الأفراد وواجباتهم أكثر من مجال القانون الدولي وأن هذه الحقوق اذا لم تلزم الفرد، فإنها لا يمكن أن تلزم أحدا ) ثم رد بعد ذلك على نظرية ( عمل الدولة ) فقال إن الزعم الذي يقول بأن الذين ينفذون أعمال الدولة، هو زعم لا يجوز التفكير بقبوله في نطاق إجرام الحرب ونحن نرى أن كل واحد من هؤلاء المتهمين مسؤل شخصيا عن عدد كبير من هذه الجرائم، لذلك يجب استبعاد هذه النظرية، لأنها لم تعد تمثل إلا فائدة أكاديمية نظرية .
ولم تكتف المحكمة برفض نظرية ( عمل الدولة ) بل إنها ذهبت أبعد من ذلك وهو أن الالتزامات الدولية المفروضة على الأفراد، تلغى واجباتهم في الطاعة تجاه حكوماتهم الوطنية . بموجب وكالة عن دولته مادامت الدولة التي أوكلت إليه القيام بهذا العمل، تجاوزت السلطات التي يخولها لها القانون الدولي .
كما نصت المادتان ( 8،6) من لائحة محكمة نورمبرغ والمادتين ( 7،5) من لائحة محكمة طوكيو على ان الافراد هم المسؤولون عن الافعال الاجرامية المنصوص عليها في هاتين الاتفاقيتين.
وقد جاء في احكام محكمة نورمبرغ (( ان الاشخاص الطبيعيين وحدهم الذين يرتكبون الجرائم وليس الكائنات النظرية المجردة ولا يمكن كفالة تنفيذ احترام نصوص القانون الدولي الا بعقاب الافراد الطبيعيين المرتكبين لهذه الجرائم )). ()ويبدو ان الاتجاه الاخير هو الاتجاه السائد في الوقت الحاضر، فلم يعد للمجتمع الدولي ان يغض الطرف عن الجرائم التي تشكل تهديداً لاهم الاسس والركائز التي يقوم ويؤسس بنيانة عليها فليست الدولة وحدها هي التي تتحمل الواجبات بمقتضى القانون الدولي. فالافراد بدورهم طالما خضعوا للمسؤولية المباشرة عن الجرائم الدولية المتمثلة في القرصنة والعبودية ولو ان مسؤوليتهم عنها بموجب النظم القانونية الوطنية لم تثبت في غياب آليات للمسائله الدولية.
وعلى الرغم من الانتقادات الى احكام محكمة نورمبرغ فان قضائها قد رفض هذه الانتقادات واكدت اتجاهها في رفض دفوع بعض المتهمين بان الجرائم المنسوبة اليهم كاتباً باسم الدولة التي ينتمون اليها، ولم ترتكب باسمهم، ولذلك فمسؤولية الدولة جنائياً مقدمة عليهم.
وفي ذلك قالت (( لقد قيل أو أكد بان القانون الدولي يهتم فقط باعمال الدول ذات السيادة، وبالنتجة فإنه لا يفرض عقوبات على الافراد، وبالاضافة الى ذلك عندما يكون ذلك العمل من اعمال السيادة، فإن اولئك الذين يتولون تنفيذه لا يمكن مساءلتهم، وذلك لاحتمائهم تحت نظرية سيادة الدولة، لكن تلك المقولتين في نظر القانون الدولي التزامات بمسؤوليات على عاتق الافراد، كما هي مفروضة على الدول )).
ومنذ ذلك الوقت اعترف القانون الدولي بمسؤولية الفرد عن الافعال التي يرتكبها وتهدد المصالح العالمية الشاملة وتعرض المجتمع الدولي للخطر، واصبحت المسؤولية الجنائية للفرد عن الجريمة الدولية مستقرة، وتعد مبدأ من مبادئ القانون الدولي المعاصر.
وقد اكدت العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية هذا المبدأ، ومن ذلك ما ورد في المادة (29) من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 م والتي نصت على أن (( طرف النزاع الذي يكون تحت سلطته اشخاص محميون مسؤول عن المعاملة التي يلاقونها من ممثلية، بغض النظر عن المسؤولية الشخصية التي من الممكن ان يتعرض لها .
وقد بلغ تطور قواعد المسؤولية الجنائية الفردية في نطاق القانون الدولي الجنائي في العقد الاخير من القرن العشرين حداً كبيراً نتيجة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان وما نجم عنه من ارتكاب جرائم ابادة وضد الانسانية وجرائم الحرب في كل من يوغسلافيا ورواندا، فكانت هناك ضرورة ملحة لتأكيد هذا المبدأ والعمل به، وبالفعل تم النص عليه في النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا لعام 1993م، والمحكمة الدولية لرواندا عام 1994م، حيث اكد النظام الاساسي للمحكمتين المسؤولية الجنائية الفردية للاشخاص الطبيعيين.
منقول